شيماء مصطفى: “الكلب الذي رأى قوس قزح “..لعصام الزيات أزمة نسب أم أزمة هوية؟
شيماء مصطفى ★
بتواشج فني بين عدة خطوط سردية، يضعنا عصام الزيات أمام حزمة حوادث قُذفت على دفعات غير متوالية بطريقة التلميح لا التصريح في روايته “الكلب الذي رأى قوس قزح” الصادرة عن دار دوّن، كحادث العَبَّارة في رمزية دلالية لحادث العبَّارة السلام 98 التي راح ضحيتها الكثيرين في 2006، وكذلك جائحة كورونا في السنوات الأخيرة، ولكنه لم يذكر ذلك بل تلاعب بالقارىء من خلال الإشارة إلى الحاجة لإسطوانات الأكسچين دون تباعد.
ولكن الطرح الأهم في الحزمة هذه، هي الأرض، الأرض التي لم يدرك السيد عزت محروس قيمتها، ولا التضحيات التي قَدَّمها أجداده للحفاظ عليها ، لكنه باعها فعاقبه القدر بالشتات، حتى حين اشترى بدلًا من 8 قراريط، فدانًا ما يعادل24 قيراطًا، أي ثلاثة أضعاف المساحة، لم يكن ليشتريها إلا ليبيعها ويتربح منها.
قبل سنوات أصبح رواد التواصل الاجتماعي يصفون أي سلوك لا يتقبلونه (الْفِلْح)، وأي شخص لا تروقهم تصرفاته/ تصرفاتها (فلاح/ فلاحة)، وإن عاتبتهم عللوا أنهم لا يقصدون الإهانة للمهنة، بل يصفون السلوك، ولأن المنشور الواحد على مواقع التواصل الاجتماعي يسري كما النار في الهشيم، فجراء ذلك أصبحت المهنة سُبة لأربابها،
وخسر معظمهم ما يملكون من أراضٍ، فغواية التمدن بما فيه من فرص وخدمات أقوى من بساطة الريف، متناسيين أن فريد الأطرش في أغنيته الشهيرة (الفلاحة) أعقبت قانون الإصلاح الزراعي أعطى للفلاحة وأبنائها ما لم يعطه غيره.
تواشج الكلب والغراب
بالعودة إلى (الكلب الذي رأى قوس قزح) فنجد في خدعة بصرية الغلاف لجسد رجل برأس غراب والعنوان يبدأ بالكلب فلا تجد أي علاقة، ولكن بتأمل بسيط للعتبة القرائية الأولى للنص المتمثلة في العنوان سنجد رأس الغراب وفقًا للرمزية لدى المؤرخ اليوناني “بلوتارخ” تشير إلى العفة كونه يتزوج مرة واحدة، وهنا لا تعرف أيهما أكثر وفاءً السيد أم زوجته نور، فالدمعة المتأرجحة على الغلاف لا تعرف هل هي لنور أم للسيد، فالأحداث جميعها مفتوحة ولا تجد أي خط سردي بنهاية مكتملة حيث تركت للقارىء جميعها، وبالعودة لرأس الغراب في الموروث الشعبي فإن نعيقه نذير الشؤوم علاوة على لونه الأسود، وحين ننتقل إلى الموروث الديني سنجد الغراب أول من علمنا الدفن من خلال قصة قابيل وهابيل، وبالربط بين الكلب والغراب سنجدهما يجمعهما الوفاء والتكامل الوظيفي، فالسيد في نهاية المطاف عمل كحارس وَفيّ لقبور الأحبة، أما عن الكلب الذي رأى قوس قزح، فبمفارقة بين الواقع والرمز يحاول عصام الزيات الإشارة إلى السيد الذي ابتلي بالفقد طوال رحلته الإنسانية فلم يبصر النور رغم أن زوجته تحمل الاسم ذاته، ولم يعش أبدًا حياة الأسياد رغم أنه السيد، فلم يكن له نصيبًا من اسمه أو اسم والده أو جده أو حتى زوجته، رغم محاولة عصام الزيات من خلال سيمائية الأسماء أن يعيد للأمور توازنها، فحين منح البصيرة كان كالكلب الذي رأى قوس قزح، فضرب الثوابت ضربة قاضية ولولا المباشرة التي فسرها فيما بعد للقارىء كون الكلب لا يميز الألوان لكان العنوان أكثر دلالية، ولكن هذا لا يتعارض كون العنوان والغلاف في دلالتهما نقاط جوهرية وموفقة في العمل.
وللماضي بقية!
من خلال الفلاش باك ، ودائرية الحدث، يسحبك عصام الزيات بمزيج من أفعال مضارعة وبعض الأفعال الماضية والجمل القصيرة ليكسب النص إيقاعًا سريعًا بين ثلاث ردهات سردية: (أمام السور، السيد، في الغرفة) فتتعرف نور، وخميس وصفية، وعزت محروس، وكمال الغائب جسدًا الحاضر اسمًا.
يراود السيد عزت الشكوك حول نسب طفليه: (السيد وصفية)، فكل الدلائل الظاهرية تؤكد ذلك كسقطات اللسان لنور لحظة تواجدها في المستشفى قبل الولادة، صفات وملامح الصغيرين لا تشبهه، فلا كروموسومًا واحدًا من 23 كروموسومًا من الكروموسومات الذكورية تظهر كصفة سائدة أو متنحية توحي بأنهما من نطفته.
ولكن وفقًا لمفهوم “أريك إريكسون” عالم النفس الشهير فإن السيد يعاني أزمة تَفُوق أزمة النسب هذه، حيث أزمة الهوية فقد أخفق في خلق توازنًا بين تطلعاته الشخصية ومتطلبات الحياة الاجتماعية، ولهذا كانت كل قراراته انسحابية غير موفقة، فنجده أساء القرار حين تخلى عن الأرض، أساء الاختيار حين تزوج من نور، وحين انسحب من الحياة وارتضى لنفسه أن يرتدي ثوب الشخصية المهترئة ليكون في نظر زوجته وأولاده مجرد شبحًا، حتى حين تجرأ وأجرى بعض التحاليل الذكورية، لم يذهب ليعرف النتيجة، ويقطع سلسال الشكوك، فلا تجد مرة واحدة يتخذ من المواجهة سبيلًا بل ظل متأرجحًا فخسر نفسه وخسر كل شيء.
رغم علامة الاستفهام حول شخصية السيد عزت كونه يحمل في جعبته كل هذا الخواء وعجزه عن إدارة مؤسسة صغيرة تمثلت في أسرته، واستطاع أن يدير منظومة اقتصادية كبيرة كونها عبر سنوات من الكد والكفاح ويلتف حوله العمال فقز قفزة لا يستهان بها في عالم الاقتصاد، كيف لشخص لا يقدر على حسم مصير هاجس صغير يدور في رأسه ويشكل منغصًا له طوال رحلته أن يأخذ قرارات صائبة ضاعفت ثروته؟
ثمة سؤالًا بسيطًا يفرض نفسه هل أحسن السيد عزت معاملة عماله كي لا يلقى مصير رجل الأعمال الذي اغتيل بالدهس، وإن كان كذلك لماذا سلك السيد الابن مسلك رجل الأعمال المغتال في اغتصاب حقوق العمال وفصلهم فصلًا تعسفيًا، فيعيدك عصام الزيات من خلال مسلك السيد الابن المعارض لقناعات الأب شكوك السيد حول نسب طفليه، فهناك العديد من النقاط التي ترجح عدم انتمائهما إليه مقابل حُلم واحد التقى به السيد بأمه صفية وأبيه عزت وزوجته نور وابنهما أحمد ليعرف أن السيد وصفية طفليه، ويأخذك للنص القرآني
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ».
الأم أم الزوجة؟
«تستدعي الآلآم بعضها كأنها محفوظة في ملف واحد»
تجد أزمة السيد في علاقته مع زوجته نور تمتد جذورها لعلاقته بأمه في عقدة أوديبية إلى حد كبير، فالسيد لم تلتقط ذاكرته إلى لحظات نادرة تحمل حميمية في علاقته بأمه تمثلت تلك اللحظات التي رأى فيها شعرها، وحين احتضنته بغريزة أمومية سرعان ما عدلت عنها وكأنها اقترفت جرمًا لأنها ضمت ابنها الشاب إلى حضنها في لحظة احتواء لفرح قليل ما يعاودهم، تلك الذكرى التي لم تتلاش من ذاكرة السيد حين شعر بخصوصية علاقته مع نور كونه رأى شعرها.
ولأن الحب لا يُغَذيه الهدايا فإن نور رغم عطايا السيد الكثيرة فإنها لم تألفه، ولم يربطهما حديثٌ حميمي يسوده الود والرحمة، حتى في علاقتهما فكانت علاقة مبتورة مبهمة، ولهذا كانت نقطة البصيرة للبطل حين رُفع الحجب عنه ورأى قوس قزح.
تضعك الرواية أمام مرآة الذات كتلك الموضوعة في صدارة الغلاف دون أن توجهك إلى أي الجهات تنظر، لأنه ووفقًا لاختيارك مرآة مقعرة أم محدبة ووفقًا لزاوية الرؤية التي حددتها ستكون صورتك، فإما أن تكون الصورة واضحة ، حقيقية ، تقديرة، فأنت من تحدد على طريقة لوزيل هاي عن وظيفة المرآة.
★سكرتير التحرير.