محمد عبد الرحمن:«لكنها ابتسمت».. اِزدواجية الغرب في عالم تغيب عنه الحقيقة؟!


محمد عبد الرحمن ★
ما الحقيقة؟ سؤالٌ يبدو استهلاكيًّا مكررًا، لكنه في الوقت نفسه لا توجد إجابة جامعة مانعة له، فمن منا يعرف الحقيقة، أو يمتلكها؟ وهل الحقيقة مطلقة أم نسبية؟ وهل الحقيقة كاملة، أم مُجزأة؟ وهل ما نسمعه كله حقيقة؟ وكل ما نراه أيضًا حقيقة؟ كلها تساؤلات لم نصل إلى إجابة واضحة عليها، فعلى سبيل المثال الفيلسوف الفرنسي «أندريه لالاند» يرى أن الحقيقة هي “القول المُطابق للواقع”، بينما يرى الفيلسوف الإغريقي «أرسطو» أنه “من الصعب على الإنسان أن يمتلك الحقيقة الكاملة”.
ومن هذا المنطلق يمكننا النظر إلى العرض المسرحي (لكنها ابتسمت) من إنتاج المعهد العالي للفنون المسرحية، وتأليف «إبراهيم هيكل»، ومن إخراج «يوسف رزق».
يدور العرض في إطارٍ درامي، لا يخلو من الكوميديا، داخل مطعم وحانة في مقاطعة دونيتسك الأوكرانية، وقت اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، حول ست شخصيات رئيسية «صاحب المطعم، وزوجته، وعشيقته، والفتاة العاملة، وحبيبيها المِصرِيّيْن، وزعيم الانفصاليين في الإقليم»، تبرز في المكان عدة جرائم، حيث يَقتل صاحب المطعم، زوجته بتهمة الخيانة، متهمًا عشيقته بالجريمة، ثم يقتلها هي الأخرى، بحجة الطمع، بينما يدفع الفتاة المصرية لمحاولة قتل حبيبها، وزعيم الانفصاليين في الإقليم المتنازع عليه، بين روسيا وأوكرانيا، بعدما حاول إيهامها أنهما يخدعانها ويحتالان عليها، ليورطها في جريمة قتل حبيبها، والزعيم الانفصالي، بعدما دس لهما السم في الأكل.
يبدأ العرض بجملة حوارية تقول «ربما تبتسم فتاة من الشرق لرجل من الغرب، فيشح القمح في العالم» لتكون مفتتحاً للدراما المسرحية، في تجسيد للمصطلح الفلسفي المعروف «تأثير الفراشة»، أو «نظرية الفوضى»، وهو مصطلح مفاده أن الأشياء الصغيرة، يمكن أن تكون ذات تأثيرات متفاوتة على نظام معقد، فماذا يحدث لو أن امرأة ولدت في مصر، رفضت أن تتزوج من رجل أوكراني، فقد يتحول إلى زعيم دموي، مثلما الوضع مع شخصية ديمتري (محمود متولي) في العرض سالف الذكر، ويبدو أيضاً متشابهاً إلى حد كبير مع حال الزعيم النازي أدولف هتلر، الذي رسب في اختبار أكاديمية الفنون الجميلة في ألمانيا، فَتحوَّلَ إلى أكبر زعيم دموي بأوروبا في القرن العشرين، وهو أيضاً تجسيد لحالة الحرب السالفة، التي وقعت نتيجة النزاع في مناطق محدودة على الحدود الروسية الأوكرانية، لكن تأثيرها امتد إلى العالم أجمع.
وتسير الأحداث في إطار دائري، إذ نجد للقصة الواحدة روايات متباينة، كل منها يدين طرفًا من الأطراف، ويكشف جانبًا من الصورة، إذ أن كل جريمة من الجرائم، لها أكثر من رواية على لسان أبطال العرض، ويروي كل واحد منهم الواقعة من وجهة نظره، في معالجة تتشابه إلى حد كبير مع قصة «لا حقيقة عند بوابة راشومون» للروائي والشاعر الياباني، «ريونسكي أكوتاجاوا».
وربما السؤال الذي حاول العرض أن يصل إلى إجابة واضحة عنه، من خلال تناوله الدرامي: ما الحقيقة؟ لننتهي إلى أنه لا توجد حقيقة مطلقة، ولا ثابتة، ولا متفق عليها، وإنما الحقيقة نسبية، متعددة الزوايا، وكلٌّ منا له حقيقته الخاصة، في رؤية تتفق إلى حد كبير مع قول الفيلسوف «إيمانويل كانط»، بأنه «لا يمكن أن يوجد معيار مادي للحقيقة، لأن الحقيقة المادية هي تلك المطابقة لموضوعها، والحال أن موضوعات الحقيقة تختلف وتتعدد، مما يتعذر معه وجود معيار كوني لها».
استغل المؤلف الصراع الروسي الأوكراني، ليمرر من خلاله أفكاراً ورؤى عدة، اِتضحت خلال هذه الحرب، التي لا زالت معاركها تدور حتى اليوم، ليبرز على نحو واضح، المعايير الازدواجية لدي الغرب في تعامله مع الشرق، خاصة في قضايا العنف، فإذا كان الأمر يمسه هو، يَدّعي أنه ضحية، مكرساً لمفاهيم، مثل «الإسلاموفوبيا»، التي تصور كل المسلمين والعرب، على أنهم مجرد إرهابيين محتملين، أما إذا كان هو من يقوم بأعمال العنف، حتى لو كانت عملية إبادة جماعية، مثلما يحدث في قطاع غزة، فيصورها على أنها عملية دفاع عن النفس، في صورة تُغَيِّبُ كل الحقائق، وتهدم كل القيم الأخلاقية؛ متخذًا من مقاطعة دونيتسك، التي تحاول الانفصال عن أوكرانيا، منذ عام 2014م، بدعم من الحكومة الروسية، ساحة لمادته الدرامية، مجسدًا حالة الانهيار السياسي والأخلاقي، والانفلات الشديد، وحوادث قتل ونهب لا تتوقف، وكأنه يؤكد أن هذا العالم، حتى وإن ادّعى المثالية، إلا أنه يحكمه قانون الغاب.

العرض يضعنا أمام حزمة من الإسقاطات السياسية، وكان واضحاً فيها قصديّة الكاتب، في توظيفها مع ملامح الصراعات العالمية الحالية، لتتناسب مع أفكاره، فبدا المطعم مثل ساحة حرب، الكل فيها يتناحر من أجل إظهار حقيقة الآخر، ويَدّعي أنه صاحب الحق، في تجسيد يبدو تصويراً للصراع بين الشرق والغرب، الذي ظهر جلياً عند اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وادعاء الجانبين الروسي والأوروبي، أنهما أصحاب الحق في النزاع.
كذلك حملت نهايته إسقاطًا مباشرًا على الصورة النمطية للعرب، التي يحاول الغرب الأوروبي دائمًا، أن يصورها عنهم ، فيما جرائم الإرهاب، التي يُلَوّح بها الغرب، ناحية العرب دائمًا باعتبارهم إرهابيين، بينما هم غارقون في ممارسة جرائم في حق الإنسانية، من دعم للاستيطان، وقتل الأبرياء، مثل الحال في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أو تضييقاً وتنكيلًا بالمبدعين، مثلما حدث مع المبدعين الروس، أو الأدباء الفلسطينيين.
ديكورات العرض جاءت بسيطة ومتحركة، ومعبرة، إلى حد كبير مع طبيعة المكان، ومناسبة لدائرة الصراع الدائر على الفضاء المسرحي، بين جميع أبطال العرض، بينما جاءت الإضاءة مُريحة، بإيقاع هادئ، يتناسب مع روح الحكاية، ومتناسقة في التعبيرات الدلالية، لألوان الملابس، لتُعبر عن دواخل كل شخصية على حدة، فنجد سيمون (يوسف رزق)، أو (صاحب المطعم) يرتدي الأسود، معبراً عن نفسيته المريضة، وضميره البغيض، بينما جاءت ملابس نعيمة، زرقاء معبرة عن حالة الحزن والاكتئاب، التي تسيطر عليها، نتيجة مماطلة حبيبها في طلب الزواج بها، والأحداث المتصاعدة في المطعم.
في النهاية جاء العرض جيدًا، معبرًا في تناوله للحقيقة، وإن كانت نسبية، مجسدًا ازدواجية المعايير، لدي العالم في تعامله مع العنف، في صورة تهدر الحقائق، وتُغَيِّبُ الحقوق، ورغم أنه ارتدى عباءة الشعبوية السياسية؛ إلا أنه حمل قدرًا ملموسًا من الرؤى الفلسفية، في مستويات السرد والبناء الدرامي، أو التشكيل، فكان في خُلاصته متكاملًا، ثريًّا، حيويًّا وجذّابًا في الشكل والمعنى، وكانت موسيقى بلال الحناوي، مُعبّرة عن صخب الأحداث، وأجاد ديكور «ميار ممدوح»، وإضاءة «أحمد أمين»، في تشكيل الحالة، وإيصال رؤية المُخرج كاملة، ولمع من عناصر التمثيل: «محمود متولي»، «نيرڤانا الخطيب، «يوسف رزق».
★ناقد-مصر.