بحوث ودراسات

د. محمد أمين: أبو العلا السلامونى.. والاستلهام من التراث التاريخي

(رجل القلعة نموذجاً)

د. محمد أمين عبد الصمد★

يُعد الكاتب المسرحى محمد أبو العلا السلامونى من أكثر كتَّاب الجيل الثالث من كتَّاب المسرح المصرى تميزًا وانتاجًا، ووعيًا بخطابٍ يتبناه، يؤسس له، ويعيد تقديمه للجمهور، وحرص بوعي وفهم على أن يخاطب قراءه ومتفرجيه بلغة هي الأقرب لهم.

تميز أبناء هذا الجيل بإتجاه واضح للاستلهام من التراث الشعبى والتاريخى، فشكَّلوا بإبداعاتهم موجة وجيلًا له سمة واضحة في أعماله، التي إنغمست في بحار الثقافة الشعبية المصرية والعربية، قدم هذا الجيل الكثير من التجارب المختلفة عن الجيلين السابقين له كمًا وكيفًا، فاستلهموا، ووظفوا تراثهم الثقافى في أعمالهم وكتاباتهم، فشكلوا مسرحًا مصريًا متميزًا بملامح شديدة الخصوصية. ووجد هذا التيار فرصته المتميزة ودعمه الأساسى بالعمل مع كبار المخرجين فى المسارح الإقليمية من خلال مسرح الثقافة الجماهيرية.

وابتعد هذا الجيل من كتَّاب مسرح السبعينيات عن الكوميديا الاجتماعية والمعالجة الواقعية لقضايا ومشاكل المجتمع، ويُرجع أبو العلا السلامونى ذلك لسببين رئيسين:

الأول: إدراك هذا الجيل أن الوسائط الأخرى كالسينما والتليفزيون أقدر من المسرح على تقديم هذه القضايا الواقعية بشكل أكثر إقناعًا، لهذا لجأ هذا الجيل إلى ما يجعله منافسًا للوسيطين السابقين، فلجأ إلى الفانتازيا والتراث الشعبى والتاريخى وبقايا الملاحم والأساطير.

الثانى: أن الكوميديا فى هذا التوقيت هى الميدان الرابح للقطاع الخاص الذي لا ينافسه فيه أحد، ورأى كتَّاب هذا الجيل فى تلك الكوميديا مخدرًا لتغييب الوعي، والتنفيس، وتفريغ أى شحنة ثورية، أو معارضة على الأقل، وإن إتجه هذا الجيل إلى الكتابة الكوميدية، فكانت السوداء منها بمنطق أن (شر البلية ما يُضحك).

ومع توالي إنتاج هذا الجيل، تراكمت إبداعاته وتساندت؛ لتُشكل رافدًا وملمحًا مهمًا فى المسرح المصرى، وظهرت لهذا الجيل صحة اختياراته الجمالية والفنية، حتى أن بعض عُمد الكتابة المسرحية من الأجيال السابقة له, نَحى منحاهم، واتجه اتجاههم مثل الكاتب الكبير نعمان عاشور، والذي يُعد من أباء الواقعية فى المسرح المصرى والذي كتب (لعبة الزمن) مستلهمًا إياها من (ألف ليلة وليلة) وكتب (بشير التقدم) أو (بأحلم يا مصر) من تراث التاريخى عن سيرة رفاعة الطهطاوي، وكتب (حملة تفوت ولا حد يموت) عن وقائع الحملة الفرنسية فى مصر.

ويرى السلامونى أيضا أن لجوء هذا الجيل للاستلهام من التراث ارتكز على العقلانية والاستنارة وحقق ما تسعى إليه الواقعية بالمفهوم الحقيقى والعميق ([1]).

وتنقسم رحلة أبو العلا السلامونى الإبداعية إلى مرحلتين شديدتى الوضوح- كما أورد هو فى كتاباته عن تجربته الابداعية – وكما يدل منتَجَه الابداعى.

المرحلة الأولى: وهي المرحلة التي سبقت هزيمة عام 1967 , فلم يكن السلامونى فى هذه المرحلة مهتمًا بالكتابة للآخرين، فقد كانت كتاباته لنفسه، مستمتعًا بحرية التعبير عن ذاته، غير منتظر من الآخرين سوى الفرحة بالمنتج المتقدم لهم، وهي فترة رومانسية من حياة الكاتب تتحكم فى سطوره مشاعره الجباشة وأحاسيسه المتوثبة إزاء العالم، ويصف السلاموني هاتين المرحلتين فيقول: “أن تكتب لنفسك فتلك هى السكينة والطمأنينة، أما أن تكتب للأخر فأنت تفتح على نفسك أبواب جهنم “. وهو ما ينطبق عليه تماما فقبل عام 1967م كان يكتب لنفسه دون قيود أو حدود، فكتب الشعر الرومانسى عن الحب والموت، وكتب عن هيروشيما ومحنة الطيارين الذين ألقوا عليها قنبلة الدمار، فى مسرحيته (رحلة الموت).. وكتب مسرحية تجمع بين فلسفة شوبنهور عن إرادة الحياة واللبيدو عند فرويد فى مسرحية (الملكة)، وكتب عن جدل حياة اللذة الحسية وحياة التصوف الروحية فى مسرحية (الجدب)، كما كتب رؤية سايكو درامية وتجريبية فى مسرحية (تحت التهديد)، وكتب عملا ميتافزيقيا فى إطار عبثى فى مسرحية (مباراة بلا نتيجة) …. وغيرها وغيرها من الأعمال التى كانت تشبع رغبته الذاتية فى الكتابة، والإستمتاع برياضة وجدانية واستمرت تلك المرحلة من حياة السلامونى حتى جاءت نكسة 1967.

المرحلة الثانية: وهي المرحلة التى أتت بعد نكسة 1967, وفيها انتقل السلامونى إلى مخاطبة الآخرين، والكتابه لهم، وقدم كتابات تنشغل بالهم العام وقضاياه، وما لبثت تلك الكتابات أن وجدت طريقها إلى خشبات المسرح، مسارح الثقافة الجماهيرية في الأقاليم أولاً، ثم في مرحلة لاحقة قُدمت تلك النصوص على مسارح البيت الفني ومسارح القاهرة.

وصارت الكتابة عند السلامونى فعلًا تنويريًا، فعل ذو دور اجتماعى، فكان همه الأول قضايا الوطن، وإستند إلى التراث القصصى والتاريخى، مواجهًا قضايا الهزيمة والإنكسار وجماعات التأسلم السياسي، ودعاواها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

رؤية السلامونى للإستلهام من التراث التاريخى:

يرى الكاتب محمد أبو العلا السلامونى أن التاريخ الإنسانى من أهم المصادر التى تمد الكاتب المسرحى بموضوعات وتيماته التى تحمل خطابه، ورسالته، إذ تحتوي وقائع التاريخ على كافة عناصر بناء المسرحية، كالأحداث، بما فيها من حكايات وقصص وأحاديث، وكالشخصيات ذات الأنماط المتعددة والآراء المتصارعة، كما قد يجد فيها بعض الأفكار الفلسفية التى يبنى عليها رؤيته ومقدمته المنطقية التى يستخلصها من عبرة التاريخ نفسه ([2]). ومن السهل من وجهة نظر أبو العلا السلامونى كتابة مسرح مُستمد من التاريخ؛ حتى ولو تداخلت مع أحداث التاريخ أحداث أسطورية أو خرافية، فللكاتب كامل الحرية فى التفسير والتحوير والتأويل، وكل ما يثير قريحته فى الإبداع والتنظير. والصعب في الأمر هو اختيار الإطار أو الشكل أو الكيفية التى يُطرح بها عمله المسرحى، فالكثير من الكتابات التاريخية التي أوردها المؤرخون تأتى فى شكل حكايات باردة، فمن أراد قراءة التاريخ فعليه بكتب التاريخ، أما عملية الإبداع المسرحى للتاريخ فهى العملية الفائقة التى نستطيع من خلالها خلق عالمًا موازيًا – ان لم يكن متفوقًا – للعالم الإنسانى الذي نعيشه، أو بمعنى أخر أن نصنع خلقًا جديدًا ومدهشًا يثير التأمل والتفكير، وربما يدفع نحو صياغة جديدة للواقع واستشرافًا للمستقبل. والقضية الأساسية هى: الإبداع، فكل كاتب يجرى تجربته الإبداعية وفق رؤيته مستخدمًا وسائله وأدواته الفنية المبتكرة ليصل من خلالها إلى نتائج غير متوقعة وإلى خلق مدهش جديد”.

ويرى السلامونى كذلك أن الكاتب المسرحى ليس مؤرخًا، فلا يُحاسب على إلتزامه أو عدم إلتزامه حرفيًا بالتاريخ، بل إن المؤرخين أنفسهم قد تأتى رواياتهم مختلفة حسب أهوائهم ومعتقداتهم ومذاهبهم ودرجة قربهم أو بعدهم عن السلطة. ([3])

رؤية أبو العلا السلامونى للإستلهام من التراث الشعبى:

يبحث أبو العلا السلامونى فى التراث الشعبى عن إطار جذَّاب يشد به المتفرج والمشاهد، ويجبره على إلتزام مقعده حتى نهاية العرض، ووجد أن هذا الهدف يتحقق بتوظيف وإستلهام الأشكال الشعبية والظواهر المسرحية التى أبدعها وجدان فنان المسرح الشعبى بشكل مستند إلى خبراته الفنية، وتلقي وإستحسان الجمهور وتبنيه لما يقدمه، وتَمَثَّل ذلك فى أساليب فن خيال الظل وبابات ابن دانيال وشخصيات صُنَّاع السامر الشعبي فى الريف المصري، وألاعيب المحبظين فى الاحتفالات الشعبية؛ فى الموالد والأفراح والمناسبات الاجتماعية وبعض الظواهر الطقسية كالزار والذكر، والتى تحوى الكثير من أساليب التشخيص والأداء الحركى الفني, وكذلك أساليب رواة السير الشعبية والمداحين والحكائين والمُحدثين والمهرجين والمضحكين والفرافير والحرافيش، والذين يعتمدون جميعاً – من وجهة نظر السلاموني – على عنصر مهم فى طبيعة الفن المسرحى ألا وهو تكنيك (اللعبة المسرحية)، فالمسرحية التاريخية تحتاج إلى كافة الحيل والألاعيب الدرامية لإثارة الجذب، ولتحقيق ذلك يجب ضمان استخدام (اللعبة المسرحية)، التى تكمن فى تلك الظواهر المسرحية، والتى تضمن الحد الأدنى من الفرجة والمتعة، ولا يشغل السلامونى فى استخدامه تلك الظواهر المسرحية قضية تأصيل المسرح أو هويته, ولكن ما يشغله حقيقة هو البحث عن عناصر الجذب والمتعة .. وتحقيق النجاح فى التواصل مع متلقيه.

ومع الاحتفاء الواضح من أبو العلا السلامونى بالتراث الشعبى فى جميع جوانبه إلا أن علاقته بقصص (ألف ليلة وليلة) ظلت علامة استفهام, فهو لم يستنطقها مثلما تعامل مع مصادرٍ تراثية أخرى، إلى أن كتب هو بنفسه عن هذه العلاقة المتوترة مع (ألف ليلة وليلة)، وما الذي حال بينه وبينها – رغم سحرها وعالمها الآسر – أنه نظر إليها نظرة عقلية بالنقد والمساءلة، فصدمت مثاليته ورومانسيته فى مقتل، ففجأة وجد نفسه أمام ملك يغتصب العذارى، ثم يقتلهن بعد ذلك دون تردد أو رحمة، ووجد أنه ليس بملك سعيد ولا رأى رشيد بل هو ملك شهوانى جهول متكبر، وكان لهذا المدخل الدموى لهذا العالم السحرى الجميل، وتأمل السلامونى فتح  له بابًا لاكتشاف أهم نزعتين وشهوتين فى عالم الإنسان وهما: شهوة السلطة وشهوة الجنس، وهما من أبرز النزعات التى سيطرت على المجتمعات الشرقية, ويرى السلامونى أنها من أسباب تخلفنا عن ركب الحضارة المعاصرة حتى الآن؛ فشهوة السلطة استبدت بحكام وسلاطين وملوك الشرق, وظلت جاثمة على الصدور منذ العصر الأموى إلى ما نعايشه الآن, والنتيجة: المزيد من التخلف والتمزق والاستبداد والسقوط .

وكذلك شهوة الجنس التى نوَّه لها السلامونى، مشيرًا لهوس تعدد الزوجات في مجتمعات (ألف ليلة وليلة)، وإمتهان وإستغلال المرأة تحت مُسمى (ما ملكت اليمين) من جوارٍ وإماءٍ، وما ابتدعته الجماعات المتأسلمة، ورسَّخته في العقل الجمعي للمجتمع المصري؛ فى فتاواها المرتبطة بالمرأة وفقهها، وما ظهر من صور الزواج المؤقت. وكأنها ترجمة لافتتاحية (ألف ليلة وليلة): ” ذات الحوادث العجيبة والقصص المطربة الغريبة، لياليها غرام فى غرام، حب وعشق وهيام “.

وكل أحلام (ألف ليلة وليلة) من بساط سحرى وحصان طائر ظلت مخدرًا للشرق كله، ولكن الغير حوَّلها إلى واقع ملموس، فظهرت الطائرة والقمر الصناعى، واكتشفوا العالم الجديد، ورادوا المجهول، وحوَّلوا الأحلام إلى واقع شكلوا به عالمًا جديدًا. وفى الشرق مجتمع (ألف ليلة وليلة) البلورة السحرية التى نرى من خلالها أماكنًا متعددة بالخيال، أما الغير فقد إخترع الراديو والتليفزيون وكل وسائل الاتصال الحديثة، حلم أهل الشرق بالعفريت والمارد الذي يصنع المعجزات والخوارق.

ويؤكد أبو العلا السلامونى أن (ألف ليلة وليلة) مرآة ناصعة لأحوال الشرق المزرية المتخلفة، بما ورد فيها من حكايات عن السلطة الغاشمة والشهوة الجامحة ونوادر الجوارى والغلمان والعفاريت والجان.. وغيرها من الحوادث العجيبة والقصص المُطربة الغريبة. وحكايات الغرام والهيام هى نفسها التى ما زالت فى زمننا المعاصر، ما زال الحكام مستبدون، ونحن تسكننا هواجس الشهوة مما انعكس على وضع المرأة، وما زالت العفاريت والجن تسكن أعماقنا، فترسخت الخرافة وسيطرت على العقول فى كل الشرائح دون إستثناء، وتواجدت من خلال كل الوسائط والوسائل الإعلامية، ولم يقترب أبو العلا السلامونى من (ألف ليلة وليلة) إلا فى عمل واحد فقط، وكان للأطفال، هو (حسان أقوى من الجان). وإستخدم التيمة بشكل مُضاد لخطابها الأصلي، لتأكيد فكرته، إذ استلهم قصة (عفريت المصباح السحرى)، الذى خرج للأطفال وأرادوا أن يستخدموه فى علاج البعض المشاكل والسلبيات الاجتماعية، إلا أن العفريت يعجز تماما عن مواجهة تلك السلبيات، رغم ما لديه من إمكانات خارقة، بغرض تأكيد أن إرادة الانسان أقوى من قوة الجان فى مواجهة مشاكل المجتمع، وكأن السلامونى يحاول أن يغرس فى الطفل منذ تنشئته الأولى أن العلم والإرادة الإنسانيين هما سببا التفوق وعماد التقدم، وما هو خرافى لن يقدم أى شئ للإنسان بل سيكون سببًا فى التخلف.

ويميل أبو العلا السلاموني إلى إعتبار أن التراث الشعبي هو رؤية منحازة لأبنائه من الطبقات الشعبية الذين هم منتجيه لإشباع احتياجاتهم وللقيام بوظائفه في بنائهم الاجتماعي. كما أنه تسجيل حي مستمر وعفي لكفاح الجماعة الشعبية وأحلامها وآمالها، كما أنه ترجمة حية لمعتقداتهم ومنظومة قيمهم ومستودع أفكارهم.

ويضع الكثير من المنظرين والمثقفين الثقافة الشعبية مقابلاً للثقافة الرسمية. التي هي إنتاج جماعات الصفوة والنخبة التي تحكم وتسيطر على بؤر القوة والسلطة في المجتمع، وتنتج ثقافة ترسخ أوضاعها وتحميها، وتكون في الكثير من علاقتهما – الثقافة الشعبية والثقافة الرسمية – في علاقة تضاد، أحياناً بالتوازي وأحيانأص قليلة بالصدام، حسب سعي كل مجموعة إلى تسييد خطابها أو إلغاء خطاب المجموعة الأخرى.

التأصيل للمسرح العربي عند السلاموني:

لم يشغل أبو العلا السلاموني نفسه – عكس أبناء جيله من كتَّاب المسرح – بقضية تأصيل فن المسرح في تربة الثقافة العربية، بل كان يرى حسماً للقضية لديه أنه لا يوجد عندنا شكل مسرحي تقليدي فيما عدا بعض الظواهر المسرحية البسيطة، ويرى أن ظاهرة المسرح تدخل في إطار التراث الإنساني، الذي هو إرث للجميع، عليهم أن ينهلوا منه، مع حرية الخلق والإبداع والإستفادة من الإنفتاح على التجارب العالمية السابقة والموازية، والإبداع المستند لثقافتنا والآخذ من التراث العالمي دون إنكار أو إستبعاد. وقد يكون هذا الرأي هو ما جعل إنتاج أبو العلا السلاموني يهتم بإنتاج مسرح يطرح قضاياه، دون الإنشغال بقضايا الشكل، وإستجلاب أشكال من تراثنا القديم، ومحاولة إحيائها غصباً أو تلبيساً، ولم يشتبك في مجادلات نظرية وتنظيرية تأخذه بعيداً عن مشروعه المسرحي الذي خطَّه ووضع أسسه ولبناته وشيَّد فيه.

وكان رأيه الواضح والذي قدمه مرارًا إحداها في (ملتقى المسرح الشعبي)، والذي عُقد في المجلس الأعلى للثقافة 2018، إذ قال:

” أولاً: أن المسرح كائن عند شعوب الأرض كافة، وأن المحاكاة ظاهرة إنسانية موجودة عند كل البشر بلا استثناء، وهو ما يؤكد أن ظاهرة المسرح لها وجود فعلي في بلادنا ويعبر عن خصوصية شعوبنا ويتمثل في كثير من الظواهر الفنية التي نمارسها في حياتنا الثقافية والاجتماعية، ولكنها للأسف لم يتوفر لها فيلسوف في حجم أرسطو يهتم بها ويؤصل لها ويصنع منها نظرية تعبر عن خصائصها ووظائفها ويتابع تطورها مثلما حدث مع فن المسرح الإغريقي، وبالتالي لا مجال لنا في هذا الخصوص أن نتحدث عن الزعم بأننا نحن العرب لم نعرف فن المسرح إلا إذا قلنا إننا عرفنا فن المسرح في شكله الشعبي، ولم نعرفه في شكله الغربي الأوروبي.

ثانيًا: أن المسرح في بدايته له نشأة واحدة عند كل البشر وهي النشأة الشعبية التي من أخص خصائصها لعبة الارتجال والتشخيص التي ظهرت في احتفالات الشارع كما حدث عند الإغريق فيما عرف بالاحتفالات الديثرامبية، أو في أوروبا المسيحية في الساحات والقرى والمدن والعربات الجوالة أو في الكوميديا الديلارتية الشعبية أو في الاحتفاليات في الشرق الأقصى كعروض النو والكابوكي أو عندنا نحن في الشرق الأوسط الممثلة في فنون السامر والسير الشعبية والموالد والحكواتي والتعازي والفنون الاحتفالية… وغيرها.

ثالثًا: أن فن المسرح يعتمد في أساسه على فنون العرض الشامل الذي يضم فنون القول من شعر ونثر وفنون الأداء والرقص والموسيقى والغناء والتشكيل، وكل ما يحقق البهجة والمتعة في نفوس الجماهيرالعريضة وليس شرطًا أن يرتبط بمكان للعرض كالمدرج الإغريقي أو الروماني أو العلبة الإيطالية، بل يمكن أن يتحقق في أي مكان، وفي أي زمان مما يؤكد شعبيته بالدرجة الأولى، ولنا في الكوميديا ديلارتي النموذج الأمثل للمسرح الشعبي الذي ما زال له وجود حتى الآن.”

ورفض السلاموني بشدة إستغراق البعض في الشكلية في التعامل مع التراث الشعبي؛ فيقعون فيما اسماه بـ (الغوغائية الشكلية)، فإستخدام المفردات الشعبية وسيلة لإحداث إرتباط وجذب للجمهور من خلال مفردات شعبية ممتعة، تخلق في النهاية عرضاً ممتعاً ذا مضمون يخاطب عقل الجمهور.

ويبلور السلاموني رؤيته للتعامل مع التراث الشعبي والتراث التاريخي فيقول: ” فى إعتقادى أن الشعور بالحرية هو أساس العملية الابداعية – خصوصا فى المسرح – ولقد بدأ لدى الشعور بالحرية فى الكتابة المسرحية عندما وجدت نفسي أكتب عن جنس أدبي ليس له جذور فى تراثنا الأدبى أو ظواهرنا الدرامية القديمة مثل خيال الظل والأراجوز وفن المحبظين وفنون السامر الشعبى والحكواتى والراوى والاحتفالات الشعبية …. وغيرها، مما لا يدخل فى علم المسرح إلا من باب القرابة بعيدة النسب,  كما أن تجربة المسرحية الغربية التى استقرت مناهجها ونظرياتها لم تكن لتحد من حريتى فى خوض التجربة أو عدم الالتزام بها أو إلتزام التلميذ بالأستاذ, فهى تجربة أشعر حيالها بالاحترام والتقدير، وأيضا أشعر حيالها بالقدرة على تجاوزها والانعتاق من إسارها، رغم قوتها وشدة تاثيرها، ولست ملزمًا بالانتماء إليها إلا من باب الإعجاب والإنبهار والمحاكاة, ومن هنا لم أجد فى نفسى حرجًا من أن أخذ من التجربة الغربية ما أريد , وأصوغها كيفها أشاء , وأحذف منها أو أُدخل عليها ما آراه مناسبًا ومفيدًا.”

 لذا كان أبو العلا السلاموني يميل إلى عدم الإلتزام الحرفي من الكتَّاب بما يستلهمونه من  التراث الشعبي, وبما يحمله هذا التراث من مفاهيم تحد من قدراته وتصوراته الابداعية, فللكاتب بالحرية الكاملة في التعامل مع التراث, إذ أن ما يميز الكاتب هو حرية الإبداع,  تلك الحرية التى ليس لها من حدود سوى إلتزام الكاتب بما يعتقد, وبقواعد الفن المتعارف عليها, بالاضافة الى أن كتَّاب الدراما لا يسعون من وراء استلهام التراث الشعبى إلى كشف جديد في عالم الدراسات الشعبية, بل ما يسعون إليه هو الإستفادة بالمفردات الفنية من التراث الشعبي في الإبداع المسرحي .

السلامونى والتراث التاريخى:

تتسم الكتابات المسرحية لأبي العلا السلامونى التراجيدية التاريخية, بأنها ذات بناء درامى كلاسيكى,  أبطالها من ثنايا أضابير التراث التاريخي, وتتشكل موضوعاتها من التراث العربى, وتهتم بهرمية البناء والتشكيل عبر الحكاية، وعبر تنامى الفعل والأحداث، دون فصم عرى العلاقة بين هذا البناء الكلاسيكى والنظرة الجديدة للبطل الذى يسعى إلى التحكم فى مسير حياته، ومصيره، وخطاباته فى سياقات تاريخية بالغة التعقيد بعد تحويله المادة التاريخية الموجودة فى المصادر التاريخية الموجودة فى المصادر التاريخية والأدبية إلى مادة دراسية يتخطى الكاتب بها – أحيانًا – التاريخ للدخول الى عالم الدراما بولع وتأويل شديدين، يساعدانه على إضفاء مفهوم الشخصية التراجيدية على الشخصية التاريخية، وهو المفهوم المعاصر الذى  ساعده على دمج دلالات النص التاريخى بالحياة المعاصرة، ودمج المادة التاريخية بالدراما التاريخية المعاصرة أثناء قراءتها كنص أدبى لتصبح أكثر معاصرة تلقيها كفرجة مسرحية ساهم فى إبداع فقراتها رفقة جيل مسرحى جديد .([4])

ويصرح السلاموني بوجهة نظره في التعامل مع الأحداث التراجيدية التاريخية في تقديمه لمسرحية (فرسان الله والأرض) أو (سيف الله) إذ يرى أن الدراما التاريخية ليست “سوى محاولة لإيجاد رؤية تراجيدية تاريخية، وأقصى ما يمكن أن تطمح إليه هذه المحاولة هي أن تفتح طريقاً للبحث عن رؤى تراجيدية أصيلة في تاريخنا العربي والإسلامي، وهو ما إفتقدناه وما زلنا نفتقده – إلى حد كبير- في تراث الحركة الدرامية العربية حتى الآن ” ([5]) فالتعامل مع التراث توظيفاً وإستلهاماً عند السلاموني تتخذ فيها معاني التراث أقنعة تتفاعل مع الواقع الآني، مجاهدة الرؤى الظلامية بالعقلانية والديمقراطية محاولاً إيجاد إجابات لأسئلة تاريخية ما زالت موجودة وحاكمة وفاعلة.

وتمسك السلاموني فى استلهاماته من التراث التاريخ المصرى بحقه بوصفه مبدعاً فى التأويل الدرامى للحدث التاريخى، وطرح رؤيتة الشخصية ككاتب فهو لا ينقل أحداث التاريخ الماضية كما هى إلى حاضرنا ولا يستنسخ الأحداث ويكررها.

ويرصد الناقد المسرحي المغربي عبد الرحمن بن زيدان عدة خصائص في كتابات السلاموني المسرحية المُستلهَمة من التاريخ منها:

1-     أن السلاموني يقدم الدراما التاريخية من خلال لعبة تلاثية أو في قالب فني شعبى يوحد بين الأحداث، ومفردات التراث الشعبى بحثًا عن باطن وداخل الواقع المصرى لا ظاهره وسطه، ويسنطقها.

2- أن السلاموني يحقق شاعرية الكاتب الدرامية (فى متعة العرض المسرحى) بالجمع بين التراث والتاريخ، ويستحضر الماضى ليفسر الحاضر ويتأمله.

3- أن السلاموني يرصد مستويات الصراع الحضارى والحوار الثقافى بين الأنا (الذات العربية) والآخر (الغرب) ويفسر التناقض الفكرى والسياسى والعقدى بين الشرق والغرب.

4- أن السلاموني يحرص على تقديم نماذج تراجيدىة من التراث التاريخى العربى، وإن تخللت كتاباته ملامح كوميدية، فإنها تدخل فى إطار الكوميديا السوداء أو كما يقول هو:” شر البلية ما يضحك “. ([6])

رجل فى القلعة … التاريخ على المسرح:

إمتلك أبو العلا السلامونى ناحية الوعي بمكونات كل الشخصيات التي صاغها فى هذه المسرحية، وتناول قضايا الديمقراطية، ودور محمد على فى تحديث مصر، ومحاولته التعرف على عمق القيم التى دافع عنها عمر مكرم، وأبرز هذه العلاقة المتوترة بينه وبين الرعية، التى أوصلته إلى الحكم باختيار أبناء الشعب، ويتقدمهم مؤسسته العلمية الجماهيرية – الأزهر الشريف – فجاءت مسرحية (رجل فى القلعة) بكلام التاريخ، وبصوت الدراما، وهما يحاوران السياسة بلغة الصعود، ويحاوران حالة السقوط بأسباب هذا السقوط الذى أعطاه أبعاد أخرى.

ويرى د. حسن عطية أن التاريخ عند السلامونى رداء يتخفى خلفه ليقول رأيه فى الحاضر، وأن له مسرحياته التى تحمل رأيه صراحة فى الواقع الراهن بل يصبح التاريخ فضاء تحققت فيه الوقائع التى تمثل القضايا التى يطرحها، فيعيد بمقدمات ونتائج الأمس مناقشة قضايا الواقع التى لم تبن نتائجها بعد، مما يجعل التاريخ نبراسًا للحاضر، بدلا من أن يكون مقبرة للحاضر علينا أن ندفن أنفسنا فى مكاسبه ومنجزاته كما يراه البعض، أو نفيًا له علينا أن نتخلص من خسائره ومثالبه كما يراه البعض الآخر” ([7])

ويعتقد أبو العلا السلامونى – بيقين قوي – أنه فى جوهر كل عمل فنى يكمن موضوع سياسى, ينقل لنا رسالة قد تكسر أفق توقعات المشاهدين وتمزق معتقداتهم وقيمه الثابتة ، ومن خلال تحليل ( رجل فى القلعة ) من منظور ثقافى مادى، نجد أن الماضى السياسى يتداخل مع الحاضر، فهو لا يحاول فقط إيجاد التشابه لتفسير الماضى، ولكن هذا التحليل أيضاً يحاول الإتيان بالتغيير السياسى فكما يؤكد dallimose, sinfield:” فإن المادية الثقافية تؤيد التحول فى الترتيب الاجتماعى الذى يستغل الناس على أساس العرق, والنوع والطبقة الاجتماعية ([8])

تتناول مسرحية (رجل فى القلعة) – من وجهة نظر السلامونى، مأساة التجربة الديمقراطية حيث تسارعت فكرتان أساسيتان، طالما سيطرا على العقلية الشرقية وفى حالتنا العقلية المصرية

الأولى: هى فكرة (المستبد العادل) التى سيطرت على الفكر الدينى والسياسي والاجتماعى طوال حقب تاريخية طويلة من التاريخ المصرى، ولم يعدم مناصرو هذا الفكر تجاربًا تاريخية، تمثلت فى شخصيات حكمت مصر حكمًا مستبدًا مع تحقيق انجازات تاريخية وفكرية كبيرة.

الثانية: فكرة تستند الى رأى العامة أو رأى الأمة، وتقديمه على أي تصرف فردي من الحاكم، مهما كانت إمكانيته وملكاته.

وفى مسرحية (رجل فى القلعة) تتصارع الفكرتان، متمثلتين فى شخصية محمد على باشا القائد العسكري الألباني، وشخصية عمر مكرم الشيخ الأزهري والزعيم الشعبي، كلاهما كان لديه ذات الحلم بتحقيق نهضة وطنية وبناء مصر الحديثة، ولكن الفكرتين سقطتا من داخلهما، وسقط معهما الحلم الوطنى، وأُجهضت التجربة تمامًا، ففكرة المستبد العادل تحمل فى داخلها جرثومة فنائها لاعتمادها على رومانسية ميتافيزيقية عن العدل، بعيدة عن المنهج العلمى والواقعى، ولذلك ضلت طريقها وانفرط عقدها، وهكذا فشلت أهم التجارب الديمقراطية فى تاريخ مصر الحديث، ويرى أبو العلا السلامونى أنه ما زال مستمرًا ومتكررًا لفشل تجاربنا الديمقراطية المعاصرة ولربما حتى فى المستقبل القريب

وفي المسرحية معالجة لتيمة المؤامرة على البطل، ويقدم النص مجموعة من القيم الحضارية والإنسانية، التى تشكل منظومة فكرية متكاملة تقوم على المواقف الصريحة، وتنهض على القناعات الحالمة بالأفضل، فى مجتمع أفضل، لمواجهة كل المآسى التى تشكل معاني وخلفيات هذا البطل، وهو يحاول عدم الجرى وراء خطيئة الاختيار الفردى، والانفراد بالرأى، والابتعاد عن المشورة، أو يتحمل تبعات أخطائه ومخلفات سقوطه التراجيدى الذي يخفى وراءه أحداثا جسامًا ([9]).

فشخصية محمد على تتقاذفها نزوة التعالى والشعور بالعظمة، فى خضم المؤامرة عليها من الآخر الغائب، أو الآخر الذي يتستر وراء أقنعة اللعب بالأدوار، ويستفيد من الفرص المتاحة لتحقيق مشروع جمعى فى طموح فردى وتحقيق حلم خاص بأنانية مدمرة أثناء مساندة المؤسسات التابعة لهذا الطموح. ([10])

ويرصد النقاد أن وصف السلاموني لطموح بطله محمد علي بالقوي والجامح، يأتي متشابهاً مع الوصف التاريخي، الذي أورده عبد الرحمن الجبرتي، كاتب الحوليات الشهير والمعاصر للحدث، وكذلك الباحث المعاصر خالد فهمي، وقد بالغ السلاموني لمقتضيات الدراما في إبراز هذا الطموح اللامتناهي، والذي خلق منه في النهاية طاغية، يغدر – من أجل الحكم – بأقرب من له، وأول من ساعده.

وتأتي سمات شخصية عمر مكرم عاكسًة ما كتبه الرافعي عن عمر مكرم، المؤمن بحقوق شعبه، والمعبر عنه والمدافع عن اختياراته، فالبطلان (محمد علي – عمر مكرم) يمثلان قيمتين متناقضين ومتضادتين، فمحمد علي الطاغية الديكتاتور يقابله عمر مكرم الداعي للديمقراطية الممثل لصوت الشعب.

ومن هذه المفارقات – أيضا – تحكى الحبكة الدرامية عن شكل المؤامرة على محمد على باشا (الحاكم). وتحكى عن أشكال حبك خيوط المؤامرة على عمر مكرم (الزعيم الشعبي)، بعد المؤامرة على القاهرة المحروسة فى رمز زينب، ورمز الطحاوى كرمز لامتداد مبادئ وأفكار واختيارات عمر مكرم فيهما، وفى محروس والجماهير ضحايا الواقع المختل.

وتيمة المؤامرة على عمر مكرم بوصفه صاحب الفكر التحرري الباحث عن مصالح مصر والنطاق الرمزي (القاهرة المحروسة)، وبوعي شديد ووضوح في الرؤية والهدف، وإصراره على إستبعاد وعزل خورشيد باشا الوالي على مصر من قِبل الباب العالي، والذي ظلم المصريين، ومارس الجبروت على والمظالم على الشعب المصري، وأصر عمر مكرم وخلفه شعب كامل على دفع محمد علي لقبول منصب والي مصر، والضغط على الباب العالي لإصدار قرار بتولي محمد علي.

وكانت شخصية البطل التراجيدي محمد علي تتصف بالحزم ورغبته في رفع الظلم عن المصريين، والدفاع عن حقوق المصريين، وهو رافض لكل قرارات خورشيد باشا – النقيض لمحمد علي – نقيضه الذى يخالفه فى الرؤية.

وأتت شخصية هيلانة فنفخت في طموح محمد علي، مُستنِدَة لاعتقاده بصحة قراءتها للمستقبل، وإن كانت زرعت بفراستها للمستقبل قدراً كبيراً من خطيئة الكبرياء والشعور المبالغ فيه بالعظمة والتفرد، لتؤهله لدوره المستقبلي:

“هيلانة: ……. (تحوم حوله كالفراشة ثم تأخذ كفه بين يديها وتجذبه إليها منساقاً) دعني كي أنظر كفك يا مولاي. فلتعلم يا مولاي بأن الحظ يحالف طالعك الميمون.. مخطوط الكف كشهب تخترق الظلمات لتمضي نحو الشمس.. بل إن نجوم الكون جميعاً تخبو قرب شهابك في رحلته نحو النور.. وجبال الصمت تمور على خطواتك نحو المجد.. وستصعد حتى تصل بهامتك العلياء عرين الشمس ورحم النور.. وهناك ستصبح أنت الشمس وأنت النور..

محمد علي: (حالماً) ماذا أيضاً يا هيلانة …؟؟
هيلانة: ستكون العظمة والجبروت.. وستعلو أعلامك في الآفاق العليا.. وسيعلم كل الشرق وكل الغرب بأنك قلب العالم هذا العصر..
محمد علي: ماذا أيضاً يا هيلانة؟
هيلانة: طالعك يقول بأنك من مواليد البرج الصاعد نحو المجد. إذ إنك من أرض نشأ عليها إسكندر مقدونيا الأكبر.. وكذلك مولود في عام ولد به نابليون فرنسا.. وأتيت إلى وطن معشوق عند الإسكندر ونابليون ويوليوس قيصر.. (تجثو عند قدميه) هذي مصر المعشوقة يا مولاي.. ضع قلبك بين جوانحها الخضراء.. وأرشف من ثغر النيل الخالد كي تتحقق فيك خلود الذكرى والتاريخ ” ([11])

وتمسك عمر مكرم مدعوماً من أبناء الشعب باختيار محمد علي، الذي كان يظن أنه اتفق معه في إرساء مبدأي الديمقراطية، وحرية الاختيار والمحاسبة:

“عمر مكرم: على أية حال يا سادة مبدأنا عند الخلع سيبقى نفس المبدأ فى التنصيب.. مجلسنا قرر أن على الوالي أن يرجع في كل قرار للشعب ووكلاء الأمة.. فإذا لم يقبل قررنا خلعه.. أيضاً هو نفس الشرط لمن نختار من الحكام.. سنُنصِّب من يلتزم بهذا الشرط ويصبح مسؤولاً من مجلسنا في كل قرار يصدر عنه.. هذا مبدؤنا يا سادة في الخلع وفي التنصيب.. “

ويصر عمر مكرم على تأكيد إتفاقه مع محمد علي، وينوه إلى أهمية ان يظل بين الناس في القاهرة المحروسة حتى يشعر بهم، ويستمر على تواصله معهم، ومعرفة معيشتهم ومنغصاتها أو تطويرها

“عمر مكرم: (وهو يمد يده) ضع كفك في كفي يا محمد علي باشا.. الليلة نغلق بك صفحات كانت أحلك ما قد مر بمصر من الظلمات.. كي نبدأ معك وبك صفحات نحو النور ونحو الحريات ونحو أماني الناس.. (ترتفع أصوات المصريين) هل تسمع صوت المصريين.. المصريون أولئك خلعوا الليلة خورشيد باشا الوالي الطاغية الظالم.. خلعوه ليختاروا بدلاً منه الوالي العادل والإنسان.. فتُرى يا محمد علي باشا …أتظن نفسك هذا الوالى العادل والانسان ” ([12])

ولكن كانت إرادة عمر مكرم فى وادٍ ورؤية وإرادة محمدعلى باشا فى وادٍ آخر.

“عمر مكرم: أنا لست أقود قطيعا يا زينب …. أنا لست كما يعتقد البعض بأني أثير الفتنة بين الناس، ما أنا إلا فرد واحد وإذا ما كنت أنا قُدت الثورة ضد كليبر والوالى خورشيد باشا فى الماضى …. فأنا لست الثورة بل كل الناس “.

ورغم أن الفعل السياسي الثائر الباحث عن التغيير يجب أن يتخلص من مطالب المصلحة الخاصة، ولأن عمر مكرم ذو توجه ثوري تنويري يحرص على مصلحة الجماعة، فإتجهت زوجة محمد علي لإيغار صدر زوجها (الحاكم) على عمر مكرم (الزعيم الشعبي)، وشجعت زوجها على خرق إتفاقه مع مكرم بعدم صعود محمد علي إلى القلعة، لأنها ترى أن القلعة هي رمز الحكم وهيبتها، والتي يحرمه منها إتفاقه مع عمر مكرم، بل إنها تحاول تشجيع زوجها على قتل عمر مكرم في إطار خطة تلصق الإتهامات به:

“الزوجة: أولا تنوي أن تصعد للقلعة حقاً؟! ماذا يدفعك لترضخ للسيد مكرم هذا …؟ أولست الوالي الآن …؟ لم لا تتكلم يا باشا…؟
إبراهيم: فلنتركه يرتاح الليلة يا أماه..
الزوجة: لن أتركه حتى أعرف ماذا في الأمر …؟
محمد علي: حسناً يا زوجة والي مصر.. ماذا تبغين …؟
الزوجة: هل تخشى السيد مكرم يا باشا …؟
محمد علي: من قال لك بأني أخشاه.. إني أحترم السيد مكرم دون رياء..
الزوجة: هذا لا يمنع من أن تصعد للقلعة …؟
محمد علي: ما رأيك في هذا يا إبراهيم …؟
إبراهيم: رأيي هو رأيك يا أبتاه
محمد علي: لا تهرب من إبداء الرأي..
إبراهيم: إني مع قلبك في أن تصعد للقلعة.. لكني أيضاً مع رأي السيد مكرم
محمد علي: قد زدت الحيرة في نفسي يا إبراهيم.. ما رأيك يا ديوان؟
ديوان: لم أعهد في مولاي الحيرة في أمر من قبل.. ولذلك لذلك إني مندهش حق الدهشة..
محمد علي: قل ماذا تعني يا ديوان …؟
ديوان: مولاي الباشا يملك قلباً يسع العالم لكن.. هو أيضاً يملك عقلاً أكبر من هذا العالم..
محمد علي: وإذن …
ديوان: لا يملك أحد رأيًا أعظم من رأيك يا مولاي الباشا
محمد علي: حسناً.. (ينادي) يا هيلانة
(تدخل هيلانة كالطيف)
هيلانة: مولاي..
محمد علي: ما رأيك في أن نصعد للقلعة يا هيلانة؟
هيلانة: الطالع ينبيء أنك صاعدها كصعود النجم إلى الآفاق..
محمد علي: هل هذا أمر محتوم يا هيلانة …؟
هيلانة: هذا قدر العظماء..
محمد علي: وإذن فلنترك هذا للأقدار … كي نعرف هل يسعى الإنسان إلى العظمة …أم أن العظمة تسعى للإنسان؟” ([13])

وترى الدكتور أنوار عبد الخالق أن القلعة كمكان؛ وإن دل على السطوة والقوة والسيطرة، فإنه فى ذات الوقت يشبه السجن لمن يقطنها، والقلعة بمكانها ودلالتها تشير الى العزلة. ([14])

وتصف د. نهاد صليحة الأحلام المتصارعة للبطلين التاريخيين بقولها: “غير أن الرجلين لديهما أحلام مختلفة؛ فبينما يحلم القائد الشعبي فقط بدولة ديمقراطية يحكم فيها الناس أنفسهم من خلال ممثلين منتخبين، يرنو الحاكم الجديد لعظمة فردية وحكم مطلق، وعلى نحو متوقع يصبح محمد علي حاقداً على عمر مكرم، ومستاء من تأثيره على الناس، وما يتسبب فيه من إنتقاص من نفوذه. وتأتي نقطة التحول الحاسمة عندما يقرر محمد علي أن يهجر المدينة ويصعد للقلعة، ومثل هذا القرار وإن كان يمثل الإشارة إلى محمد علي باسم نكرة في كلمة (رجل)، وفي عنوان المسرحية، فإنه وبطريقة ساخرة ويحرمه من تميزه كحاكم شعبي منتخب، ويجعله واحداً من جميع من سبقوه من الحكام الأوتوقراطيين المعينين “

ومن النموذج السابق نجد أن الكتابات المستلهمة من التاريخ قد شكلت جزءاً كبيراً من تراثنا المسرحي، وإن تباينت المعالجات ومستوى الصياغة حسب مستوى الكاتب، والقضايا التي يتبناها، والأفكار التي يعتنقها. ولا يمثل اللجوء للتاريخ الرغبة في الهروب من رقابة السلطة، بل قد يكون الهدف فنيًا بحثاً عن عوامل جذب للجمهور، ومناقشة بعض الأفكار والقضايا السياسية والاجتماعية المستمرة في طرح نفسها.

المــراجــــــع:

[1] ) مجلة الثقافة الجديدة , نوفمبر 1986, وأعيد نشر المقال في كتاب (اجتهادات مصرية في البنية المسرحية ) المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية 2016

[2] ) اجتهادات مصرية في البنية المسرحية , مرجع سابق , ص5

[3] ) أبو العلا السلاموني , اجتهادات مصرية في البنية المسرحية : تجربة كاتب مسرحي , المجلس الأعلى للثقافة , ندوة تفاعل الثقافات في العرض المسرحي العربي , نوفمبر , 2006

[4] ) عبد الرحمن بن زيدان, الإختلاف ومعنى الآخر في مسرح أبو العلا السلاموني, القاهرة , المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية, 2008 , ص 30

[5] ) محمد أبو العلا السلاموني : ( فرسان الله والأرض ) أو ( سيف الله) , دراما تاريخية , منشورات إتحاد الكتَّاب العرب , دمشق , 2004 , ص 198

[6] ) عبد الرحمن بن زيدان, الإختلاف ومعنى الآخر في مسرح أبو العلا السلاموني , القاهرة , المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية, 2008 , ص ص 26, 27

[7] ) زمن الدراما , حسن عطية , القاهرة , الهيئة العامة لقصور الثقافة 78

[8] ) أنوار عبد الخالق , مجلة المسرح , الهيئة المصرية العامة للكتاب

[9] ) إجتهادات مصرية في البنية المسرحية , مرجع سابق,  ص41

[10] ) عبد الرحمن بن زيدان, مرجع سابق , ص 40

[11] ) ) محمد أبو العلا السلاموني : رجل في القلعة , مختارات من أعمال محمد أبو العلا السلاموني، الهيئة المصرية العامة للكتاب , القاهرة , 2017 , ص ص 54, 55

[12] ) المسرحية , ص 67

[13] ) المسرحية , ص ص 76, 77

[14] ) أنوار عبد الخالق, مجلة المسرح , الهيئة المصرية العامة للكتاب , 2015

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

★ الكاتب المسرحي  ــ مصــر

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى