رأي

سامر منصور: الدودة أكلت أجنحة الفراشة!

سامر خالد منصور★

برغم كون الجنس البشريِّ يَدَّعي التيقّظ فهو غافلٌ تماماً عمّا ينتظره ، هذا ما قلته حين كنت أتصدَّرُ مؤتمراً إعلاميَّاً كممثلٍ عن هيئة البحث والتحقيق العلميِّ لاتِّحاد الحياة العاقلة على إثر قرار المجلس الأعلى للاتحاد إطلاق رصاصة الرحمة على الجنس البشريِّ لإنقاذ كوكب الأرض منه. إن اتِّحاد الحياة العاقلة على قناعة تامَّة بأنَّ الجنس البشريَّ سيُفني نفسه بمجرد وصوله إلى درجة معيَّنة من تطوُّر العلوم وأدواتها ، يصبح فيها بمتناول حتى تلك الدول التي تُسمّى بالدول المُتخلِّفة والمنظمات الإرهابيَّة إنتاج أصناف من الأسلحة هائلة القدرة التدميريَّة والتي يصعب جدّاً اعتراضها أو احتواء آثارها. ومن هنا اتُّخذ قرارٌ مع وقف التنفيذ بتطهير كوكب الأرض من الجنس البشريِّ بوصف شذوذه وصل درجة مآلاتها الحتميَّة هي تَحوُّله إلى خليَّةٍ سرطانيَّة غير قابلة للتعافي في جسد الكوكب.

ها هي ذا ذكرياتي القريبة عن ذلك المؤتمر تتلاشى وأنا أرى زرقة الكوكب ” الأرض 17 ” تملأ نافذة مركبتي وأنا في طريقي إلى مهمَّة استطلاعٍ أخيرة كجزء من فريقٍ من الباحثين المنتشرين خفيةً في أنحاء الكوكب، نبحث عن حدث أو أحداث كفيلة بزعزعة نظرتنا السوداويَّة لمستقبل البشريَّة .. نبحث عن أشخاص أو أحداث تثبتُ لنا بأنَّ هناك أملاً ما ، قوَّة ما ، إرادة ما لا تقهر ، يمكنها إحداث تغيير كبير في احتمالات مآلات الأمور ، كذلك الذي ذكره البشر في موروثهم تحت عناوين “سِير الأنبياء وكبار المناضلين”. حينها يمكننا الطعن بقرار المجلس الأعلى لاتِّحاد الحياة العاقلة وتجميده أو حتى إلغاؤه . هذا الصباح هو آخر إشراقة للشمس على الجنس البشريِّ كسيدٍ لهذا الكوكب، فالإبادة ستبدأ مع مغيب الشَمس.

إنَّ أكثر ما تسمعه من ذلك الكوكب هو الزعيق الذي يواكب عادة لدى بقيَّة الكائنات مواسم التزاوج واستعراض الفحولة فقط ، بينما جلُّ ما تبثُّه قنوات البشر وجلُّ ما تراه عبر مواقع التواصل الاجتماعيِّ ما هو في حقيقته إلّا تجمُّلٌ واستعراض وإغواء بشكلٍ أو بآخر على مدار العام.

الآن وأنا أقف وسط إحدى كبُرى المُدن البشريَّة أشعر برهبة غريبة ، لقد شاهدت مئات من الأفلام الوثائقيَّة والتجسيدات والاسقاطات الضوئيَّة للمدن البشريَّة ، لكن أن أقف وسط المدينة أتلقّى بكلِّ حواسِّي ومن كلِّ اتِّجاه وبحواس الجسد البشريِّ الذي هبطت متخفّياً فيه .. أتلقَّى كلَّ تلك الأصوات والأشكال والروائح .. إلى آخر ما هناك ، فلهذا وقعٌ في النفس لا يمكن وصفه.

من النادر أن تجد كلَّ هذا الاكتظاظ وهذا الصخب وكلَّ تلك الحركة في مدن الكون الأخرى ، أصوات أقدامٍ تخطو في كلِّ اتِّجاه وأصوات أبواق السيَّارات ومحركاتها وأصوات المصاعد التي تهبط وتصعد في الأبنية الضخمة وهديرُ طائراتٍ تجوب سماء أطراف المدينة وموسيقا الإعلانات وشارات المسلسلات من أجهزة التلفزة والأجهزة اللوحيَّة المنتشرة في كلِّ مكان وهُتافٌ صاخب من ملعب كرة قدمٍ قريب ، وكلُّ ذلك التنوّع فيما يخصُّ الروائح والمشاهد أيضاً ، كلُّ هذا كان يشعرني أنَّ الكوكب مُشبعٌ بالحياة . كان معظم السائرين هنا يحثّون الخُطا .. مجرد هذا المنظر يجعلك تقول بينك وبين نفسك إنَّ الأرض كوكب النشاط والعمل ، وأنّى يتمُّ التدبير لإبادة مثل هذه الكائنات ؟! لست وحدي المتخفّي بهيئة بشريَّة هنا ، فأنا أستطيع أن أميِّز في كلِّ بضعة شوارع رئيسة واحداً أو اثنين من فريق التخطيط المتخصِّص بالمراجعة الأخيرة لخطَّة إبادة البشريَّة بأقل الأضرار والخسائر لسائر مخلوقات الكوكب ومكوناته.

كتفاي اصطدما أكثر من مرَّة بأكتاف الآخرين، فأنا لست مُعتاداً على مثل هذا الاكتظاظ ، والآن طلبت إلى كمبيوتري الفائق المزروع على هيئة شريحة صغيرة في رأسي ، أن يزودني بمشاهد تلخِّص أبرز أنشطة حياة أيِّ شخصٍ ألامسه . إن اتِّحاد الكائنات العاقلة كان يراقب البشر لعقدين من الزمن الأرضي لهذا الكوكب، يُراقب كلَّ شيء ويمتلك أرشيفاً هائلاً لا يمكن للبشر تصوُّر وسائل تحصيله خاصَّة وأنَّ حواسهم لا تتجاوز أبعاداً محدودة من أبعاد الكون، وكما أنَّ تسجيل صوت وحركة ، وتحديد مكان رَجُلٍ ما ، أيام السيوف والخيل عبر قطعة بلاستيكيَّة بحجم كفِّ اليد هي الهاتف المحمول، لها قطعة زجاجيَّة صغيرة مدوَّرة هي كاميرا، كان مسألة لا يمكن شرحها أو إفهامها لإنسان ذلك العصر ، كذلك مراقبتنا ورصدنا لمئات ملايين الحيوات البشريَّة مسألة لا يمكن للبشر الآن إدراكها، أو معرفة كيفيَّة حدوثها. ما سأركِّز على البحث فيه هو حيوات البشر في مرحلة الشباب مرحلة ذروة النشاط والحركة والتعلّم.

ها هو ذا رجلٌ أنيق يغادر سيّارته الفارهة ويسيرُ واثق الخطوة باشَّ الوجه ، يسير ببدلة ” التوكسيدو ” الأنيقة بقربي وهو يحمل حقيبة من نوع ” سامسونايت ” متَّجهاً إلى مبنى طويلٍ مميَّزٍ بلوريِّ الواجهات.. وها أنا أتعمَّد جعل ذراعي تلامسُ ذراعه كي أرى أبرز سلوكيّاته.

ذلك الرجل صاحب البدلة الأنيقة ، كان شاباً وسيماً يدرس في المرحلة الثانويَّة انجذب إلى فتاة جميلة لكنَّه لم يمتلك الجرأة للحديث معها وعندما عقد عزمه على فعل ذلك رأى أنها أضحت مع شابٍّ أكبر منهما ببضعة أعوام، لديه سيّارة جميلة وهي تُمضي معه أوقاتاً سعيدة .

إنَّه يدرس الآن ويجتهد ، وقد أضحى لديه حبيبة لكنه يشعر بالتوتر كلَّما رأى شابّاً آخر أنيقاً لديه سيَّارة جميلة أو “فيلّا” فخمة أو دراجة ناريَّة جذّابة باهظة التكلفة. إنَّه يدرس أكثر وأكثر ، لا يريد أن يخسر فتاته لصالح آخرين كما خسر من سبقتها ، الآن لديه عملٌ مُهمٌّ في شركةٍ كُبرى ، لديه أموالٌ كثيرة وكلُّ ما يتمنَّى . أضحى لديه سريرٌ جديدٌ أكثر اتساعاً ، فتاة أجمل وأذكى من حبيبته تتقرَّب منه ، فتاة لم يعتقد يوماً أنَّ مثلها يمكن أن ترضى حتى بمجرد الحديث المتكرِّر معه ، لم تعد حبيبته تعني له شيئاً ، وها هو يُبعدها محاولاً عدم أذيَّة مشاعرها خلال ذلك.

كلَّ يوم يتأنَّق , ينزل إلى سيّارته يركبها ويصعد إلى عمله ثم يعود إلى منزله يأكل ينام قليلاً ثم يستحم ويجتهد محاولاً التأنُّق أكثر ويذهب للقاء فتاةٍ جميلة.. ثم ما يلبث أن يُحضرها بعد بضعة لقاءات إلى سريره.

سريرهُ يزداد اتساعاً وفخامةً وكذلك الثياب النسائيَّة المُبعثرة عند جانبيه ، جسده لم يعد مُغطى بآثار أحمر شفاهٍ رخيص ، فراش سريره الآن مُغطَّى بروائح أجمل العطور النسائيَّة الغالية.

وها هو ذا شابٌ في العقد الثالث من العمر يحملُ جيتاراً في حقيبة على ظهره .. يا للهول ! آلاف المشاهد تدهمني لحيوات هؤلاء العابرين ، إنَّها ذات القصَّة ، كم هذا مرعب ! كلُّ هؤلاء وكلُّ تلك الحركة و القصة نفسها ! .. اجتهاد ، عمل ، أشياء جميلة تجذب فتيات أجمل مع الوقت ثم اهتزازٌ في السرير ، ثم فشلٌ في تحصيل الأشياء الجديدة البهيَّة في بعض الأحيان ثم فشلٌ في إرضاء الفتيات والنساء ، أسابيع من البؤس والسُكر والتقيُّؤ ، ثم عودة إلى العمل والكدح واقتناء بعض الأشياء الجديدة الجميلة ثم فتيات يتناوبن على السرير .

لا شيء مُختلف ! يا لهول الموات الذي يعيشه هذا الكوكب ، كلُّ هذه الحركة والمشاهدُ تكاد تكون واحدة ؟! يا لعبثيَّة وسطحيَّة هذه الحركة وتلك الكائنات ، ما هذه النمطيَّة الخانقة والازدحام غير المُبرَّر؟

أيعقل أنَّ عقولهم خذلتهم لدرجة لا يدركون فيها نمطيَّتهم ؟! لن أدوِّن في تقريري جميع المشاهدات يكفي أن أعطي بعض الأمثلة.. ذلك الشاب الذي يحملُ جيتاراً إنَّه لا يجرؤ على الحديث إلى الفتيات ليس واثقاً من شكله ، يخشى أن يقع في وهم انجذاب فتاة إليه ليكتشف لاحقاً أنَّه كان مُجرَّد صديقٍ بالنسبة لها كما حدث معه سابقاً وأنَّه لا يمكن أن يُنظرَ إليه كحبيب.

إنَّه لا يمتلك شخصيَّة مرحة واثقة ، إنَّه لا يُجيدُ فنون الكلام ، ليس لديه مال يستطيع أن يشتري به أشياء جميلة ، لا صبر لديه لكي يذهب إلى نادٍ رياضيٍّ ليحوز بالتمرين المتواصل جسداً جذّاباً . لكنه لاحظ شاباً تنجذب الفتيات إليه ببساطة ، إن له صوتاً عذباً وهو يُجيدُ الغناء ، بمجرد أن يفتح فمه يتجمَّع عشرات طلاب الجامعة وطالباتها حوله ، الجميع ينظر إلى ذلك الشاب المغنّي نظرةً يتمنّى أن تُنظر إليه . جرَّب في المنزل أمام المرآة ، صوته ليس جميلاً وليس يجيدُ الغناء وفمه وأنفه الكبيران يجعلانه مُضحكاً عندما يحاول ذلك . ألقى بجسده على سريره الخاوي ذي الملاءات القديمة .. ثم قرَّر أخذ دروسٍ في الموسيقا ، إنَّه يريد أن يصبح عازف جيتارٍ محترف .. عامٌ ونصف فقط وقد تمكَّن من ذلك ، وها هو الآن أينما جلس وبدأ العزف يجتمع الناس حوله وفي أيِّ وقت وفي أيِّ مكان ، كما لو أنَّه واحة في صحراء .. بعض الفتيات اللاتي كنَّ يَمُرُّرنَ به وكأنَّه امتدادٌ للخواء وكأنَّه لا شيء، لا وجود له ، هنَّ الآن ينظرن إليه ويُحاولن الغناء مع ألحانه، وبعض الحسناوات يُملنَ رؤوسهنَّ وهنَّ ينظرن إليه نظراتٍ شغوفه. إنه الآن يمتلك مغناطيساً سحريَّاً لجذب الجميع ، حتى أنَّه أضحى يمتلك أصدقاءً أكثر من الذكور، أفضل من أصدقائه السابقين ، أضحى يتلقى دعواتٍ إلى حفلات بهيجة وسهراتٍ جميلة ، هو الآن مُضاءٌ بفنِّه وارفُ الحضور وسريره يَهتزُّ والأحذية النسائيَّة التي كانت تُخلعُ عند حافة سريره، تلك الأحذية الرخيصة القديمة التي بالكاد يمكن تمييز أنَّها نسائيَّة ، أضحت مع مرور الزمن أحذية نسائيَّة جميلة أنيقة مُنسابة القالب بعضها له كعبٌ دقيقٌ عالٍ ، وجُلها أضحت من تلك التي تشي برشاقة من يرتديها .. وها هو يخرج مجدَّداً بعد عمله المُتعب نحو حديقة جديدة ليعزف هناك عسى يحطُّ حذاءٌ نسائيٌّ جديد رحالهُ عند حافة سريره.

لم أجد حتى الآن رجلاً أو فتاةً إلّا وجُلُّ المرَّات التي خطا فيها خارج بيته ، كانت خطواته من أجل جمع المال أو منفعة مشابهة بهدف تحصيل أشياءٍ أكثر بهاءً وفخامة من شأنها أن ترفع مكانة صاحبها في أعين الناس وبالتالي تيسِّر له علاقاتٍ مع مستوىً أعلى .

المشكلة أنَّ كبار مُجرمي الحرب وكبار زعماء المافيات والمحتالين وصناع وسدنة الوعي الزائف من سياسيِّين وإعلاميِّين وغيرهم ، عبر العصور يُعتبرون جزءاً رئيساً ممّا يسميه البشر الطبقة العُليا أو الطبقة المخمليَّة ! 

شعرت بألمٍ في وسط جسدي البشريِّ من الأمام وأبلغني كمبيوتري الخاصُّ الموصول إلى دماغي بأنَّ عليَّ أن آكل بعض الطعام لأزيل ذلك الألم المُسمّى جوعاً .. نحن في حضاراتنا، لفرط ما لدينا من علوم وآلات لم نعد نستخدم المال ، ببساطة نُظم إدارة مجتمعاتنا تؤمِّنُ لنا كلَّ شيء ما دمنا منضبطين في أداء بعض المهام القليلة الموكلة إلينا ، ومنضبطين في تعاملاتنا مع الآخرين. وبإمكاننا طلب أيُّ شيء منها مقابل مهام إضافيَّة توكل إلينا وكفاءة نثبتها لهم في تأدية تلك المهام ، أما الجوع فنحن لا نجوع إلا عندما ندرس هذا الأمر في سنٍّ مُبكرة فيجعلنا المعلِّمون نمتنع عن أخذ حبوب الغذاء والأطعمة وسوائله لعدَّة أيام بتوقيت كوكبنا وهي تعادل أسابيعَ بتوقيت هذا الكوكب، حتى نختبر هذا الشعور ونفهم أجسادنا أكثر.

اشتريت شطيرة وما إن وصلت إلى منتصفها حتى دنا منِّي ذلك الكائن المُسمّى بالكلب وأخذ يُعبِّرُ بنظراته وبعض أصواته عن رغبته بالأكل فأطعمته بقيَّة الشطيرة وجراء ملامستي له قام كمبيوتري الشخصي بإحالتي إلى مشاهد من حياته ، ربَّما سُجلت خلال تسجيل مشاهد من حياة مُتشردٍ ما يعيش في ذات الموقع الذي يعيش فيه ذلك الكلب.

كانت ليلةً باردة ماطرة ، كان الكلب مُختبئاً تحت مقطورة خشبيَّة مُهترئة ، وفجأة دخلت إلى منطقة المقطورات كلبةٌ هزيلة شاحبة تتلفَّت حولها بخوفٍ واضطراب ، وما لبثت أن سارعت إلى الاختباء تحت إحدى المقطورات القديمة البالية المنتشرة هنا وهناك. ولكنَّها لم تكن الوافد الوحيد ، حيث كان هناك كلبٌ شَبقٌ في إثرها سرعان ما وجدها وحاول أن يفرغ شهوته الجامحة فيها لكنَّها كانت متعبة جائعة ولم تُرد ذلك ، ممّا جعله يسعى لإرغامها عبر عضها بوحشيَّة ، كانت الكلبة أوهن من أن تقاومه ومن أن تواكبه في مُراده، فظلَّت مُلتصقةً بالأرض تئنُّ وتصفرُ ذلك الصفير الحزين الذي يُعبِّر عن الانكسار وتنبحُ تلك النَبَحات الضعيفة الأشبه بنُباح الجراء، لكنَّ الكلب الشَبق بدا مُستعداً لتمزيقها ونيل مُراده منها حتى لو كانت جثَّةً هامدة. فجأة وثب الكلبُ الشارد وخاض عِراكاً طويلاً مَريراً مع ذلك الكلب ، حتى تمكن من إبعاده ، ثم سارع يلعقُ جراح تلك الأنثى حتى قبل أن يلعق جراحهُ ، وسرعان ما ذهب يبحث عمّا يَسدُّ رمقها تحت الأمطار الغزيرة وقد وُفِقَ في بحثه خلال وقتٍ وجيز ، وظلَّ هذا الكلب يحمي الكلبة ويطعمها ويلعق جراحها أياماً وأياماً دون حتى أن يحاول مُجامعتها ، وبعد أن تعافت الكلبة واستردت شيئاً من صحتها أخذت هي تتودَّد إليه.

العجيب في الأمر أنَّ هذه المشاهد التي شاهدتها مصادفةً كانت أكثر ما داعب عاطفتي، أكثر من كلِّ ما شاهدته من حيوات البشر في هذه المدينة حتى الآن ، وأنا أعلم أنَّ هناك أناساً مُحسنين يفعلون كما فعل الكلب تجاه الآخرين ، ولكنَّني لا أعلم إن كان هناك قصة عاشها رجلٌ مع امرأة أو العكس أفضل من هذه القصَّة.

وبالتالي لماذا علينا السماح للجنس البشريِّ بالبقاء والاستمرار ؟ ، ذلك الجنس الذي تسبَّب بانقراض عديدٍ من الأجناس ويهدِّدُ الأنظمة البيئيَّة للكوكب أي يُهدِّدُ جميع أشكال الحياة فيه تقريباً ، إن كانت معظم قصصه ليست حتى جيِّدة كقصَّة هذا الكلب؟ رغم أنَّ الجنس البشريَّ ينتمي إلى أشكال الحياة العاقلة وهي درجة من المُفترض أنها مُتطوِّرة بمراحل كثيرة جدّاً عن بقيَّة أشكال الحياة.

ظللتُ شارد الذهن أفكِّر فيما شاهدته حتى زلَّت قدمي عن حافة الرصيف المبتلة وسقطت أرضاً بشكلٍ جانبي باتِّجاه الشارع خلال مرور حافلة مسرعة لم يكن يفصل عجلتها عن رأسي سوى رُبع متر تقريباً، فسارع كمبيوتري الشخصي إلى إرسال رسالة إلى أقرب ضابط من ضباط عملية الإبادة بعد أن رصد تبدلات النشاط الهرمونيِّ ومعدلات ضربات القلب في جسدي البشريِّ مُعتبراً أنَّني ربَّما أحتاج إلى مساعدة. لكن سرعان ما تراجع الأدرنالين وعادت نبضات قلبي إلى الانتظام وامتدت أيادٍ لثلاثةٍ من المارَّة تعينني على النهوض . وقد قام كمبيوتري كما هو مطلوبٌ منه بجعل مشاهد من حياتهم تدهمني بمجرد ملامستهم لي .. لقد استغرقت رؤية مشاهد من حيوات ثلاثة أشخاص ثلاث دقائق تقريباً والمفاجأة كانت فيما شاهدته عن الشخص الثالث آخر مَن وصل لمساعدتي على النهوض ، كانوا قد انصرفوا جميعاً وكنت جامداً كالتمثال، وقبالتي ضباط الاتِّحاد يسألني عن أحوالي ، لقد عقدت مُشاهداتي لساني البشري وأجهضت ملافظي كلَّها ، وبالكاد استطعت بلغة الإشارة التعبير له أنَّني بخير . ثم سارعت إلى الالتفات مُقلِّباً ناظريَّ بين الناس باحثاً عن ذلك الشاب الذي كان قد ابتعد وشرع يركب سيّارة أجرة . ودون تردُّد أخذتُ أعدو باتِّجاهه ثم خلف السيّارة ، وحين شعرت أنَّني لن أدركه طلبت من كمبيوتري المزروع في رأسي أن يرشدني إلى أقصر الطرق عبر الأزقة وما شابه لأتمكَّن من اللحاق بالسيّارة ، خاصَّة أنَّ الشوارع مزدحمة ، لذا على الأرجح لن تتمكن السيّارة من الإسراع في مسيرها . ظللتُ أركض وأركض وسط دهشة المارَّة وأخذت أثب فوق ما يعترضني، وقد نجحت في جعل جسدي البشريِّ الشابِّ يؤدّي بأقصى طاقته ، ثم دخلت الأزقة واحداً تلوَ الآخر مُختصراً المسافات وما لبثتُ أن شعرت أنني صَدَمتُ دون قصدٍ منّي كتِفَ شابٍّ كان يقف مع أربعة شبّانٍ آخرين ، وقد أخبرني كمبيوتري أنَّ الشبُّان الخمسة شرعوا في مطاردتي وعلامات الاستياء تبدو عليهم. وأخبرني أنَّه أرسل إشارة إلى ضابط الاتِّحاد كي يأتي تحسُّباً ، خاصَّةً وأنني تجاوزتُ الوقت المسموح لي على سطح هذا الكوكب ، حيث أنَّ عمليَّة الإبادة ستتمُّ بعد ساعة ونصف فقط بتوقيت هذا الكوكب .. لم أكن أصغي جيِّداً لما يخبرني به كمبيوتري ، كنت شارد الذهن فيما رأيته حول ذلك الشاب ، إن ما رأيته من حياة ذلك الشاب له معنىً كبير ، إنَّه الإجابة على كثيرٍ من أسئلتنا ، ومن كان يتخيَّل أن أجد إجابات أسئلةٍ كبرى هنا في عالم البشر ، تلك الكائنات العاقلة المُتطرِّفة الغريبة .

من حسن حظِّي أنَّ المكان الذي يقصده ذلك الشابُّ كان قريباً ، شاهدته من بعيد يغادر سيارة الأجرة ويدخل في زقاقٍ متَّجهاً نحو باب منزله ، سمع صوت خطواتي ولهاثي وأنا أتَّجه نحوه فتلفَّتَ حوله ولم يجد أحداً فتيقَّنَ أنَّني أقصده هو . توقَّفتُ وقد هدَّني التعب حدَّ أنَّ الرؤية والسمع أضحيا مشوشين إلى حدٍّ ما ، ترك مفاتيحه في فتحة الباب وحدَّق بي ، لم أرده أن يسارع إليَّ بأسئلته فقد كنت تَعباً لا أقوى حتى على النطق ، كنت أحتاج دقيقة من الراحة ، لكنَّه فجأة ركض باتِّجاهي وعانقني والتفَّ بي ، حدقتُ في عينيه فوجدت حَدقتيه تتسعان وشيئاً من الملامح الغريبة تظهر على وجهه بينما هو يحاول أن يواريها. حاولت التركيز كي أفهم ما حدث فوجدت أحد الشبَّان الذين كانوا يطاردونني وراءه مباشرةً، والارتباك بادٍ عليه ثم ما لبث الشبَّان أن هربوا بينما ارتخى جسده بين ذراعيَّ فأودعته الأرض ولاحظت سكيناً استقرت في قلبه من جهة الظهر ، عرفتُ حينها أنَّه قد أنقذ توَّاً حياتي – كما يعتقد – من طعنة ذلك الغادر ، لقد هالهُ أن يرى شاباً غافلاً يقصدهُ لسببٍ ما ، يوشك أن يتعرض للطعن فبادر دون تردُّد إلى افتدائي بنفسه ، أخبرني كمبيوتري أنَّ الشاب القاتل هو تاجر كوكائين ، و أنَّني عندما اصطدمت به دون قصد خلال عَدوي ، كان يمسك بكيسٍ مفتوح فيه كمية من الكوكائين كي يوزعها على بقيَّة الشبَّان ليبيعوها ، وأنَّ اصطدامي به تسبَّب بسقوطها من يده في بركة ماءٍ آسنٍ صغيرة ، ممّا أثار سخطه العارم وجعله هو ورفاقه يطاردونني.

كم هي جميلة سماء هذا الكوكب وهي منعكسة على مُقلتي هذا الشاب ، ملامحه كانت أقرب إلى الحياد منها إلى أي شيءٍ آخر ، لشدَّة نبله لم يُرد أن أحتفظ في ذاكرتي بصورة وجهه المتألِّم من أجلي ، كي لا ألوم نفسي لاحقاً لتوريطه .. نجح في مفارقة الحياة بوجهٍ لا يظهر ملامح الألم ، لكن هناك مسحة حزنٍ ضئيلة تظهر في عينيه لم يستطع مواراتها .. حزنٌ من درجة الوحشيَّة والغدر التي وصل إليها أبناءُ جنسه. 

وصل ضابط الاتِّحاد لاهثاً وسألني: لماذا لم تغادر الكوكب حتى الآن؟! ومن هؤلاء الهاربون الذين كانوا في إثرك ؟ 

فأجبته: أولئك ، إنهم نمطيّون.

ثم سألني ومن هذا الشاب الميِّت بين ذراعيك؟

فقلت بيني وبين نفسي : لا أدري بماذا أجيبك .. إنَّه صانع الصيرورة ، إنَّه جزءٌ من جهاز المناعة ضدَّ الشذوذ البشريِّ ، إنَّه الأكبر من ذاته المُفردة ، إنَّه حامل المعنى ، إنَّه دليلٌ على أنَّ لنا جميعاً خالقاً واحداً. ( قلت بصوتٍ جهوريٍّ ) : إنَّه أمل البشريَّة في النجاة خلال فرصتها الأخيرة ، ومع الأسف ، قتله النمطيُّون !


★ناقد ـ فلسطين.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى