إيمان توفيق: من غرفة المؤن بدأت مأساة ” فرحة ” ؟!
إيمان توفيق ★
جميعنا نَعْلمُ ما حدثَ في فلسطين، وفي قدسنا على وجه التحديد، نعلم تاريخه ونعلم ما تعرضت له من محاولات للسرقة، بدوافعٍ دينية أو سياسية، ولكن في كل الأحوالِ هي سرقةٌ للفرحة، الفرحةُ التي تمثلها بطلتنا هنا في أحداث فيلم “فرحة” للمخرجة “دارين سلام” ،المأخوذ عن قصةٍ حقيقيةٍ حدثت خلال نكبة 1948 لفتاة تدعى “راضية” ، استطاعت فيما بعد الهروب إلى سوريا؛ لتروي قصتها وتخلد ما عانى ومازال يعانيه الشعب الفلسطيني من قهر واغتصاب لأرضهم.
عُرض “فرحة” لأول مرة في مهرجان تورونتو السنيمائي 2021، وحاز على عدة جوائز عالمية، من ثم عُرِضَ على منصة (نتفليكس)، ومنذ عرضه وهو يواجه العديد من محاولات التشويه من جانب سلطات الاحتلال التي استشاطت غضبًا من هذا الفيلم.
تدور أغلب أحداث الفيلم في غرفة المؤن في منزل فلسطيني تقليدي، فنرى ما تراه فرحة من خلال فتحة الباب أو الجدار، نستشعر ما بها من ضيق، بل ما بالشعب أجمع من ضيق، من خلال تلك الغرفة والكادرات وزوايا التصوير المستخدمة التي تؤكد هذا الشعور.
فنرى في هذه الغرفة معاناة فتاة لم تلبث أن تكتمل فرحتها بموافقة والدها على ذهابها لطلب العلم في المدينة، حتى يقتحم الاحتلال قريتها ويدمرها تدميرًا، ولحسن حظها أم لسوء ذلك الحظ، يخفيها والدها في غرفة المؤن ويغلق عليها؛ ليحميها من بطش المحتل، واعدًا فتاته أنه سيعود ويخرجها، كان يسيطر على والدها شعور مؤكد بالنصر، فلا يعلم أنه سيموت، وستموت قريته، وبعد سنين وسنين لم يأتِ النصر.
تتوالى الأحداث وتصبحُ ساحةُ منزل فرحة نموذجًا مصغرًا للمذابح التي يقترفها الاحتلال، فلم يكتفِ المغتصب أن يدمر ما بالقرية من بشر، لكنه أصر أن يذهبُ بقدميه لفتاةٍ في جُحرها ويقتل أسرةً من: أب وأم وطفلين، تاركًا رضيعهم يموت؛ ليغرس في قلب فتاة صغيرة كرهًا وبغضًا تجاههم يزداد مع كل نفس تتنفسه.
تلعب الكاميرا بالإضافة للقصة بالطبع، دور مهم جدًا في هذا الفيلم، الغرض الأساسي منه هو تأريخ قصة شعب، وما وقع عليه من ظلم، نرى اقتراب الكاميرا من وجه فرحة في أغلب المشاهد وبمرور الأيام، تظهر لنا ما تعانيه ليس من خلال الحوار، بل من ملامحها المتعبة، التي كساها الغبار، تظُهر لنا الكاميرا أدق تفاصيل ملامحها، الهالات السوداء أسفل عينيها، الشحوب في وجهها، فيستطيع المشاهد أن يلتحم مع فرحة في مشاعرها وظروفها، فلا يصبح مجرد مشاهد أو متعاطف، حتى تنقل الكاميرا المشاهد إلى حالة أعمق من التعاطف، تنقله ليصبح كارهًا للاحتلال، راغبًا في فعل أي شيء لينقذ ما بقى من تراب فلسطين.
اهتمت المخرجة “دارين سلام” بتفاصيل الفيلم، فنرى الزي التقليدي لفلسطين ترتديه البنات والسيدات في تلك القرية، نرى الأواني الممتلئة بالزيتون في هذا المخزن، الزيتون الذي طالما اشتهرت به فلسطين، نرى التهويدة التي غنتها “فرحة” للرضيع الذي ترُك ليموت، الأغنية التراثية “نام يا محمد” التي سرقها الاحتلال ليجعل من لحنها نشيدًا له!
وفي رمزية صغيرة من دارين نجد أعواد ثقاب فلسطين، وفرحة توقد المصباح بعلبة ثقاب مكتوب عليها اسم فلسطين، في إشارة وأمل أن ضوء فلسطين لن ينطفئ، حتى لو نفد الغاز من المصباح، لكنها لابد أن تجد طريقها للنجاة.
تبلغ فرحة حيضها لأول مرة في هذا المحبس، قد يشير حيضها إلى الحياة، حياة فلسطين التي سرقت بل تم حبسها، ومن ثم هروبها، كحال عدد كبير من الفلسطينين الذين هربوا من بطش الاحتلال، الذي لم يفرق بين امرأة ورجل.
في نهاية الفيلم نجد فرحة وقد خرجت من محبسها، وهي تسير في قرية خاوية من الحياة، مُدمرة، “بقچ” الملابس مُلقاة على الأرض بعد استشهاد أصحابها، في مشهد مميت من قسوته، ان نرى القرية التي كانت عامرة بالفرح والحياة، ميتة كليًّا.
ومثل أي مشاهد يتمنى أن ينتهي الفيلم نهاية سعيدة، تمنينا ذلك، لكن فيلم “فرحة” فيلم يحمل قصة حقيقية لشعب، لا قصة خيالية نستطيع تخطيها بدعابة، قصة كانت وما زالت تتكرر يوميًا وبأبشع الطرق، فإلى متى تظل فرحة غصن الزيتون في محبس؟! وإلى متى نظل ننظر لهم من فتحات الباب والجدار؟! وإلى متى سنتألم نيابةً عنهم ونحن صامتون؟!
★طالبة بقسم الدراما والنقد المسرحي-جامعة عين شمس -مصر.