شعر

أحمد كرماني: قراءة في ديوان ” أنشودة للعذوبة” للشاعر البيومي عوض.

أحمد كرماني ★

“ما أوسع حضرة الخيال ! يتجلى فيها المحال”

ابن عربي2/312، أريد أن أقرأ هذا الديوان من هذه الجملة الشعرية الختامية في هذا المقطع من الديوان “خيال الخيال” :

كل ما فيك

بالتفوق ..

يغري ..

بالغ في البهاء حد المحال

: قدك الغيم

طرفك الخنجر الناعس

إيماؤك اشتعال الظلال

هذه ..

ورطتي الجميلة في معجزة ..

جننت خيال الخيال! المقطع 66 ص72

النصوص الشعرية – عندي – لحظة انفتاح على العالم ، على حقيقة ما ، وليست – على أي حال – شيئاً مغلقاً ، هي خبرة بشيء ما ، بحقيقة ما ملقاة إلى قارئ، بواسطة شاعر ، يرى في الوجود حوله خيالاً ما ؛ فيتأوله بعدسته الشعرية ، في صورة من الخيال .

النصوص الشعرية في مفهمومها الحقيقي عندي ، إبحار في ساحل بلا شاطيء ، حنين إلى مفقود ، فك شفرات الوجود ، إسراف المغامر في ممرات من الوحشة ، جهاد متواصل من أجل تجاوز واقع مرير ، والوصول إلى نشوة الخبيء خلف الحسي والمشاهد ، والشاعر الحق صوفي، يطمــح إلــى نـوع مـن التسـامــي فيما يختلــــج نفســــه مـن مشـاعــــــر وأحاسيــــــــس، وما يخطر على قلبه من أفكار؛ محاولا بذلك تجــــاوز قســوة الواقــــع وتناقضـاتـــــه، ولا عجب في ذلك فقد قال ابن عربي قديماً على المريد في طريقه أن يستحضر طرق إمداد الشعراء ، إذا ” رفع لك عالم التصوير والتحسين والجمال وما ينبغي أن تكون عليه العقول من الصور المقدسة والنفوس النباتية من حسن الشكل والنظام وسريان الفتور واللين والرحمة في الموصوفين بها ومن هذه الحضرة يكون الإمداد الشعري “

يقترب الشعر من تجربة التصوف حين تكون التجربة حالة من حالات الوجد ، تغترب فيها الروح، وتحاول جاهدة اعتزال العالم البشري ، تلجأ إلى خيال الخيال ؛ ولعل هذا ما دفع أدونيس إلى القول بأن كثير من القيم العربية مستمر في الشعر الجديد حين تنبع من التصوف وما يحمل من ثورة على قوانين العقل والمنطق واتخاذ الحدس الصوفي وسيلة للاتصال بالحقائق واختزال المجهول ، ومسابقة الخيال إلى ماهو أبعد وأعمق في محاولة لرؤية الغيب.

وإذا كان كولردج يرى : ” إن الخيال تتعلق فاعليته في إذابة الأشياء وتفكيكها من أجل إعادة خلقها من جديد وبصبغة مبتكرة ” فإن الخيال في التوظيف الصوفي قوة كشفية عن نوع من المعرفة ينير الطريق لإدراك حقائق لا يصل إليها المنطق العقلي الصارم. إذ العالم في العرف الصوفي زائف وهمي ، يقول ابن عربي ، في فصوص الحكم : ” العالم متوهم ما له وجود حقيقي ، وهذا معنى الخيال .. اعلم أنك خيال وجميع ما تدركه مما تقول فيه ليس أنا. فالوجود كله خيال في خيال “

هذه عبارة فحواها ؛ إن وجود هوية حقيقية للأشياء وهم ، لاحقيقة في الفهم الصوفي إلا الوجود الرامز للأشياء ، لا الوجود الزائف بتقرير أو إحالة على أشياء معروفة سلفا. تلك خلفية صوفية يصدر عنها الديوان فيما أرى ، فما الخيال إلا حضور الغائب المتحجب ، هو التشكل في الصور المختلفة من استحالة الكائنات ، في صورة رمزية، فقد تضيق العبارة عن حمل الفكرة في العرف الصوفي كما يقارب التستري حقيقة لغة التجربة الصوفية ؛فيقول :

وذلك مثل الصوت أيقظ نائماً فأبصر أمرا جل عن ضابط الحصر

فقلت له الأسماء تبغي بيانه فكانت له الأ لفاظ سراً على سر.

تبلغ الشاعرية أعلى درجات الفاعلية –فيما أفهم – حين تصبح نشاطاً لغوياً، لا ينفصل عن فاعلية الخيال ، في صناعة معجمها، علوا على المألوف؛ في موسيقى إنشاد خلاب ، وهي بذلك ؛ تأمينا لها وحماية من معالم النثرية ، ومما يزيد التجربة الشعرية فاعلية اتصالها بالتجربة الصوفية .

فالتصوف في جوهره الحقيقي وصل دائم يقظ حي بالله، هو محاولة العودة بالإنسان، بكل جزئيةٍ في كيانه الروحي إلى مبدعه ومولاه. يعيش الصوفي بالحب وللحب، فهو محرك أشواقه، ومبدع مواجيده، ومطلق ألحانه، وهو أفقه الفسيح المتلألئ بالأنوار، ومجلى الأسرار. الصوفي في تجربته الكبرى مسافرٌ في ملكوت الله ، والحب هو براقه الصاعد، ومعراجه ودليله وهاديه في طريقه، ذلك الحب الذي يحرق فيه كل ما هو ترابيٌّ حسي، ليبقى كل ما هو روحيٌّ ربانيٌّ.

ذلك الحب الذي يغسل قلبه من الدنيا، ويطلق كنوز روحه العليا، ويمنحه مذاقات الأنس والقرب ، فينشد كل عذب جميل .

تلك البذرة الأم، التي نمت منها أغصان ديوان أنشودة للعذوبة ، وانبثقت زهرته، وأينعت شاعريته .وقد جعل الشاعر منها فلسفةً تحيط بكل شيءٍ في الكون، وتمتد أجنحتها إلى كل أفقٍ في الحياة، فلسفةً تمسح من وجه الكون الكبير قناعه المادي، لتحيل الكون جميعه إلى أرواحٍ عذبة لا تخلو من العشق .

ليس شيء

في الكون ..

يخلو من العشق

قلوب الذرات تغلي غراما

فتعالي ..

نغلي مع العشب نغلي مع هذا المساء

نغلي هياما

دورنا الآن

أن نؤسس جمهورية الله

في العيون اليتامى ! المقطع (98) ص104

ففي الديوان حنين إلى مفقود ، إلى روح من العذوبة ، يسعى الشاعر من خلال لغة فريدة أن يسترجعها ، أو بعبارة أكثر وضوحا ، يحاول إعادة تشكيلها بلغة تعلو على الحسي ، على الجسدي ، تطلق في الجمال روحا من شعريتها .

يطوق الشاعر إلى جمال افتقده، فيستحضره في صورة المرأة، رمزية للجمال العذب ، يناجيها هائما بحبها، بحثاً عن ذاتيه من جهة ، وذاتية الجماعة من جهة أخرى، يرى الشاعر الجمال روحا تتأرجح بين التحجب والتجلي ، لكنه يستنشدها طاقة نورانية جامحة جموح الخيل . ليرشف لنفسه من حقيقتها الجميلة خمرة وحليبا :

يا إلهي !

هذا الجمال

مخيف ..

كم بأفيائه اشتعلت لهيباً

مرعب

أن يكون عني غنياً 

مذهل ..

أن يكون مني قريباً 

فأغثني!

كي تستطيع عيوني

رشف عينيه

خمرة وحليباً!

بلغة تجعل من رمزية اللغة مركز الثقل لتجربتها. يرجو البيومي عوض من الله أن تذوب ذاته في الجمال ، انظر كيف يجري التماثل بين ذاته والجمال في صورة العين ، العين هنا قرين الذات ، يرجو من الله لذاته سكراً بالجمال ، تيها عذباً عن الحياة، يريد خمراً وحليباً ، والحليب رمز النقاء والصفاء . هذا الديوان فيما يبدو لي يستلهم تجربة التصوف ومعراجه في مدارج الروح ، لتنفس روح الجمال في شعريته ، يبعد بالخيال الشعري إلى سدرة الروح حيث يرى الفؤاد ما يرى .

فأول ما نطالع في أنشودة للعذوبة غلاف الديوان؛ فنرى تلك الفتاة التي تعرج إلى السماء من خلال سلم خشبي، في زي سماوي يحاكي لون السماء ، وكأن الجمال معراج إلى الروح ، إلى السماء في سمو . قد نرى الفتاة هنا رمزية العذوبة والجمال ، وكأننا بلسان حال الشاعر نقول الجمال العذب ارتقاء إلى معراج الروح ، الجمل العذب قرب من السماء ، وليس هذا ببعيد عن الغلاف الخلفي للديوان حيث يقول :

إن مررتم بالورد

في أي أرض

فانحنوا ..

خاشعين يا أصدقاء

واطرحوا عنكم ..

الزمان ومن فيه

وأصغوا إلى حديث النقاء

ليس هذا

بالورد..

هذا كلام من حبيبي!

وموعد باللقاء! الغلاف الخلفي للديوان

هنا دعوة جماعية للإصغاء للجمال ، للنقاء ، لكلام المحبين في خشوع، بعيدا عن الزمان ومن فيه ، هذه إذن رسالة إرشادية استنقاذية للأصدقاء، فحواها ؛ ثمة جميل نقي ، مازال في وسعنا أن نستمتع به. هذه رسالة؛ تجعل من دعوة الأصدقاء إلى الفرار من الزمان ومن فيه دعوة للفرار من ماديات تحيط بهم ، ومن النظر إلى الورد نظرة ثانية دعوة أخرى ليست ببعيدة عنها ، فحواها الإصغاء لروح الحب . دعوة لإقرار بفاعلية الرمز.

الديوان إذن ينطلق من تجربة ذاتية تنشد الجمال العذب من جهة ، وتطرحه إنشاده في صورة معالجة لهموم الجماعة . المنشغلة بماديات غيبت كثير من جوانب الروح .

ربما كانت العذوبة في دلالتها اللغوية ؛ حلاوة الحياة ولطافتها ، والعذوبة في الغناء طرب ووقع حسن ، العذوبة سحر الأنوثة وجمالها ، وعذوبة الكلام حلاوته التي جرت من النفس على اللسان . لكن العذوبة في الديوان يصر الشاعر إصرارًا على جعلها روحاً ، روحاً من الحب ، الخالد خلود النور ، ودفء التجلي ، كالندى السمح ، كالربا كالخصوبة. ثم يضفي عليها شاعرية صوفية خالصة حين يصفها بالغريبة . ويصف ذاته بالغريب ، والغربة وصية من النبي الكريم ، عن ابن عمر قال : “أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي ، وقال : اعبد الله كأنك تراه، وكن في الدنيا كأنك غريب ، أو عابر سبيل” ، الاغتراب بالمعنى الوجودي هو تجربة الصوفي ، هو تجربة إرادية عن العالم ، وتصور لا إرادية حين يكون الفناء في المحبوب.

يبدو لنا الشاعر من خلال ديوانه أنشودة للعذوبة غريباً عن العالم المحسوس ، يرجو روحًا من العذوبة تبقى ، يرجو روحا من العذوبة بها يرقي رقيا روحيًا .

ففي المقطع الثاني والثالث من الديوان يأخذ الشاعر بيد المتلقي إلى حديقة عذوبته ، هاديًا ومرشدًا ، حين ينادي محبوبته “روح” مرتكزًا على النداء والاستفهام ، وهي بنية تحمل دلالة الحيرة والتردد بين واقعين الجسدي الحسي / المعنوي الروحي ..

أنا يا “روح “

مستثارٌ جنوني

كيف بات السراب

ملء يدينا ؟

كيف أعطيتِ..

للخرافات أذنا ؟

فذبحتِ الربيع

في مقلتينا ..

كيف في نشوة السفينةِ

جف البحر

آه

وقلت : إنا انتهينا! المقطع 2 ص8

ويمثل هذا المقطع مبررًا تمهيديًا لمتوالية الشعر التالية في الديوان ، يمثل مبررا لمعراج التجربة الشعرية في سماوات الروح الفسيحة، ولتنظر معي كيف يتحرك هذا المقطع الشعري، حين يجعل السراب ملء اليد ، ويجعل للخرافات أذنًا ، ويذبح الربيع .

هذه نبرة السائل الحائر ، يعاتب محبوبته ، مستنكراً مبررات أفولها وغيابها ، لكنه يمنحها سلطة على الأفول ، وكأنها من تملك القرار . فهي من ذبحت الربيع ، هي من أعلنت النهايات، حين أعطت أذنها للخرافات ، لكنه يبرر إمكانية الرجوع والبقاء بالحب . حين يقول:

لا !

وعينيك !

حبنا خالد كالنور

كالشعر ..

كانتصار العذوبة

حبنا خالد كدفء التجلي

كالندى السمح

كالربا ..

كالخصوبة

حبنا غربتان

فائضتا النوح ..

فميلي لغربتي يالغريبة! المقطع 3 ص9

دوران المقطع هنا حول الحب ، والحب تشكل روحي ، يبرر العودة ، الحب هنا ذا معجم صوفي فهو من نور، وعذوبة، من الربا ، والخصوبة ، تقارب الكاف هنا بين عناصره المعنوية حين يشير كل على حده إلى رمزيته فالنور؛ وضوح ، وتجلي ، وانتصار العذوبة تحدي، والربا ارتفاع، والخصوبة عطاء ونماء.

العذوبة إذن روح من الحب تشكل الوجود في بهاء ، العذوبة انتصار وتحدي ، العذوبة قرينة النور والتجلي ، العذوبة ينشدها الشاعر إذا ما كانت دلالة الفعل نشد على الطلب ، وينشدها لحنا إذا ما دل الفعل على الإنشاد. لكنها غريبة يسعى الشاعر إليها ينفي غربته في غربتها .

من ذاكرة الإنشاد والغناء :

ولنتأمل اقترن العذوبة بالإنشاد في العتبة الأولى للديوان : ” أنشودة للعذوبة” ، كان ولا يزال الإنشاد قرين القصيد ، ورفيق العربي في حله وترحاله، الإنشاد زاد الراكب ، فقد كان الحادي حامل الركب حملًا ، يولد في نفوسهم نشاطًا؛ يدفعهم لحمل مشاق الارتحال ، والعربي لا يعرف الشعر إلا غناء وإنشاد ، يقول حسان :” تغن بالشعر إذا ما كنت قائله إن الغناء لهذا الشعر مضمار” ، كما تشير الدلالة المعجمية أن الغناء والإنشاد هما أداء الشعر بالصوت الجميل العذب.

والإنشاد من جهة أخرى قرين الجماعي والطقسي الديني ، ففي أيامنا المعاصرة صار الإنشاد قاصراً على الديني في صورة المدائح النبوية ، والتواشيح ، و ترانيم الصوفية في مجالس مواجدهم وحضراتهم.

لكن الذاكرة النقدية تحمل لمحات تاريخية تحملها عتبات الإنشاد ؛ وتربطها باللغة الرمزية والحب الإلهي ، حيث كان ” سفر نشيد الإنشاد ” وشخصياته الأساسية التي في السفر هي امرأة ،وتدعى (شولميث) ورجل، ومن خلال الحوار الذي يدور بينهما يتبين انتقالهما من مرحلة الغزل إلى مرحلة تحقيق الزواج، على سبيل المثال؛ الرجل ينادي: “كالسوسن بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنات”، والمرأة تجيب: “كالتفاح بين شجر الوعر، كذلك حبيبي بين البنين، تحت ظله اشتهيت أن أجلس وثمرته حلوه لحلقي”،. وبالرغم من افتقار سفر نشيد الإنشاد من المحتوى الديني، إلا أنه يمكن تفسيره كتمثيل مجازي لرمزية الحب الإلهي ، لا علاقة حب بين الرجل وامرأة .

كما يقترن الإنشاد باللغة الرمزية في الإرهاصات الأولى لتجربة شعر الحداثة على يد ” أديب مظهر ” في قصيدته ” نشيد سكون”. كما كان الغناء ولاءً لروح الشعر عند صلاح عبد الصبور :

صنعت لك

عرشًا من الحرير .. مخملي

هذه أغنية كان صلاح عبد الصبور قد أعلن فيها عن ولائه لروح من الجمال بها يفني عن طينة الإنسان ، يعلن فيها تبعيته لمهمه الخيال السياب ، ورغبته في صفاء الروح ، ضاربًا في السهول والوديان يسائل الرواد عن طريق يلتمس فيه المجلس السني ، يلتمس فيه روح من النور والجمال في غنائية صوفية . ذات دلالات عدة ، أهمها على الإطلاق محاولة الولوج بالتجربة الشعرية إلى ما هو روحي رحيب ، فتح باب جديد للشعرية العربية ، يقوم على استعارة التجربة الصوفية ، لتجارب الشعر الجديد ، عن طريق الرمز والإشارة لا تحسين وتنميق العبارة:

ومن أراد أن يعيش فليمت شهيد عشق

أنا هنا ملقي على الجدار

وقد دفنتُ في الخيال قلبي الوديع

وجسمي الصريع

في مهمه الخيال قد دفنت قلبي الوديع

يا أيها الحبيب

معذبي ، أيها الحبيب

تلك روح يسري في أنشودة للعذوبة منها رجع صدى شفيف. فالشاعران كلاهما يسعى لروح من الجمال العذب ، يمهد صلاح عرشًا من حرير مخملي يليق بالمحبوبة وينجره من صندل ومسندين لضمان طول الإقامة والسكن ، مستلهمًا روح التبيع، أما البيومي عوض فيسلم لها أمره ، ممتثلًا لشروطها ملقيا كل أسلحته :

أنا سلمت

للأنوثة ..

أمري

مثل هذا الحنان يملي شروطه

أنا ألقيت

كل أسلحتي..!

ذبت أمام الأسطورة المفرطة

عملي الآن

أن أرمم ..

موال الحنايا ..

بالفتنة المخروطة!

تلك روح من المحبة والجمال العذب تملي شروطها ، يذوب الشاعر فيها ، ليرمم موال الحنايا ، الترميم إعادة للقديم إلى سابق عهده في صورة مثلى ، الترميم هنا بالفتنة ، والفتنة جمال أخاذ ، الترميم ترميم لموال الحنايا ، والحنايا حاضنة القلب وحصنه المنيع . المواويل قرين شيء من الشجن العذب . والشجن العذب روح الشعر وجوهره .

يتحول الغناء إلى الإنشاد ، ويرمم الإنشاد موالًا ، يرمم شجنا في القلب ، غاية الأنشودة هنا هيام بجمال يسري في تجربة الشاعر ، جمال عذب يجدد الشعر ، فالعذوبة عند الشاعر البيومي عوض روح من الجمال تسري في الحياة ، روح من الجمال خلفتها يد الجميل أثرًا باقيًا في الأشياء من حوله . يطوف معها بنا ما يطوف ، منشدًا شدوه الروحي. متمثلا ، الإشارة إلى تجربة الحلاج تارة :

ليس في الحب : لا

ترمده..

تكسر زنده

لا: عذاب المحبة

فلماذا تعذبين..

ابتهالاتي إليك؟

افتحي لنوري دربه

ليس ..

من راجح الهدى

أن يُرى الحلاج

عطشان..

دون خمر الجبة! المقطع 105 ص 111

كان الحلاج مثالًا ساطعًا على ما يمكن للحب أن يصنعه في العاشق ؛ فقد ذاق من كشوفات العشق ما أحرق في قلبه كل تعلق بالحياة، فباح وأعلن السر ، الحب إذن بوح وتجلي، للنور ، مادام فيه الصفاء للمحبوب الأعظم ، هذه رمزية بيومي عوض ” ليس من راجح الهدى أن يرى الحلاج عطشان دون خمر الجبة ، يفسر بها عبارة الحلاج الشهيرة ” مافي الجبة غير الله” إلى تلبس الحلاج بالحب ، فالجبة ثوب يشمل الإنسان ، يجعل له الشاعر خمرًا تطلب ، وكأنني به يقول ليس من الهدى أن يبقى الحلاج عطشا وقد تلبسه الحب وبها سكر ، مافي الجبة غير الله عبارة فحواها إذن مافي غير حب الله.

ووتارة أخرى تعرج ذات الشاعر إلى معراج النبوة ، نبوة الشعر ، المبلغ عن سر الحب، والنبوة هادية للجماعة وإرشاد ، تبليغ عن أسرار الغيبي .

من بلاد النبيذ

جاءت تهادى

كبساتين بالندى تتزيا

أغلقت عطرها

عليَ..

وقالت كن نبي الهوى

فكنت النبيا

واستدارت

فأرجعتْ..

بعمود النور في ظهرها

الوجود صبيا . المقطع 91 ص97

تمثل ذات الشاعر هنا في الديوان المبلغ عن الجمال العذب ، حامل رسالة الجمال ، ينشدها ، وينشد لها . يتحرك الديوان من محاولة طلب استرجعها إلى محاولة الاتحاد بها.

إنشودة للعذوبة و تحركات التجربة الشعرية إلى ساحة الجمال المطلق

يتحرك المقطع الشعري الأول في الديوان عبر فضاءات : الكون ، الذات ، الحب ، القيامة. وتلك فضاءات يصح أن ترى فيها تماسا مع تجربة الصوفي ، فالحب عند الصوفي حلقة وصل رابطة الذات بالكون ، ومحققة السعادة في القيامة ، التى لايعتبرها الصوفي نهاية بل هي بداية حياة ، يجني فيها ثمار محبته ، التي بثت روحها في صورة وردة حمراء في جنين القيامة .

ارجعي لي !

كي أغمر الكون

بالرحمة .. والمجد ..

والسنا والوسامة

ارجعي لي !

كي يركض النور ..

في أرجاء ذاتي

وكي تموت القتامة

ارجعي لي !

كي تنفخ ..

الوردة الحمراء

بالروح .. في جنين القيامة!

تلك بنية تبدو لي ذات بسط حجاجي للموضوع الشعري ، وهذا الصنف من البسط وفقا لعلم اللغة الحديث أو كما يقول (كلاوس برينكر) مميز لنصوص الاستثارة appellative Texte التي يتعلق الأمر فيها غالبا بالنسبة للباث بإقناع المتلقي من خلال ذكر أسباب رؤيته وحفزه إذا اقتضى الأمر .

ظاهر النص يدور المقطع الشعري حول ياء المتكلم المضمرة و المقترنة أحيانا باللام التي تحمل معنى الملكية. حيث يبدو طلب الرجوع ، طلبا لإعادة الروح إلى ذات الشاعر .فتمثل حقيقة طلب رجوع المحبوبة مرتكزا يحاجج الشعر من أجل تحقيقه ، فيظهر مبرراته على نحو غمر الكون بالرحمة والمجد والسنا وهذا مبرر يخرج التجربة من الذاتية إلى الجماعي ، فما كان أثر العودة على ذاته من ركض للنور ، وإزالة للقتامة ، إلا للتحقيق المبرر الختامي وهو بث روح من الوردة الحمراء في جنين القيامة ، وكأنه المبرر الدامغ . ولنا أن نتسأل أي قيامة يكون لها جنين ، الجنين طور من أطوار تشكل المولود الذي يرجى خروجه للعالم مكتملًا ناضجًا ، يبدور لي أن الوردة تنفخ بروح الحب في تجربة الشعر ، الذي يرجو لها الشاعر أن تقوم مكتملة ناهضة تبعث في الجماعة أثر بهجتها ونور سعادتها . متخذة من أسلوبها الرمزي محاجة تبرر بها ميلادها الجديد ، على نحو يخلو من الشطح والغلو.

الشاعر البيومي عوض.

هذه أولى وردات الديوان ، أو أول فروعه التي تتكرر في المقطع العاشر على نحو يقول فيه

ارجعي لي ..

إن النبي غوى!

فاستنقذيه

من ورطة الجاهلية

ارجعي لي !

أرجوك..

إني سئمت الموت خزيا ..

في اللحظة السامرية

ارجعي لي

يا نخلة المسك صبي ..

خمرة الله ..

في الكؤوس النبيه! المقطع (10) ص 16

قد تتشابه الوردات في الباقة الواحدة غير أن كل وردة إذا تأملتها على حدة وجدت فيها جمالًا مغايرًا ، هذا مقطع يتكرر فيه الفعل الطلبي أربع مرات على نحو متتابع ( ارجعي / ارجعي / أرجوك /ارجعي ) ، ومرة أخرى مقرونا بالنداء الواصف للمحبوبة في صورة نخلة مسك ، للنخل رمزيته ، النخل شموخ وارتفاع، باسقات ، النخل قرب من السماء، لكن جذوره ضاربة في الأرض لبعيد ، والشاعر يجعله نخلًا فواحًا ، نخلًا من مسك، والمسك بعض دم الغزال ، قرين التفوق والنبوغ ، على الأمثال.

فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال

هذه النخلة يلتمس منها أن تصب خمرة الله، وليس لله خمر على الحقيقة، لله بركة منه، وروح ، يرجو الشاعر أن تحل في كؤوس نبية .هنا ثمة نبي غوى تورط في الجاهلية، وثمة كؤوس نبية ، هذه الإضافة تتسع لاحتمالات عدة ، قواعد الصرف توجب عند النسب إلى كلمة نبي إبدال الياء المشددة الأولى واوا ، لتكون النبوية ، النبية إذن ؛ على تلك الحال ، كلمة فارسية بمعنى الأحواض الرديئة الاستعمال ، ربما كان معربها النفية ، هذا الكؤوس تحتاج خمرا بركة من روح الجمال تصب فيها ليعاد بعثها من جديد . هذه بركة من الله وروحا من جماله يرجو الشاعر لها أن تغمر تجربته الشعرية ، أن تغمر قوالب شعرية . ربما كانت منفية.

تمثل المحبوبة هنا روحًا غائبة يستنشدها الشاعر، يلتمس ، روجعها ويظهر مبررات الرجوع فيما ينعكس على روحه من أثر ، وكأنه حديث الذات عن الذات ، لماذا ينشد الجمال ويعذب بالوصل إليه والفناء فيه ، لأن في ذلك ما يمنح الذات وجودا أخر .

في الديوان معالم حوارية ذات تحركات وتشكلات عدة ، تنطوي على شعور غريب تجاه المحبوبة (روح/ العذوبة ) ، تجمع بين تبريرية الوجود ، و والشعور بالإجلال والرهب .

حين تصورها اللغة في أكثر من مرة بعيدة ، يقترن وصفها بآداة المنادى البعيد ” يا” : أنا ياروح ، الغريبة ، يا أجمل النساء عيونا ، يا سر أسرار قلبي، ياوردة الله ، ياشهية ، ياوردة الكبرياء، ياشهوة الأشواق، أيها العطر، ياجنة الأساطير، ياسرب يمام لكبريائي ، ياوردة البهاء ، ياصبية ، ياجنة الرؤى ، يارضا الله ،ياجسد الماء، .. ، وفي أحيان كثيرة يستحضرها الشاعر دون نداء، فنراه يقول : ” أنت ماكنت غير نهر حنان ، بحر فتوة ، وحدك الماء ، والبهاء الشديد ، قبلة في الحفيف ، مغامرات الشذى، شفتاك الياقوت والتوت والفودكا ، شفتاك الألحان ، شفتاك اخصرار نار التجلي ، جسد بالفراش مكتظة أبهاؤه، هي أشهى حلم تكشف لي ،…، وهنا يحل ضمير الخطاب للغيبة محل النداء ، ليستحضرها مخاطبا يشعر بقربها منه، وفي صورة أخري يرتكز الشاعر على بنية السؤال : “كم سماء ًذوبت في مقلتها ؟ / جسد؟ أم فتيت ضوء ؟أم وردة سالت؟أم قبة من يمام ؟! أي شيء سبى الرؤى فيكِ: روح الله !أم –ضارعا- دلال الفتون؟ يمثل السؤال دلالات الحيرة والقلق ، ويحمل أيضا دلالة التعجب والاندهاش، لاينفك بما يحمل من دلالات عن النداء أو الوصف المقترن بالخطاب ، وفي كلٍ تجد الإضافات هي معقد القصيد وهي أسلوبها المفضل ، إضافات تبدو لأول وهلة غير منطقية، لاتفيد بيانا واضحا ، أو تخصيصا مألوفا ، إنما يظل التيه في الجمال معناها العام يخفى معنى باطنيا ولننظر مثلا وردة الكبرياء ، مغامرات الشذى ، فتيت الضوء ، خدها الغيم ،… تلك إضافات تجسم المعنوي ولا تحيل إلا على المبالغة في السحر والجمال العذب . وهذا فحواه أن القصيدة واللغة مهما تحاول جاهدة أن تستوعبها فموضوعها يظل معقدا ، لكنه مغري بأن يتتبع . تلك روح من العذوبة والجمال يناديها الشاعر و يجتهد في وصفها يجتهد في تمثيلها . ويتمنى من الله أن تحل في كل أنثى، أن تحل في كل قصيدة وكل لغة :

لي رجاء يارب ُ:

عندك ، صور كل حوري

– فضلا –

بصورة روح. المقطع الأخير 124 ص130

وفي حركة من حركات الديوان يلتقي المحبوب بمحبوبته ويتحول الحوار إلى بنية القيل و القال ، بضمير المخاطب حاضرا وضمير المتكلم بصيغة الجمع : مما يعني التجلي والتماهي في المحبوب :

عانقيني

ليثمر الشجر الآن

وبالورد عمرنا

يتحنى

نخلة أنت

من عبير شفيف

وأنا من ” يانخل .. يانخل “

ثمة عناق واحتضان ثمة تجلي للجمال العذب ، يمثل التماهي به نصرا يقول :

تحت قوس النصر

المهيب..

احضنيني

واطرحي عنك جبنا

الشرقيا

إن هذا الهوى الخيولي

أحلى ..

فاملئيني بالنار

عطرا نبيا

نحن في الشرق

يانقية .. كذابون !..

لم نقترف جمالا نقيا! ص84

الديوان في ظني إذن ؛ مناجاة للجمال العذب ، محاولة بالخروج من دائرة الغزل المكتظة بمعاني الجمال الحسي في فكرنا العربي ، إلى رحابة الروح ، درس من دروس الحب يمليه الشاعر بيومي محمد عوض على مسامعنا ، مستعيرا رداء الصوفي، في إيمان راسخ بأن كل حب وهيام بالأنثى لابد له أن يتحول إلى الهيام بالروح روح الجمال العذب، في تجليات الصدق ، والسفور ، لا السر والكتمان ، مادامت تجربة الحب قربا من الجميل الحق ، بفيض من الخيال .

عذبة

كالصباح

غذراء كالوحي

لعوب سكرى كليلة عرس

آثرٌ

من فراشة العطر

فيض غالب للخيال


★ناقد_مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى