مسرح

محمد عبد الوارث: “سوء تفاهم”.. عبثية الوجود في قبو الحياة.

محمد  عبد الوارث★

كتب “كامو” ذات مرة :(إنَّ شقاء البشر يتولد عن عدم اتخاذهم لغة بسيطة، لو أنَّ بطل «سوء تفاهم» قال: أنا ابنك، لكان الحوار ممكنًا، ولما كانت المأساة، مادامت قمة كل مأساة تكمن فى صميم فكرة البطل، ففى الواقع المأساة دائمًا سوء تفاهم بالمعنى الحقيقى للكلمة)، هكذا كتب ” كامو ” وهكذا قامت فلسفته ، لقد وقع كامو في مرحلة وسطى بين الوجودية والعبثية ، نراه في سيزيف يعاني بطله من الدائرة المفرغة واللانهائية وفي كاليجولا يعاني بطله من محاولة التخلص من كل ما يعيقه تجاه حريته الشخصية وهو ما قررت المخرجة ساندرا سامح تقديمه على قاعة قصر ثقافة روض الفرج ضمن المهرجان الختامي لنوادي المسرح، جاءت الحرب العالمية الثانية ، تلك الحرب التي صدمت كل شخص في هذه الحياة وخصوصاً هؤلاء الذين يحملون هماً كانت تلك الأزمة أن الإنسان صنع بنفسه أزمته ، ومع كل تطور ازداد الإنسان في تشويه عالمه فبدأ كتاب العبث في مهاجمة اللغة والبحث عن شكل وقالب يناسب عبث هذه الحياة ، وربما كانت تلك هى النكتة الأشهر ولقد وعا كامو لذلك وكتب “سوء تفاهم “كتب كامو مسرحيته 1943 م عن تلك العائلة المكونة من أم وابنتها في أحد الفنادق الخاصة بهم في أطراف مدينة ومعهم خادم أخرس ولديها ابن غائب منذ خمسة وعشرين عاماً ذلك الإبن العائد مع زوجته وابنه ورغم تحذيرات الزوجة التي لا يعيرها الابن أي اهتمام قرر أن يمزح مع عائلته العائد إليها وهو أن يتعامل كنزيل في هذا الفندق ولا يعلمهم بهويته الحقيقية وهو لا يعرف أن الأم والإبنة يجعلان الفندق ستاراً لقتل النزلاء الأغنياء حتى يجمعوا أموالاً تتيح لهم ترك ذلك المكان والهرب منه ، تلك اللعبة التي قرر الابن أن يلعبها كان هو ضحيتها ، فلقد قتلته الأم والابنة وبعد قتله يكتشفان هويته الحقيقية ليعلما حجم المأساة التي وقع فيها فتنتحر الأم وتلقي بنفسها من أعلى الجبل ويحقق كامو هدفه وهو حجم المأساة الذي خرج من رحم العبث واللعبة .

بين النص ولعبة الدراماتورج والإخراج

حاولت المخرجة والدراماتورج ” ساندرا سامح ” أن تتشابك مع نص “ألبير كامو ” فقامت بحذف دور الزوجة وزيارة الابن الأولى وبدأت التركيز على مشاعر الأم والابنة من خلال جلوس كلا منهن في جهة تبرز مشاعرهن ، ويتحدثان عن زيارة الابن الأولى ويتحدثان عنه كزبون فهم لم يتعرفا عليه وتدبير خطتهما ليقتلاه ويحصلا على النقود وحين تحاول الأم التراجع تخبرها ابنتها أنهما يجب أن يفعلا ذلك حتى يذهبوا إلى هناك ، هناك حيث لا برد ولا صقيع ولا ظلمة كتلك التي تتواجد في قريتهما حول الفندق ، تلك المواجهة الأولى تفسر لنا ماذا تريد ساندرا ؟ إنها توضح لنا في حقيقة واضحة مدى تحول الابنة لشخصية قوية باردة كتلك التي كانت عليها الأم ، وبعد هذه السنين الأم تريد أن تتحول إلى مشاعر دافئة ولكن الوقت فات فقد أصبح هناك شخصية قوية مثلها تتطبعت بطباعها وهي ” مارتا ” الابنة “ويبدو أن ” ساندرا ” قد قامت بالمذاكرة لمدرسة العبث وتقنياتها ويتضح ذلك من بداية العرض على مستوى لغة الاثنين

مارتا : هناك

الأم : هناك

مارتا : في مكان آخر من العالم

الأم : عند الشاطئ

هنا قد يبدو لنا الحوار منفصلاً عن بعضه البعض ولكنه يبرز حقيقة هامة ، وهي أن الأم أصبحت تدرك مفهوم الحياة فهي التي تخبرنا عن أماكن الأشياء وجودتها وانطباعها عنه أما مارتا فهي بالنسبة إليها مشاعر باردة فكل الأماكن متشابهة كلها أماكن أخرى في العالم.

لقد قامت ساندرا بحذف ثلاث مناطق من النص الأصلي ، أول تلك المناطق هي زوجة ” الابن جان ” وحذفت الشخصية برمتها وثاني المناطق هي زيارة ” جان ” الأولى للفندق ولهذا بدأت حدثها من زيارة جان الثانية والمنطقة الثالثة هي نهاية العرض فبدلاً من القاء الأم ومارتا لجثة الابن في النهر العطب جعلت القتل يدم في غرفة الفندق وبدلاً من القاء الأم لنفسها في النهر وراء ابنها أصيبت بدمة قلبية وهي تحضن ابنها تلك الإختزالات جعلت رؤية “ساندرا” كمخرجة للعرض أوضح لأنها جعلت عملية التركيز على الشخصيات التي أمامنها وملاحظتنا لمدى التعبير عن مشاعرهم ولقد وفقت في ذلك وخصوصاً أنها اشتبكت مع النص الأصلي دون أن تضيف شيئاً بقلمها بل اعتمدت على إعادة التصور لمفردات النص الأصلي .

وكان من الذكاء الحفاظ على شخصية الخادم الأخرس والذي كان كمرأة لمشاعر الأم ومارتا وهو يحمل قفصاً طوال الوقت ولكنه قفصاً دون عصفور ويحافظ عليه وكأن ذلك القفص هو ما يحميه وفي نفس الوقت يعطي رمزياً لذلك البيت.

الصورة البصرية وفراغات الحياة

قررت ساندرا سامح مع مهندس الديكور ” السيد حسين ” وضع المتلقي داخل الحالة الشعورية للعرض فجلس الجمهور على كراسي داخل ريسبشن الفندق يحاوطهم تفاصيل المكان من جرامافون ومدفئة ومنضدات ويقابلهم مكتب الريسبشن الذي تقف فيه ” مارتا ” أغلب الوقت، ولكن الأمر الأهم هو جدران هذا البيت، والتي تكونت من “شاسيهات مفرغة يمكن من خلالها فهم كيفية تصدع المنزل والفراغ الذي تعاني منه الشخصيات طوال العرض مما يتيح للمتلقي رؤية حجرات النوم أيضاً وهو ما يوضحه مشهد ” الأم ” و ” جان ” فكلا منهما في غرفته يتحدث عن حالة الخواء التي يعاني منها كلا منهما ولكنه خواء واضح وظاهر “للعلن / المتلقي ” بما تعانيه شخصيات العرض كما أن تلك الشاسيهات تحاوط المتلقي وكأنه داخل الخواء ، الخواء الذي يملأ العالم أثره ، ويبدو أن ساندرا قد وجدت في أثناء تحضيرها لرؤيتها ، ولتكن دلالة الفراغ داخل المنظر المسرحي هو الفراغ الذي تعاني منه شخصية” مارتا ” وشخصية “الأم” وشخصية ” الابن ” كلٌ على مستواه النفسي فمارتا تشبه في نفسيتها النزل بأكمله ، فلقد كان جميلاً في بدايته كبدايةحياة مارتا ومع الوقت بدأ جدرانه في التجلط والسقوط ويصبح مليئاً، بالفراغات كمارتا التي أصبحت هيكلاً حياً دون مشاعر فمشاعرها تجلطت وأصبحت فارغة .

وكذلك الأم التي حنت إلى مشاعرها السابقة التي كانت دافئة فتلجأ دائماً إلى المدفأة لتعطي دفئاً إلى نفسها وإلى مشاعرها ولكن هيهات الدفء يصل إلى مشاعر قد يبست كالبيت وأصبح خواء .

أما الفتى ” جان ” فهو عائد من الغربة يعاني ويلاتها ويشعر بالفراغ، وعاد إلى بيته ليشعر بحنين الأسرة ولكن الأسرة لا تعرفه ولا تعرف شكله والمنزل وجده خرباً ورأى نفسه غريباً كذلك البيت بجدرانه الفارغة وأفراده الغريبة .

يحاوط كل تلك الصورة مقولة ليتر بروك تذكرتها أثناء رؤيتي للعمل.

يقول بيتر بروك :

” إن (المساحة الفارغة) تجعل من الممكن لظاهرة جديدة أن تظهر للحياة وأنه يستطيع أن يأخذ أية مساحة فارغة ويطلق عليها خشبة مسرح جرداء، وبذلك تصبح كل بلاد العالم قادرة أن يكون لديها كل ما يحتاجون إليها لإنشاء مسرح ” .

وهو ما طبقته ” ساندرا سامح ” كمخرجة فالعرض عرض ضمن نتاج نوادي المسرح بالهيئة العامة لقصور الثقافة وفلسفة هذه النوادي هي التجريب ولهذا فلم يكن غريباً أن تختار ساندرا قبواً لأحد قصور الثقافة لتقوم بتهئة مساحة القبو للقيام بالعرض وهو ما أعطى المتلقي إحساساً خانقاً يشبه الجو النفسي للعرض .

كما لعبت الإضاءة التأكيد على ذلك الجو النفسي لمأساة هذه الأسرة فما بين إضاءة ذاتية من داخل المدفأة وإضاءة حجرتي الغرفة وبين إضاءة صناعية من داخل القبو صاحبتها ألوان رمادية وقاتمة بين الأرق للون البحر خلف الفندق جعلت الجو النفسي لمأساة الأسرة يكن لها تأثير خاص على المتلقي .

وكذلك بعض التفاصيل الخاصة بمدرسة العبث مثل المبالغة في استخدام بعض الإكسسوارات كتلك الحبال التي يصنع منها الصوف في عمليات التريكو النسائية تلك الحبال بدات من عند الأم كقطع صغيرة ومع الانتهاك النفسي بين الأم ومارتا وجان تزداد خيوط الحبال وتتشابك حول الكراسي والجدران والحجرات حتى وصلت للجمهور وتشابكت معهم .

تباين العملية التمثيلة ووحدتها كل تلك الدلالات كانت تؤدي إلى غرض واحد وهو إبراز مأساة الإنسان في عبثية وجوده في هذه الحياة وما يؤكد ذلك هو الأداء التمثيلي للممثلين والذي كان مناسباً في كثير من الأحيان لوحدة العرض والحالات النفسية للشخصيات ، فالأم والتي لعبت دورها الممثلة “سماسم جامع ” قد أبرزت ما شرحناه من قبل قوة الأم في مظهرها الخارجي وضعفها وحنينها للهروب من برودة هذا الجو الذي كانت السبب فيه منذ البداية وإن يؤخذ عليها أنها استخدمت في كثير من الأحيان الأداء الصوتي الإذاعي والذي رغم تمكنها منه إلا أنه أعطى شعوراً بعدم الحاجة لرؤية ما يحدث فالصوت الإذاعي كان يعطي كل شيء أما ” مارتا ” والتي لعبت دورها ” سلمى مؤمن ” فقد كانت موفقة إلى حد كبير سواء على مستوى التنوع الصوتي أو الأداء النفسي ففي اللحظات التي لا تتواجد بها الأم داخل الحدث نرى مدى قصوة الحياة على هذه الفتاة ومدى رقتها على نفسها ومع وجود الأم تتحول تماماً لتصبح نسخة من قسوة الأم .

أما “الابن جان ” فاكتفى بعمل المظهر الخارجي للشخصية وإن عابه عدم الإحساس بالمكان ومدى قربه للمتفرج أي المسافة المساحيةمما يجعل الصوت أحياناً غير مسموع .

وما جعل رؤية ” ساندرا ” تتحقق وتتوحد مع رؤية ” كامو” هو شخصية الخادم الأخرس والتي لعبها ” محمود عباس ” فهو أعطى دفقات شعورية كبيرة على الحدث دون نطق كلمة واحدة تعابير الوجه والعينين تدفقات كبرى من المشاعر وكأنه توحد مع ذلك الفندق بكل ما فيه ما جعل التباين في العملية التمثيلية للجميع تتضح عليه.

نحن أمام عرض جسد مأساة العالم في الحالة العبثية التي يعيشها فحتى ولو كان الاعتماد على نص لم يكتب للزمن الحالي إلا أن رؤية ساندرا سامح جعلت الأمر شبيه بما نعيشه من مأساة حقيقية لتثبت أن لوجودنا عبثيته وعبث الوجود يأتي من مفارقة اللعب الذي يؤدي إلى مأساة حقيقية نعيشها الآن في مشاهد عديدة حول العالم عرض ” سوء تفاهم ” تأليف ألبير كامو ودراماتورج وإخراج ساندرا سامح وعرض ضمن تجارب نوادى المسرح بالهيئة العامة لقصور الثقافة إقليم غرب ووسط الدلتا بقصر ثقافة الطفل بالمنوفية .


★ناقد_مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى