(مايراوش) عميان (ميترلنك) تتجسد تونسيا

آية الكحلاوي*
يخرج المتلقي من العرض يتساءل هل هذا عرض مسرحي أم معرض فني؟ في لحظات الصمت والسكون الكثيرة خلال العرض يجد المتلقي نفسه أمام عدة كوادر تتلاحق في غناء بصري مذهل أمام عينيه، وكأنه يجلس أمام شاشة سينما كبيرة يعرض عليها لوحات فنية أنيقة الالوان عميقة المعنى مذهلة التكوين، مما يدل على أن المسرح التونسي بخير ومتجدد ويلعب على تقنيات فنية مختلفة كتقنيات الفن التشكيلي والسينما.
المسرحية معالجة تجريبية بصرية لنص “العميان” للكاتب البلجيكي الحائز على جائزة نوبل موريس ميترلنك، وهو نص غارق في الرمزية والطقسية وغارق في أعماق النفس البشرية مما يقربه من نصوص المسرح الذهني، وكلها أشياء نابعة من نفس ميترلنك الذي كان يميل للتصوف والانعزال.
نبدأ حيث العنوان “ما يراوش” الذي هو ترجمة محلية تونسية للكلمة الفصيحة “العميان”، ولكنه استبدل الاسم بجملة اخبارية عن المجموعة التائهة في الغابة الرمزية بأنهم لا يرون، مكونة من حرف النفي والفعل رأى، فهو تمطيط لغوي لكلمة العميان المختصرة التي تدل على العمى المادي للدلالة على خبر هؤلاء المجموعة التي لا ترى، والفعل يرى لا يدل فقط على العمى المادي، بل يدل على عمى البصيرة، وعلى عدم رؤية الحقيقة وعدم رؤية الأمان وعدم رؤية الأمل… إلخ ، فهم ما يراوش أي شيء.
تحكي المسرحية عن مجموعة من العميان تائهين في غابة موحشة وقد أخرجهم السيد الشيخ من التكية إلى الغابة ليروا الشمس والبحر، ولكن الموت يخطفه بعدما قادهم إلى مكان مجهول من الغابة وهم لا يشعرون بموته، يتساءلون عنه تارة ويتساءلون عن مصيرهم تارة، فهدفهم الوحيد الان هو الرجوع إلى التكية الملاذ الآمن لهم، رغم أن هذه التكية كما يصفها أحد العميان خرابة موحشة مظلمة لا يدخلها النور، فيطرح ذلك علينا سؤالا… هل البقاء في الظلام الآمن خير من الخروج إلى النور؟ بالطبع ليست هذه معضلة المسرحية وليس هذا رسالتها، إنما الخروج من الظلام إلى النور يلزمه قائد بصيرته مبصرة قبل بصره، فهم اعتمدوا على القائد مبصر العين ولكن هل اختبروا نور بصيرته؟! تلك هي المسألة.
نقل منير العرقي مخرج النص ومعده كذلك النص من بيئته إلى البيئة التونسية، بأن جعل كل ما فيها يقترن بالوعي التونسي، حيث استبدل الكنيسة/ بالتكية، واستبدل الكاهن/ بالسيد الشيخ، واستبدل الترانيم بالابتهالات والتسبيح، ولكنه مع ذلك بقيت روح ميترلنك تطوف في المكان، حيث اشاعت الابتهالات والتسابيح الجو الصوفي الذي يحبه ميترلنك، كما أن عمق مسرح الجمهورية التي عرضت عليه المسرحية وانغلاقه ساعد العرض في إيصال جو العزلة والسجن داخل كهف داخلي رغم أن الغابة مكانا مفتوحا، ولكنه نفسيا ضيقا ومغلقا ومنعزلا ككهف مظلم.
فنجد أن العرض اقترب كثيرا من الواقع التونسي كونه تونسيا، ومن الواقع في أي مكان وهي ميزة مرنة اتاحها للعرض البناء الرمزي، فتستطيع في أي ظرف وأي حدث أن تضع مكان السيد الشيخ القائد عديم الرؤية والذي ضلل الجماهير وأخرجهم من الأمان للضياع في أي مكان ، وخاصة في بلاد الربيع العربي.
فالعرض يقدم نقد اجتماعي ذاتي سياسي اخلاقي، نقد ذاتي حيث الانسياق في موقف عبثي خلف قائد رؤيته عبثية، يقود مجموعة من العميان ليروا الشمس دون اتخاذ احتياطات للعواقب، نقد اجتماعي أخلاقي من خلال الدمية المهبولة والدة الطفل الرضيع، حيث معالجة قضية الاغتصاب ونظرة المجتمع غير الأخلاقية للمغتصبة، وعليها إسقاط سياسي أيضا حيث نجد أن هذه العمياء المغتصبة اسمها خضراء، إشارة إلى تونس الخضراء، مما يرمز إلى اغتصاب الوطن، ونقد سياسي متوزع على طول المسرحية بداية من الموقف العبثي وخروجهم من التكية حتى ضياعهم، ويظهر بإسقاطات متفرقة كذلك من خلال قصة الأعمى الشاب الذي فقد بصره في تظاهرة عندما أطلقوا عليهم الغازات.
ما يراوش قدم التجريب في أبسط صوره بصورة تقدمية رغم عدم اعتماده على التكنولوجيا اللهم إلا الاسقاط الضوئي في الخلفية كجزء من السينوغرافيا، فاعتمد في تجريبه وتقدميته على الممثل وعلى الصورة البصرية المميزة وعلى العرائس بشكل أكبر، فهو عرض عرائسي ولأول مرة لا يناسب الأطفال بل يناسب الشباب والكبار، والحقيقة أن الحديث عن ما يراوش كعرض عرائس يطول، حيث يأخذ العلامة الكاملة من حيث تصميم العرائس وملابسها وتحريكها والتعامل معها، واستخدام العرائس بدلا من الممثل الحي هو أمر قديم منذ جوردن كريج ولكن العرقي لا يبدي موقفا متطرفا تجاه الممثل، بل أنه أعطى الممثل مسئولية أكبر من دوره بكثير، حيث كان لابد على كل ممثل أن ينقل أحاسيسه وانفعالاته ونفسه منه إلى العروسة التي يرتبط بها، وهي طريقة تجريبية هي الأخرى، حيث نجد أن العروسة ومحركها شخصا واحدا على المسرح أحيانا، وأحيانا أخرى نجد الممثل ظهر مؤديا دون أن يختفي وراء الماريونيت وأحيانا أخرى نجد جدالا بين الممثل والعروسة، كالجدال الذي حدث بين العجوز وعروستها حول كلام الناس عن العمياء المغتصبة التي نبذوها ووصفوها بالعاهرة ، بأن تقول العروسة “عندهم حق” وترد عليها في احتدام الممثلة “معندهومش الحق” .
إن استخدام العرائس تجريبيا في عرض ما يراوش جاء مناسبا للغاية، ويحمل رمزية كبيرة اكتملت به رمزية نص ميترلنك، فهي المعادل الموضوعي المثالي لمجموعة عميان بلا إرادة يتحكم فيهم قائد بلا بصيرة ولا رؤية، كما يتحكم الممثل في حركة الماريونيت.
ويستمر التجريب في المسرحية من خلال تغيير الديكور، حيث نجد أن الممثلين يقومون بتغيير الديكور بأنفسهم ودون اعتام وكذلك نجد المساعد يدخل ليضبط العرائس وأماكنها ووضعيتها.
(مايراوش) عرض صنع بدقة واحترافية، فمن حيث تحريك العرائس كان أكثر من رائع، حيث ننسى أكثر الأحيان أن هناك انسان داخل الدمية يتحكم بها من قمة واقعيتها وحيويتها، ونشعر وكأن العروسة قد دبت فيها الحياة وأنها والممثل شيئا واحدا لا شيئان، وقدرة الممثلين على تحريك فم الدمية أثناء الكلام زاد من هذا الإحساس والتجسد، فتحية لمصمم العرائس ومحركيها.
الديكور جاء تجريديا رمزيا عبارة عن شاشة إسقاط ضوئي في الخلف تسلط عليها اضاءة صفراء لتعزز من صورة الشجرة خالية الأغصان من الورق فهي ميتة كقائد العميان وكنهايتهم الحتمية، وفي الأمام أعلى المسرح إسقاط ضوئي آخر ولكن هذه المرة لترجمة إنجليزية للعرض، بينما يتوزع جذوع الشجر في المكان ليستخدمها العميان كمقاعد.
بينما جعلت المؤثرات الصوتية خشبة المسرح مسرحا للمكنون النفسي للشخصيات الخائفة المترقبة المجهول من جهة وكانت من جهة أخرى تأكيدا على أن هذه المجموعة التي لا ترى بعينها لا تريد الرؤية بأي حاسة أخرى ولا سيما السمع، حيث كان بإمكانها التعرف على طبيعة المكان من خلال تلاطم الأمواج والأصوات الآتية من البحر ولكن لم يستطيعوا حتى ذلك فكان صوت البحر وتلاطم أمواجه لا يميزونه ويمثل عندهم المجهول الذي يخشونه، فكنا نستطيع أن نسمع همس الظلام والمطر وتلاطم الموج والاصوات الآتية من بعيد وهذا كل أوحى لنا أننا ما نسمع إلا صوت العمى.
تضافرت هذه المؤثرات مع الموسيقى التي عبرت بشكل كبير عن حالة الترقب والخوف، حتى الصمت كان جزءا مهما يعبر من خلاله عن هذه الحالة وتطوقت الموسيقى بوشاح الدعاء والذكر والمناجاة.
أما الإضاءة ( تصميم معز العبيدي) فلم تتخلف عن ركب بقية العناصر في الإيحاء والدلالة والرمزية، فكانت إضاءة رمزية بدأت زرقاء وانتهت كذلك لتعبر عن الخوف والبرد والجو الموحش والخوف الذي يسيطر على الجو.
والعرض بدأ برقصة فوضوية متخبطة لمجموعة العميان وهم يتخبطون في المكان، ثم حركة جماعية يمينا ويسارا في محاولة لرؤية المجهول الذي ينتظرهم، والكيروغرافيا ( لحافظ زليط) التي عبر من خلالها عن الإحساس الجماعي والحالة الجماعية المشتركة بين جماعة العميان.
اشتغل المخرج (منير عرقي) على تقنية سينمائية هي لحظات السكون، حيث يظل الكادر ساكنا للحظات ليوصل ايحاء وإحساس معين يجب على المتلقي الغوص فيه، كما أنه اشتغل على جماليات للفن التشكيلي من حيث توزيع الكتل وتناسق الالوان، فقدم لوحات فنية خلابة في تكوينها وتناسقها.
ورغم أن العرض عرضا رمزيا بامتياز حاول المخرج اظهار ما به من عبثية بالتأكيد على الموقف العبثي الذي أقدم عليه السيد الشيخ مع العميان، بأن بدأ العرض وأنهاه بموسيقى عبثية كالتي تكون في برامج الألعاب، دلالة على أن ما يحدث لعبة وتأكيدا على الموقف العبثي.
ما يراوش تجربة تجريبية ممتازة وفي غاية الصعوبة أن يتم تحويل نص رمزي نفسي صوفي طقسي إلى عرض تجريبي عرائسي ولكن العرقي فعلها مع كادر قدير أدار مهامه بقدرة وحب.
مايراوش Blackout، عن مسرحية العميان لموريس ميترلنك،دراماتورج وإخراج: محمد منير عرقي تمثيل وتحريك العرائس: هيثم وناسي، فاطمة الزهراء المرواني، أسامة الماكني هناء الوسلاتي، أسامة الحنايني، ضياء المنصوري، إيهاب بن رمضان، أميمة المجادي، محمد الطاهر العابد، عبد السلام الجمل، الأسعد المحواشي، مساعد مخرج وتوضيب عام: صبري عبد اللاوي سينوغرافيا: حسان السلامي ومحمد منير عرقي، تصميم العرائس والملابس: عبد السلام الجمل، نحت:ياسين بشر، موسيقى: أسامة المهيدي، كوريغرافيا: حافظ زليط، إشراف على ورشة صنع العرائس: الأسعد المحواشي، صنع وتمثيل العرائس وملابس وأكسسوار: عبد السلام الجمل، مساعدة: أميرة اللواتي، تصميم الإضاءة: معز العبيدي ومحمد منير عرقي، تقني صوت: أمين الشرابي، توضيب ركح: محمد عادل ناصري وناصر السبعي، توثيق سمعي بصري: خالد الشيخ، تصميم المعلقة: ياسمين عبد السلام، صنع الديكور والمتممات الركحية: ورشة المركز الوطني لفن العرائس، توظيف لوجيستي وشرائات: حسنة المرساوي |
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
★كاتبة – مصر