مسرح

حسام الدين مسعد: “العزيف” .. فرضية الوجود من العدم في تجاوز خطابات الهوية الصلبة والقبلية.

حسام الدين مسعد ★

عزيزي القارئ حين تطرح السؤال على عقلك من خلال المعروض من نتاجات العروض المسرحية في وطننا العربي التي بات أغلبها يتخلى عن مسرح الكلمة ويميل إلى تقليعة مسرح الجسد، محاولاً إيجاد حل لمعضلة السؤال بهل لدينا أزمة مع نصوص مسرح الكلمة  ؟ أم أن الأزمة تتمثل في آليات قراءة النص المسرحي ؟ من هذا السؤال الأخير يمكننا مطالعة  النص المسرحي الذي كتبه الكاتب والمخرج العراقي منير راضي، الموسوم ب “العزيف” فهو نص مسرحي قصير.

عنوان النص

جاء العنوان في مفردة علم بالغلبة مصحوبة بأل، وتعني صوت وقع الرمل ببعضه على بعض، أو صوت الريح عامة، أو صوت الغناء بالعود، أو صوت القوس الذي فيه تنوع وتكرار، أو في معنى  آخر يؤمن صاحبه بالخرافة، إذ يفسر معناه أنه  صوت الجن، والعياذ بالله، وهذا التفسير الأخير يعود بنا إلى إشارة المؤلف التي سبقت الحوار الدرامي، إذ تشير إلى صراع أيديولوجي بين ماضٍ عتيق مع عالم حي لا يعرف أسراره إلا من كان له فرضية الوجود من العدم، وهذا ما يقود القارئ للبحث في نص العنوان كنص موازٍ لحكاية النص وموضوعه، كي يستطيع من خلاله أن يبني أفق توقعه الخاص، لاسيما أن هذا العنوان  اسم اشتهر به بعض ما له معناه، وصار علماً مصحوبًا بأل على عناوين لكتب عديدة أخطرها علي الإطلاق كتاب السحر الأكثر رعباً ل”عبد الله الخطر” والذي ينطلق مؤلفه من فرضية أن الكيانات القديمة تعيش فيما وراء هذا العالم وأنها كانت تريد الاتصال بالأرض بأي طريقة ممكنة للسيطرة عليها، ويوماً ما ستعود لإسترجاع ممالكها التي استولى عليها البشر، وكتاب العزيف من الكتب الغامضة التي يدعي مؤلفها أنه محض خيال لا أكثر علي الرغم من أنه يعرض طرق الشعنذة لتحضير أرواح الموتى، وكيفية رسم الدوائر المستخدمة في التحضير والتعاويذ .
إن منير راضي يتناص في عنوان نصه مع عنوان كتاب “الخطرد” تناصاً مباشراً، لكنه في الموضوع أو حكاية النص يستغرق في جدلية وصراع أيديولوجي بين الشرق /الغرب، وبين الإله السيد /العبد، والماضي/الحاضر، والخرافة/الحقيقة ، والميتافيزيقي/المادي، أو الوجود / العدم، إذ ينطلق من فرضية نبش القبور، واستحضار الأرواح من العالم الميتافيزيقي، أو من العدم، لتتجادل فكرياً وأيدولوجياً في الآن الراهن،ىالوجود لتستشرف خطورة المستقبل فتنتطلق الصرخة التحذيرية في وجه المؤسسات المالكة للخطاب والقوة والمعرفة في العالم بغية الدفاع عن حرية الإنسان وكرامته .

حكاية النص 

في واقع ضبابي لشواهد ولحود ينبعث منها دخان أحمر، وتمتزج أصوات الموسيقي الحزينة بين نغمات شرقية وغربية في صراع محتدم، يظهر حفار القبور يرتل تعويذة استحضار الموتى في واقع الغربة والوحدة،فتظهر أشباح من ثباتها العميق لتتجادل مع بعضها البعض كصوت وقع الرمل ببعضه، طارحة السؤال هل يمكن للكيانات القديمة والتاريخية أن تعود ثانية لتولي عرش العالم في المستقبل ؟


الشخصيات

تنقسم الشخصيات إلى شخصيات فاعلة درامياً وهي [ حفار القبور،الأشباح ،الغانية، نيرون،سابينا ،كاليجولا،الشاعر ]، كما تنقسم الشخصيات إلى شخصيات من الذاكرة، تم ذكرها في الحوار الدرامي علي لسان الشخصيات الفاعلة درامياً وهي[إخوة يوسف،نابليون، ايسيني بوديسيا، أوكتافيا شقيقة نيرون ،والدة نيرون، بزرجمهر،قابيل، وهابيل،وحمورابي، وجلجامش، وأبونواس ]

-الشخصيات الفاعلة درامياً، هي شخصيات تاريخية،أو كيانات قديمة كانت تعيش في الواقع المادي، ورحلت إلى الواقع الميتافيزيقي،  بإستثناء شخصيتي حفار القبور، والشاعر اللتين وردتا من خيال المؤلف ولم يكن لهما أي وجود مسبق في الواقع المادي أو الوجود التاريخي ،ونلاحظ أنه توجد علاقة وطيدة بين كاليجولا،ونيرون،إذ أن الأخير، هو ابن شقيق كاليجولا وكلاهما كان طاغية مجنون ،وقد يأتي اختيار شخصيتي نيرون وكاليجولا في أن الأول امتداد للأخير الذي تولي عرش روما منذ عام ٥٤م إلى عام ٦٨م، والذي عرف في بداية حكمه بشعبية كبيرة لتلبيته لرغبة الجماهير التي كانت تنادي بالخبز والألعاب، لكن في السنوات الأخيرة من حكمه تحولت شخصيته بشكل كبير ليصبح طاغية يبتعد أكثر فأكثر عن الواقع و ليرتبط ليومنا هذا إسم نيرون بالإستبداد و الفساد. بينما  كاليجولا الذي سبق نيرون في تولي عرش روما في الفترة من عام ٣٧ وحتي عام ٤١م، له حادثة عالقة بذاكرة المسرحيين حين  أمر بحرق أحد الممثلين حياً في المدرج لسخريته من حاكم روما، أما نيرون فقد حرق روما كلها  حتى يتمكن من تجاوز مجلس الشيوخ وإعادة بناء روما مرة أخري كما في مخيّلته.

أما “بوبايا سابينا”، وُلدت في عام ٣٠ للميلاد وتُوفيت في ٦٥ للميلاد. كانت إمبراطورة رومانية بسبب كونها الزوجة الثانية للإمبراطور نيرون،إذ كان نيرون متزوج من شقيقته “أوكتافيا” و لكنه أحب (بوبايا سابينا) و كانت وقتها زوجة لأحد الاشراف، و بعد أن تخلص نيرون من أمه فقام بتطليق زوجته أوكتافيا  وتزوج رسمياً من (بوبايا سابينا) و قام بعدها بنفي اوكتافيا بعيداً للأبد.

-شخصية (حفار القبور) ورغم أني أشرت سابقاً أنها وردت من خيال المؤلف إلا أنني أجد في خطها الدرامي تناص غير مباشر مع أفكار وردت في مقال يحمل عنوانه اسم الشخصية للكاتب “جبران خليل جبران ” ويتحدث فيه عن شبح ضخم ظهر لحفار القبور ودار حوار بينهما عن لماذا اتخذ الأخير حفر القبور صناعته، وهل لدي الحفار طاقة علي الوحدة والإنفراد؟وبأي اله يؤمن إن لم يكن يؤمن بغير نفسه ولا يكرم سواها ؟ ،وحين سأل الحفار الشبح من انت اجابه قائلاً [ الأله المجنون ولدت في كل زمان ومكان وقد تعلمتُ الاستهزاء بالبشر من الأبالسة، وفهمتُ أسرار الوجود والعدم بعد أن عاشرتُ ملوك الجن، ورافقتُ جبابرة الليل، فأنا والزمان والبحر لا ننام؛ ولكننا نأكل أجساد البشر، ونشرب دماءهم، ونتحلى بِلهَاتِهِم].
-شخصية الغانية : شبح ينهض من تحت الثري ،وربما تكون الأصل التاريخي لشخصية بوبايا سابينا 
-شخصية الشاعر وهي شخصية تشير إلى الذاكرة الجمعية للتاريخ البشري الذي يمتلك الحجاج في كشف الزيف أو تصويب المعرفة،فنلحظ أنه الحكيم أو الفيلسوف الذي يتجادل ديالكتياً بغية بلوغ الحقيقة أو المعرفة أو كشف حقيقة الوجود النصي للعزيف.

شخصيات وردت من الذاكرة

إخوة يوسف : تناص من القصص القرآني ورد علي لسان شخصية الشاعر
نابليون : هو نابليون بونابر،قائد عسكري وسياسي فرنسي إيطالي الأصل، بزغ نجمه خلال أحداث الثورة الفرنسية ، وقاد عدَّة حملات عسكرية ناجحة ضدَّ أعداء فرنسا خِلال حروبها الثورية . حكم فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر  بصفته قنصلًا عامًا، ثم بصفته إمبراطورًا في العقد الأول من القرن التاسع عشر ، حيث كان لأعماله وتنظيماته تأثير كبير على السياسة الأوروبية،ورد ذكر اسم نابليون
ايسيني بوديسيا : اسم مهم في مقاومة حكم قادة الأمبراطور نيرون،والتي نشأ تمردها من خرق اتفاق روما مع شعبها الأسينيي بعد وقت قصير من وفاة زوجها الملك براسو تاجوس ،وهي من أحرقت لندنيو أو لندن الحالية .
أوكتافيا: هي كلوديا أوكتافيا وهي أخت غير شقيقة للإمبراطور الروماني نيرون، وهي أول امبراطورة رومانية.
أم نيرون ( أغربينيا) التي أوعذت الي كلوديوس الذي  اشترى ذمم رجال من مجلس الشيوخ واستصدر منهم قراراً يقر زواجه من «اغربينيا» ويعتبره زواجاً رسمياً. وبعد نجاح هذا الزواج عكفت «أغربينيا» على تحقيق حلمها بأن يأتي اليوم الذي يتولى فيه ابنها «نيرون» الإمبراطورية،فعكفت أولاً على إقناع «كلوديوس» على إعلان تبنيه لنيرون ثم وضعت خطة مستمرة لإظهار نيرون في الحفلات الرسمية بصورة الرجل كامل النمو والابن المفضل عند كلوديوس ،ثم تقربت من «أوكتافيا»،و كانت تهدف من هذا التقرب أن يكلل في النهاية بزواج «نيرون» من «أوكتافيا» ليضفي ذلك شرعيه عليه ليحصل على الحكم وقد تم لها ما خططت لتنفيذه، وتزوج «نيرون» من «أوكتافيا»وظلت أغربينيا هي من تتحكم في كل شئ بنفوذها حتى أثار ذلك غضب نيرون، فدبر لأمه عملية اغتيال وهي الغرق بحرا في أحد الرحلات، إلا أنها نجت من القارب الغارق بأعجوبة، وبعد نجاة أمه قرر «نيرون» التخلص منها بإرسال جنود إلى قصرها ليقتلوها، وبالفعل قتلها الجنود بالسيوف ثم أحرقوا بقايا جثتها.
الفيلسوف سينيكا: معلم نيرون ومستشاراً له وكاتب مسرحي .

بزر جمهر: هو الحكيم والكاتب والفيلسوف الفارسي الذي كان وزيراً لأنوشيروان (كسري) ولقب بوزير الصدر الأعظم ،أعدمه كسري الثاني حفيد انوشيروان علي مرأي ومسمع من الناس وأمام ابنته التي خلعت غطاء رأسها في إشارة لأنه اندثر الرجال في ذاك العصر ولم ينتصر للحق والعدل والعقل في استتباب أمن مملكته.

حمورابي : سادس ملوك السلالة  البابلية الذي اشتهر بإصداره مَسَلته المَشهورة، المنحوتة من حجر الديوريت الأسود والتي نقش عليها  قانون من أوائل القوانين التي تركز بشكل أكبر على العقوبة الجسدية لمُرتكبها هو قانون حمورابي .
-جلجامش: بطل ملحمة الوركاء أو أسطورة جلجامش التي تحدثت عن الخلود وعشبة الحياة
أبو نواس: هو،أَبُو عَلِي اَلْحَسَنْ بْنْ هَانِئْ بْنْ عَبْدِ اَلْأَوَّلْ بْنْ اَلصَّبَاحِ اَلْحُكْمِيِّ اَلْمِذْحَجِي،شاعر عربي، يعد من أشهر شعراء عصر الدولة العباسية ومن كبار شعراء شعر الثورة التجديدية.
★لم يشر المؤلف في إرشاداته النصية أو الهوامش إلى أي تعريف بالشخصيات الفاعلة درامياً،لكننا لاحظنا أن الشخصيات الفاعلة درامياً وكذا الشخصيات الواردة من الذاكرة أغلبها من أزمنة مختلفة وتاريخية،وأن هذه الشخصيات جميعها كانت لها وجود مسبق ثم غابت عن الحاضر،فأصبحت معدومة، لأنها لم تعد موجودة في الحاضر،لكن منير راضي ينطلق من فرضية تمثل إشكالية  تكمن في احتمالية تواجد هذه الشخصيات في المستقبل .
لذا فإن استدعاء مثل هذه  الشخصيات في نص “منير” يبرز القدرة والزمان أي البعد الشعوري الذي يحيله العدم بإعتباره أحد عناصر الموقف الإنساني في علاقاته بالأشياء وبالأشخاص، فالعدم غياب وجود، فالذوات في العدم معراة من الصفات ولا توصف بصفات الأجناس لأنها ليست وجوداً مثل الحياة أو الجوهر أو الأعراض ،فالعدم موت لذا تظهر الشخصيات الفاعلة درامياً في صورة أشباح أو خيالات،وكأن المؤلف يسعي إلى إثبات وجود هاته الشخصيات من العدم،إذ يرتبط إثبات المعدوم أو نفيه بمسألة تأثير الفاعل،ولا يعني ذلك وجود إرادة خارجية مشخصة بل يمكن أن يكون من إرادة الإنسان وفعله واختياره الذي يوجد من عدم ويعدم بعد إيجاد، فالوجود هو الثابت، أما المعدوم هو المنفي القديم ،الذي نبش فيه حفار القبور المنعدم وجوده هو الآخر،بدليل دعوة الأشباح له بال(حوذي) أو سائق العربة التي يجرها حصانين، وكأن وسيلة الإستدعاء ممكنة،ومنطقية رغم اختلاف الأزمنة والحال بين الشخصيات المستدعاة، وهنا يثار السؤال هل محاولة “منير راضي ” في استدعاء الكيانات القديمة والتاريخية بنصه العزيف تتبني رأي الأشاعرة في أن المعدوم متميز وكل متميز ثابت ؟
-إن الإجابة علي هذا السؤال ستقودنا للبحث في المعدوم الممكن،إذ أن الأثار المندثرة والحوادث العاطفية هي ما كان موجوداً، فعُدم، ومعرفته ممكنة،لكن مالم يوجد،وسيوجد كما ورد في نص “منير” أي استحضار(نيرون) المعلوم بالبديهة عدم وجوده في الحاضر،وعملية إيجاده من خلال الممكنات الجامعة للمنطق النظري، وللمنطق الوجودي على السواء،هي الدراسة المستقبلية،او الجدلية من خلال المعارف الممكنة،او الوجود الشعوري من خلال وجود العدم الذي يعني وجوده هنا الغياب أو الفراغ،إذ أن تعريف الممكن لذاته قائم علي الشبيه وهو تأكيد العدم لذاته،فالقديم المستدعي هو افتراض ذهني خالص،وواجب وجوده ليس عينياً بل ذهنيياً خالصاً،وبالتالي فإن كشف البداية بالوجود العيني اي العالم الحسي يكشف النهاية أي الواجب والضروري الذي هو مجرد إفتراض معرفي،وليس وجوداً حسياً مرئياً نشأ عن التضايف أو الإلتزام،وهنا يكمن الإشكال هل يتحقق هذا المطلب من داخله ذاتاً بلا موضوع متقوقعاً على النفس النرجسية وإنعكاساً مجرداً؟ ام يكون له مضمون من العالم كنظام اجتماعي،وكقانون لحركة التاريخ ؟

لا شك أن التصور العام للإنسان والمجتمع، والتاريخ هو التصور القائم علي وجود الثابت وراء المتغير، فالعلاقة الأفقية بين الطبيعيات والإنسان تجعل الأخير جزءاً من التاريخ وبعداً للزمان، فافتراض العدم إساس الوجود،وأن الوجود قائماً عليه  حسب فرضية منير راضي (إن لم تقع  حبة الحنطة في الأرض،وتمت ،فهي تبقي وحدها،ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير )، ينفي بذلك القدرة على تحويله إلي وجود،ويصير العدم واجباً لا يمكن تغييره وتحويله إلي وجود ممكن، فإثبات المعدوم يعني استحالة رفضه والعجز عن مقاومته،وايهام الناس بوجوده،وبالتالي تخاذلهم على تحقيق الوجود، فالخطورة التي جنح إليها “منير راضي ” تكمن في محاولة إثبات العدم وليس نفيه، فإستحضار الطاغاة من الدولة الكلوودية هو اعتراف بالأمر الواقع واستسلام للهزائم التي تستشرف نهاية العالم حرقاً ودماراً، إذ أن الدلالة المباشرة في الوجود والعدم هي الواسطة بين الثابت والمتغير فالانتقال والحركة من العدم الي الوجود أو الصيرورة الواسطة التي هي وجود في الذهن تجلي في الوجود الكتابي ل(منير راضي ) عن طريق الخلق والإبداع والتحقق لذاته الزائدة على الماهية، أو الحقيقة، فكانت ذات المؤلف أقرب إلى إثبات العدم بإستشراف عودة الكيانات القديمة والمعدومة في ختام نصه لتولي عرش العالم، والحقيقة أن المعدوم ليس ثابتاً،بل هو نفي كالممتنعات والخيالات،وهذا ما يتناقض مع انتفاء صيرورة العدم ونفي حاله من خلال ملاحظة حركتي الإعدام والإيجاد التي اشتغل عليها “راضي ” في نصه،فالحال الذي هو هيمنة السلطة بكافة صورها (الاجتماعية، والاقتصادية، والدينية ،والمعرفية ……) ليس مجرد عرض بل علة، أي أنه مؤثر وفعال يفسح المجال للفعل الإنساني في العالم إلى تجاوز هذه السلطة بتحليل العقل للموضوعات ذاتها واتفاق نتائج هذا التحليل مع تجارب عديد من الأفراد، فنري المؤلف يذكر حوادث تتشابه مع حادثة حريق روما كحريق مايركي العظيم عام ١٦٥٧ بالعاصمة اليابانية أيدو في اتهام صريح من الشاعر الي نيرون بأنه الفاعل، فالإتهام دائماً هو أسهل أنواع الدفاع عن الذات والعجز،لذا عمد “منير” الي خلق صراع أيديولوجي يولد من العدم أو على حسب تعبيره (حبة الحنطة التي وقعت في الأرض وماتت) فإن وجودها المعدم اي غيابها كحبة حنطة ،أصبح وجوداً لثمر كثير،اي أن مفردة النهاية، أو نهاية التاريخ  وفق فرضية “منير راضي، هي خلل منهجي في التعاطي مع حركة التاريخ والقيم، بل إننا لم نفهم أبداً أن اهتمام الإنسان المبالغ فيه بالثقافة النسخية والتي تسعي لجعل البشر نسخة واحدة مرجوة هو فعل تعويض عاطفي لتناقضات حضارة  الإنسان نفسها والتي لا يمكن أن تكون ختاماً لصيرورة الحركة الإجتماعية والمعرفية في التاريخ،لذا، يستبدل المؤلف مع قارئه لعبة الشك بالمعرفة، ومن خلال الصور التي تم استحضارها فعلياً أو ورد ذكرها على لسان الشخصيات ،إذ عملت  كظاهرة حدودية تعيد ما هو غائب أو ميت أو غير مرئي إلى فضاء الإدراك، أي إلى الحضور، وبعيداً عن التفضيل بين الشخصيات، أو الإنسان الشرقي والإنسان الغربي، إلا في إطار التصنيف المعياري الذي خلقه الإنسان الغربي أو الشرقي  المنتمي لذات الثقافة، لأن الواقع أو الحال الحضاري لكل منهما يختلف عن الآخر،إذ لا يأتي التفضيل سوي في البيئات المموعنة بالمعايير والإنطباع،إذ أن وهم السيادة هي، القيمة المتجاوزة ،أما المال والسلطة هما المعيار في التفضيل لا في البحث عن الحقيقة وتعرية النتاج الإنساني من خلال اجترار الأحداث التاريخية بين الشرق والغرب.

الحوار المسرحي 

اتسم الحوار أو الفعل الدرامي الذي تميزت لغته الحداثية بحواريتها الدلالية،والإحالية، والرمزية، والسيمائية المتعددة، التي تنسج علاقات تفاعلية، وتناصية متعددة، مع باقي بنيات النص،لاسيما براعة منير راضي في تعدد اشكال الاختزال التركيبي النحوي كحذف المبتدأ أو الخبر من الجملة الاسمية، أو حذف الفاعل من الجملة الفعلية، وهناك الاختزال الصوتي، أو اللفظي، ويعني به التغيير في البنية المصرفية للكلمة، وهدفه تسهيل النطق، وتيسير اللفظ، وأخيراً الاختزال الدلالي، إذ أنه يعمد لبيان وتحديد الدلالة المختزلة بلفظ واحد، فليست أغلب النصوص المسرحية ينتهج كتابها هذا الشكل الإختزالي،فهو نموذج أدبي، لغوي،أو لساني بالدرجة الأولى لكنه من التكثيف والتشويش الخارق إلى حقيقة ما وراء الكلام، فقيامه علي الفعل الفردي، أو بضعة أفعال مركزة، وتفاصيل قليلة، وشخصيات محدودة، لا تزيد عن خمسة شخصيات وذروة قريبة من النهاية، وخوضه في صراع مركزي واحد دون تغيير في المناظر المسرحية،  إبراز ما يميز هذا النص بوحدة الأثر العام .

-لقد استطاع” منير راضي ” في استبداله للعبة الشك بالمعرفة أن يبرز سمات الهوية القبلية التي تقوم علي المرتكز السياسي، بل أضاف إلى ذلك محاولات الكشف عن العناصر المتصلبة وإبراز أوهامها ومحاولات إخضاعها لمصير العصر أو الوجود الراهن وأساسه وصيرورة الزمان التي أتاحت للمتلقي القارئ إمكانية تشكيل عناصر جديدة دون سيطرة المطلق علي خطابها أو تحويل هذا الخطاب إلى مغامرة أصولية خارج مفاهيم الاختلاف والمغايرة ،عاجزة عن إدراك الجديد،لكن رغم نجاح المؤلف في خلق المتجانس من اللا متجانس واختزال المعقد في البسيط،وتحويل الطغاة إلى وحدة متجانسة ومتميزة،إلا أنه لم ينجح في بلوغ ماهية ثابتة مستقلة عن التاريخ واستعاض عن ذلك بالجدلية التي انتهت بردم إرادة التحديث وتأسيس أوهام قد تقود إلى الإنغلاق والتطرف، فما كان منه كمؤلف إلا أن يعود إلي رشده بترك نهاية نصه منفتحة وكأن الصراع الأيدولوجي سيظل قائماً لدى المتلقي القارئ كي يعيد تغيير طريقة تفكيره ونظرته للأمور في كل ما يتعلق بالثقافة ويسعى إلى تقديم ذاته الثقافية إلى العالم تقديماً مهيكلاً يضع كل شيء في نصابه متجاوزاً خطاب الهوية القبلية والصلبة.


★ناقد-مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى