ريم ياسين: “مركب بلا صياد”..هل تتخلى عن كل قيمة إنسانية وأخلاقية مقابل سعادتك؟
ريم ياسين ★
في ظل زيادة المعرفة والوعي بالتداخل الثقافي للحضارات المختلفة، قدّمت فرقة الفيوم القومية عرض “مركب بلا صياد” للكاتب الإسباني “أليخاندرو كاسونا” الذي استوحاه من الأسطورة الألمانية “فاوست”، التي سبق، واستلهمها الشاعر “جوته” في مسرحه، و تم تقديمها خلال مهرجان فرق الأقاليم المسرحية، وهي من إخراج “أحمد السلاموني”، وتنفيذ “حسين محمود”، بطولة ابراهيم الديب، جيهان رجب، محمد وريبي، علياء بدوي، و بمشاركة عددٍ من الوجوه الشابة.
قضايا مترسخة على مر العصور
يطرح العرض عدداً من القضايا الأخلاقية؛ التي يستمر مداها على مر الزمان، ويواجهها الإنسان المعاصر إلى الآن، ويتمحور العرض المسرحي؛ حول عددٍ من الأسئلة التي يتركها لنا، هل تبني سعادتك على تعاسة الآخرين ؟ أو تقتل شخصاً بلا ذنب، وتستمتع بعطايا حياتك؟، وتدور المسرحية في ثلاث فصول حول ريكاردو، رجل الأعمال، الذي يتعرض لسقطة مالية في عمله تؤدي به إلى الإفلاس ، بالإضافة إلى خيانة من مديرة مكتبه، التي كانت تبادله “حباً للمصلحة”، وهنا، وفي لحظة ضعف نفسي لريكاردو، تظهر شخصية الشيطان يعرض عليه استرداد كل ما خسره، بشرط الموافقة على قتل شخص يعيش في قرية بعيدة؛ دون ذنب اقترفته يداه، وأن ما عليه سوى الموافقة، ويتكفل الشيطان بالباقي، وبعد تردد يوافق ريكاردو، وهذه كانت البداية؛ لتنقلب الأحداث رأساً على عقب .
شخصيات و ملابس
اِكتمل تطعيم، وتوظيف المكنونات الداخلية للشخصيات بتوظيف الملابس بشكل مناسب لها، وهذا ما قامت به مصممة ملابس العرض “شهد سيد” من خلال الدمج بين العنصريين، حيث لُحظت شخصية ريكاردو في البداية كانت شخصية متسلطة، صاحبة نفوذ، فكان بأكمام مرفوعة، وألوان غامقة؛ مما يدل على قوة الشخصية وعمقها، وبتطورالشخصية تطورت الملابس، فنجده في البداية بسترة طويلة مغلقة، للدلالة على استحواذ همومه عليه، ثم ظهوره بصديري عند امتزاجه بأجواء القرية، وعندما سمح للربيع أن يحل محل خريف قلبه يظهر بالقميص الأبيض، هذا اللون الذي ظهرت بيه ستيلا، في النهاية بعد تحرك مشاعرها لريكاردو؛ للدلالة على السلام، وحدث هذا بشكل واضح بعد جملة “كلمة الأمل والغفران” للدلالة على التسامح وأيضاً العفة، لرفضها الزواج من ريكاردو بعد موت زوجها، أما الشيطان _الشخصية المحورية_ التي أشاد الجميع بدور محمد وريبي، بها، فظهر بملابس سوداء؛ يرمز من خلالها إلى التهديد والمكر والخديعة لشخصية ريكاردو، وهذا من خلال رمزية العقد بينهما، الذي كان بمثابة قبول الشيطان كميسطر؛ كما أنه من أوهمه أن من قتل بيتر، هو كريستيان، وظهر في هذه الشخصية الخفيفة، والبهلوانية إلى حد ما يتلاعب بالكلام والعقول في آن واحد ، وربطة العنق الحمراء للدلالة على الخطروالوعيد المنتظر، كما أضاف المخرج، المزج بين الوهم والحقيقة من خلال القفاز الأسود؛ فهل الحادثة كانت في العقل الباطن لريكاردو، أم في الواقع الحي؟ وكانت إضافة شخصية العم ماركو؛ لتخفيف حدة الأحداث، وإضافة نوعٍ من البهجة، وهذا ايضاً ما تميزت به شخصية الجدة، كما كانت تقوم بدور الناصحة بالنسبة لستيلا، وشقيقتها، وبالنسبة لملابس باقي الشخصيات، فكانت ملائمة للزمن الجاري في الأحداث.
حوار بالفُصحى ..ولكن!
تمتع العرض باستخدام اللغة العربية الفصحى، والتي مصدرها ترجمة محمد أمين، كان الحوار بمثابة المرشد للمتلقي في العرض؛ يتعرّف من خلاله على الأحداث سواء على لسان الشخصية، أوعن طريق السرد، فمثلاً، اِختصر المخرج مشهد قتل بيترأمرسن، بالسرد على لسان الشيطان، كأننا كنا بداخل عقل ريكاردو، ونرى بعينيه ما يحدث، وأيضاً جعَلَنا نتعرّف على مساوئ شخصية البطل؛ من خلال حوار الشيطان مع ريكاردو، خاصة بعد جملة “الألم الإنساني لم يغزُ قلبك مرة واحدة” فكانت ثغرة المعرفة بموافقة البطل بعد المماطلة في رفضه لجريمة القتل، كما يُعاب على شخصية مديرة المكتب، عدم اتقانها الفصحى بالشكل الصحيح.
ديكور و إضاءة
اِستطاع الديكور أن ينتقل بنا بكل سلالة بين المشاهد، فبدايةً بمكتب ريكاردو، الذي استُوحِيَ من الأثاث الأوروبي، وملصقات الحائط الأجنبية، التي كانت كافية للتعبير بالإضافة إلى خريطة العالم وراءه، للإيحاء أنه شخصية تعلم بكل ما يدور حولها من أمور في أعماله الاقتصادية، وبتطبيق فكرة المشهدين في مشهد السرد المذكورأعلاه، كسر الممثل نظرية الحائط الرابع بظهوره من وسط الجمهور صاعداً الخشبة، يخترق الحائط في مشهد نصفه سفينة، والآخر مكتب، ثم انتقلنا لمنزل بيترأمرسن، المتشبع بالبساطة، للدلالة على طبقته الاجتماعية، وفي الخلفية رموز البحار، والسفن التي توحي بمكانته كبحار، مائدة بسيطة مكونة من ثلاثة كراسٍ تُعِدُّها الجدة بأقل ما عندها، وهي كانت الإشارة للتفضيل الذكوري في المجتمع آنذاك، بمجرد قدوم ريكاردو، أجلسته الجدة على رأس المائدة، بقولها “لا..لا الرجل يجلس هنا” و أيضاً جملة ستيلا “الرجل هو من يبارك الطعام”، وبحلول مشهد السوق والغابة، اِستعان المصمم مروان إيهاب، بشاشة خلفية تعرض صورة للسوق، وأخرى لأشجار الغابات، وهي تقنية يسرّت الحركة المسرحية، وسلاسة الرؤية البصرية، وبالانتقال إلى نقطة الرؤية والبصر، فلا يمكن إغفال دورالإضاءة في تدعيم العرض، فكانت البداية لإضاءة زرقاء، توحي بالعلاقة الهادئة والمتجانسة بين ريكاردو، ومديرة مكتبه، وبعد وقوع الأزمة المالية، كان التلاعب بين النور والظلام في مشهد الحديث على الهاتف للدلالة على مرور أيام وليالٍ، كان ريكاردو فيها مستغرقاً في مكتبه، وبالتأكيد مصاحبة اللون الأحمر في مشاهد الشيطان؛ لارتباطه بصفات الاستفزاز والقتل والخطر، وإضافة الظل؛ بتكبير حجم الرأس لشخصية الشيطان في الخلفية في مشهد القتل؛ لإيقاع مسؤولية التحريض عليه، أما في منزل الجدة؛ فامتلأ بالإضافة الصفراء، التي تمثل خيوط الأمل والجديد بالنسبة لريكاردو، ولكن تغيرت هذه الإضاءة الصفراء تدريجياً في مشهد ستيلا، وحديثها عن الانتقام؛ لينتقل إلى درجة أغمق ثم ظلام، يدل على قوة الانتقام بمجرد التذكر والحقد؛ الذي يستحوذ على قلبها في سبيل الثأر لمقتل زوجها.
موسيقى، ومؤثرات صوتية
لعبت الموسيقى، والمؤثرات دوراً في إيصال الحالة الدرامية للشخصيات، فكانت بداية العرض بموسيقى هادئة يتبعها مشهد الرقصة كما ذكرنا، وبحلول اللزامية المالية تغيرّت إلى موسيقى توحي بالتهديد والخطر، وعندما امتزجت الموسيقى الخاصة ببيترأمرسن، والمؤثرات الصوتية للسفن، كانت البداية لتحول شخصية البطل، وبداية رحلته للتغيير، فهي الموسيقى التي وضعها الشيطان في عقله أثناء مشهد القتل، ومنذ هذه اللحظة بدأ يبحث عنها، وعن صاحبها؛ ولكن كان لا يعلم أنه يبحث عن نفسه، وفي مشهد المائدة المذكور سابقاً، عندما بدأت ستيلا بمباركة المائدة؛ لعدم رغبة ريكاردو بذلك، و بمجرد نطقها الكلمات الأولى؛ تحولت الموسيقى التي توحي بالرجاء والدعاء تدريجياً إلى التهديد والوعيد، وبالانتقال إلى مشهد السوق؛ كان مليئاً بموسيقى حيوية، توحي بالحركة والنشاط، أما الموسيقى الرومانسية والهادئة فكانت مصحوبة بمشاهد بين ستيلا، وريكاردو، أو في مشاهد حديث ريكاردو، عن نفسه، وكانت الموسيقى صاحبة الإيقاع العالي في مشاهد ظهور الشيطان، التي تحث على المكر والإثارة والترقب لما سيحدث.
صراع و أداء
كان الصراع في المسرحية يرتكز على الجانب السيكولوجي بشكل كبير، فصراع ريكاردو بين رغبته في إنقاذ ثروته، وعملية القتل، وتردده كان سبباً في استغلال الشيطان له، وسيطرة نفوذ الطمع عليه، وأيضاً صراعه بين حبه لستيلا، وأنه من قتل زوجها، وبمجرد تخليه من هموم نفسه القديمة، واستبدالها بهذه الصفحات البيضاء من تجربته، اِستطاع أن يهزم شيطانه، ويعي بأمورٍ أهم ومعانٍ ذات قيمة في حياته، أما ستيلا، التي كانت غارقة في أحزانها، منذ مقتل زوجها، ذو امتلاكها لمشاعر الحقد والثأر، ولكن بمجيء ريكاردو، تتبدل هذه المشاعر؛ لتعود إلى طبيعتها النقية، ومشاعر الحب والألفة، ومعرفتها لقيمة السلام والتسامح، بجانب صراعها في حبها لريكاردو، وفي نفس الوقت عدم خيانتها لحب زوجها الذي احتفظت به حتى بعد موته، وكذلك صراعها مع أختها فيدا، حول إخفائها لسر أن كريستيان هو من قتل زوجها، وفي نفس الوقت فيدا، تريد مساعدتها في محنتها؛ ولكنها لا تجرؤ حتى أن تنظر إلى عيني ستيلا، وهذا ما تعرّفنا عليه من خلال حركات الممثلين وأدائهم، واستغلال المستويات بالوضع الصحيح على خشبة المسرح، فمثلاً، في نهاية مشهد المواجهة بين ريكاردو، والشيطان، وعلى الرغم من كون ريكاردو، ملقًى على الأرض كان في مقدمة الخشبة التي تمثل نقطة قوة، وبالفعل في بداية المسرحية كان يتواجد بها الشيطان كونه قوة متحكمة؛ ولكن في النهاية أصبح في آخر الخشبة، لعدم قدرته على مواجهة القوة الإلهية في الأساس، والمتحكمة في الكون أجمع، مما تسبّب في تحوله من أعلى قوته إلى أضعفها، وهذا ما أثار غضبه بجملته “خلقتَهُ من طين، وأنا من نار”، وتظهر لنا عدالة السماء مرة أخرى، بعد رفض ستيلا، عرض ريكاردو للزواج، وختمه المشهد بمقولة “هذا هو العدل”، و يترك لنا النهاية مفتوحة، فبعد معرفة ستيلا بالحقيقة، هل ستغفر لريكاردو، وتحتفظ بحبه في قلبها، أم ستسعى للانتقام؟
هل يظل المرء على خيره؟
ختاماً، وبعد أن عرضنا الثيمات الأساسية للعرض المسرحي، وهدفه في تسليط الضوء على القضايا، التي أصبحت شبه مترسخة في أخلاقيات البشر، وهذا الصراع الدائم بين الضمير والغريزة في التملك، وتحقيق المطامع ، مع عدم مراعاة القيم والمعاييرالأخلاقية أو الإنسانية، هل سيتغير المرء؟ هل سيعود لديه الاقتناع بما لديه من نِعَم؟ هل يترك متاع الدنيا، وما يشتهي، مقابل أن يكون مرتاح العقل والنفس؟ أم سيظل ينهب ويأخذ ما يحق وما لا يحق، تحقيقاً لرغباته المتحكمة فيه، والمتلذذة في الاستحواذ على كل ما لذ وطاب في العالم، مع إغفال البصيرة عن الآخرين تحت أقدامهم، يسعون ويعملون؛ ليكسبوا فقط قوت يومهم، و يعيشوا آمنين في عالم احترم المال على العلم، والسلطة على الإنسان ، وهذا ما يرجعنا إلى آيات من الكتاب المقدس في إنجيل مرقص[36] “لِأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ العَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟”