رأي

طارق بن هاني: الجمهور يريدُ ذلك!

طارق بن هاني★

كثيرًا ما تلفظ أذواق النقَّاد أنواعًا من المُنجزاتِ الإبداعيّة الحديثة، متحفّظين بذلك – أصلًا – على نسبتها إلى الإبداع، ومترفّعين عن الكتابة عنها، ومعلّلين موقفهم بخروجها الواضح عن المعايير الفنيَّة. وما إن يطرح عليهم سؤال من قبيل: “ما تلك المعايير الفنية؟”، حتى يستسلموا إلى استحالةِ تحديدها، فتسعفهم في ذلك المأزق المعرفيّ (الابستمولوجي) كلماتٌ – لا معايير – من قبيل “ابتذال”، أو “إسفاف”، “تجاري”، “فن مقاولات”، “تهريج” ..إلخ

الأمرُ الذي قد يعني، أنّ الظاهرة الإبداعية الحديثة – شاء أصدقاؤنا النقَّاد أم رفضوا -، قد انفلتت من المعيار الذي ينافحون عنه، بل ولم تلق له بالاً في واقعٍ ينحسرُ فيه القرَّاء والمثقّفون الحقيقيُّون لصالح معيار كميٍّ – ربحيّ يفهمه الصنَّاع، إنها مفارقة معيارية بين النقّاد والصنّاع.

فكثيرًا ما نحضر مسرحية (كوميدية؛ كما يُزعَم)، أو نقرأ رواية (عجائبية)، أو مسلسلاً (جريئًا)، أو غير ذلك…، فنكتشف أنها جميعها – وفق المعيار الجماليّ – ضرب من التمرُّد (الفوضويّ) الذي لا تحكمه رؤية مسبّقة، غير أنه تمرد ضرب أطنابه في المشهد الثقافيّ، رغم كل شيء، ورغما عن كل شيء!
ويلحُّ – حينئذ – السؤال التالي… هل الإخلاص للمعيار الجمالي (النسبي أصلاً) أولى؟ أم أنّ التصالح مع الظاهرة الواقعة سعيًا إلى مواضعةٍ معياريّة جديدة أولى منه؟

حقيقةً لا أدري

لكن إذا ما نظرنا إلى النموذج الذي ننطلق منه لنحاكم – على ضوئه – المنجزات الإبداعية، قد نكتشف أننا نسعى إلى مثال (طوباويّ)، فيما المنجزات الإبداعية بوصفها (واقعًا؛ غير طوباوي) – بكلّ حمولاتها – قد قالت ما عندها، بل وتمارسُ سلطتها، وتفرض نماذجها النابضة المتداوَلة، مستمدة سلطتها من لدن الجمهور بوصفه محركا للواقع وفاعلاً فيه بل صانعًا له، وليس غريبا أن يكون الردّ التلقائي الذي يدافع به المنجزون لتلك الأعمال عن أعمالهم، هو: “الجمهور يريد ذلك”! ويحاجون على ذلك بمعايير الصنّاع الكمَّية لا النوعية، من قبيل: نسبة المبيعات، وعدد المشاهدات، وشباك التذاكر، إلخ… وعلى الرغم مما يحبط النقاد، فإن ردود الصنّاع تبدو مقنعة إذا ما تفهم النقّاد الديناميَّات الحاكمة للنشاط الثقافي والإبداعي في مجتمعاتنا، وهذا لن يتحقق إلا بإعانةٍ من الدراسات الإنسانية الأخرى.

وليس في وسع أحدٍ أن ينهض – في عصرنا – بمثالية أفلاطونيّة جديدة، ينادي فيها باستبعاد (العابثين) حفاظًا على المُثُل والسويَّة الأخلاقية، ولذا فقد ظهرت اتَّجاهات تنادي بالنظر إلى الظواهر الإبداعيّة كما تعبّر هي عن نفسها لا كما (نريد) أن نراها أو نصيّرها أو نعتسف عليها… لأن تلك الإرادة كثيرًا ما تصطدم بإرادة أقوى، كإرادة الجماهير مثلاً، بل وقد جازفت بعض تلك الاتّجاهات ونظرت إلى الإبداع نظرة غير معياريَّة أصلاً، فانفتحت عليها انفتاحًا واسعًا كما نلمس – مثلاً – في النقد الثقافيّ (عند الغذّامي) والاتجاه الانعكاسيّ.
وربما تزداد المسألة صعوبةً في ظلّ – ما بعد حداثةٍ – تؤمن بالتعدّدْ، والانشطار، والإرجاء، والعبث. ولكنْ هل يستوي إنجازٌ ينطلقُ في سياق ما من رؤية فلسفيّة عميقةٍ يتشبع بها المبدع، بإنجاز لا يعي فيه – صاحبه – إجراءاته الفنيَّة، كما يحدث بيننا؟

هذه قضيّة، أو قضايا إشكاليَّة، لكنّها مهمَّة. ليس الشأن أن نضع رأيًا نهائيًّا إزاءَها، لكن طرحها في ذاته، يعبّر عن خطوة في اتجاه كشفٍ أوضَح، كما يعبِّر عن التهديدات المتلاحقة التي تستهدف المعيار النقديّ، أو الإبداعيّ، والتي تفرض سعيًا جادًّا ينهض به المثقفون الحقيقيون بغية الوصول إلى التوازن المطلوب في جغرافيا الإبداع – النقد إن على مستوى النظرية، أو التطبيق!


★كاتب -عمان.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى