مسرحمشاركات شبابية

هاملتهن..لسعداء الدعاس…الرجل بعين نسائه!

★ شيماء مصطفى

للوهلة الأولى،وقبل الولوج في تفاصيل عرض هاملتهن،بتدقيق بسيط،ستتساءل،كيف يكون العرض معنونًا ب”هاملتهن”،وهو مختزل فقط في شخصيتين نسائيتين أوفيليا وغيرتورد،حتى في النص الأصلي للكاتب “شكسبير” اكتفى بهما كشخصيتين نسائيتين داخل نص مشحون بالرجال،بالتالي إذا كان في النص الأصلي امرأتان،وفي الرؤية السينوغرافيَّة الحديثة للدعاس شخصيتان،فلماذا هاملتهن؟ لماذا لا نقول هاملتهما،باستخدام ألف الاثنين الزائدة على هاء الضمير،في إشارة مباشرة إلى أوڤيليا وغيرتورد؟ هل أخطأت الدعاس في عنونة نتاجها السينوغرافي المغاير لنص شهير،تم تدويره عشرات المرات؟
الميتا مباشرة.
حقيقةً لا، فالمتعمق في كتابات الدعاس،والملامس لأسلوبها الدقيق،سيكتشف أنها لم تخطىء،سيكتشف ثمة تلاعب لفظي تجيده الدعاس وتستخدمه دائمًا في نصوصها،وبتأمل بسيط من المتلقي سيجد نفسه أمام خيارين،ربما يجد ثالثًا لهما،
أولاهما:إما أن الدعاس في عنوانها هاملتهن تعني بالضمير”هن” المتصل إلى نورا عصمت” غيروتورد”،وأميرة عبد الرحمن ” أوفيليا” ونجلاء يونس كعازفة، وشيماء عبد القادر” المخرجة التنفيذية للعرض”.
وثانيهما- إذا أردنا ما هو أبعد من المباشرة في الدلالات- : أن الضمير هن في هاملتهن يعود على كل من أوفيليا” الابنة والأخت والحبيبة” وغيرتورد” الملكة،والأم والعشيقة” وبإدراك دوافع كل منهما في اللعبة ستكتشف أن كل منهما تحمل في جعبتها النفسية والحوارية ثلاث نساء،.
أوفيليا الحبيبة(هي)+ أوفيليا الابنة(هي)+أوفيليا الأخت(هي)+غيرتورد الملكة (هي)+غيرتورد الأم(هي)+غيرتورد العشيقة (هي)= هن،أي هاملتهن.
ثمة دلالة على تعددية الأدوار التي تلعبها غيرتورد تكمن في تسريحة الشعر الخاصة بها فالشعر الأملس مع فارق من المنتصف حيلة تلجأ إليها المرأة عمومًا ونساء البلاط الملكي بشكل خاص ليظهرن أكثر نعومةً في ملامحهن، ولكن غيرتورد لا تريد أن تظهر كمرأة تتشابه مع باقي النساء،فأضافت لمسة تميزها متمثلة في كعكة صغيرة في الأمام معقوفة كمنقار صقر جاهز لالتهام فرائسه،فبدت بتلك التسريحة بتاجها الملكي،في حين اكتفت أوفيليا بكعكة صغيرة منخفضة تتلائم مع وضعها في الصراع،ولكنها وبرشاقة فراشة من حين لآخر توحي بحرية تامة من سيطرة شكوك هاملت ومخاوفه،فلم تصبح عاجزة عن فهم هاملت،أو التعامل مع هينمة غيرتورد التي كانت خيانتها سببًا في أن يصب هاملت في أوڤيليا غضبه من الأم وانتهى به الأمر لتعميم الغضب فشمل كل النساء.
فسعداء الدعاس كعادتها دائمًا مُلمة بأدق التفاصيل في أعمالها سواء على المستوى الإخراجي،أو النقدي،أو حتى على المستوى الكتابي.

ديكور بسيط حَسُن استغلاله.
لم يكن العرض بحاجة إلى فضاء واسع،فكل حوار يتم لا يحدث إلا بين شخصيتين،هاملت وأوفيليا،هاملت وغيرتورد،غيرتورد ولارتيس؛بدا المسرح مدثر بالسواد،
فالظلام مهيمن على خشبة المسرح تمامًا يتخلله من حين لآخر بؤرة مضاءة ..فتستشعر وكأنك أمام قبر ،وأن البؤرة المضاءة ما هي إلا ثقب نتتبع من خلاله صراع امرأتين،أو على الأحرى صراع جثمانين لو دبت بهما الحياة لربما يتغير مجرى الأحداث،دعنا نقول لنصبح أكثر دقة،تم بعثهما من نص هاملت- ولكن من يعيد الزمن للوراء،فالأموات لا يبعثون،وما هي إلا محاولة لكسر الإيهام.
بدا العرض في زاوية نائية منه مغطاة بورود حمراء جافة أوراقها،ثمة رابط قوي بين الواقع والرمز،فالورود الجافة المتفرقة،والمنزوعة من سيقانها،والتي تنثرها غيرتورد بعشوائية وحرقة،ما هي إلا دليل قاطع على فقد العذرية لأوڤيليا والخيانة لغيرتورد،وما هي إلا إشارة سميائية توضح أن الخطيئة التي ارتكبتها مع كلوديس،تناثرت وعلمها الجميع،ولمحت بها أوڤيليا؛ولأن فقد العذرية لأوفيليا،أهون من اكتشاف العلاقة بين غيرتورد وكلوديس،فإن أوفيليا لم تشارك غيرتورد في نثر الورد،كما توحي بوجود تفكك أسري تم بالبلاط الملكي .
أشرنا في البداية أن غيرتورد تنقلت بسلاسة ما بين الأم والملكة والعشيقة،إن لم يكن بتغيير طبقات الصوت،فيكن ذلك من خلال الكرسي كأداة،فتم توظيف الكرسي المتحرك في العمل بشكل رائع،فحين جلس عليه لارتيس،لم تكتف ببث سمومها على مسامعه،بل قامت بدفع الكرسي المتحرك للإمام والخلف للتأكيد على أنها تلعب بعقله،والكرسي المتحرك بالتحديد للإشارة إلى هيمنتها على الموقف فبدا لارتيس كدمية متحركة في يدها،لم ترتو غيرتورد بالهيمنة من خلال دفع الكرسي المتحرك،ومن خلال بث السموم بنبرات صوت ثعبانية،بل أنها أجلسته على الكرسي،ووقفت هي،ليشعر المتلقي بأنه أمام كادر سينمائي بدت فيه غيرتورد أضخم من لاتيرس الشاب القوي.


تصميم إنسيابي
تم تصميم الملابس الذي وضعته الدعاس بشكل مرن ومذهل،بحيث يقتصد في وقت العرض،ويتلائم مع الاختزال للنص الأصلي،فلا تضطر البطلتان لتبديل الملابس،ولا ينفض المسرح،
يكفيك أن ترى قطع إكسسورات بسيطة متمثلة في شارات ووشاحات دون أن تشعر ،وبرشاقة يشهد لها،تستبدلهما البطلتان،فتميز متى تبصر هاملت في عينهما،ومتى تقرأه في شارتهما المستبدلة،متى يتغير الوشاح للون الأبيض الهادئ مع أوڤيليا،ومتى يستفزنا الأحمر الناري مع غيرتورد.

نهاية مميزة
مثلما بدأ العرض بداية قوية،ومثلما كانت ذروته قوية،جاءت النهاية على نفس الوتيرة موفقة سواء على مستوى الحوار ،أو الرمز، فإنها اللعبة-تقنية الميتا مسرح-، لم تنته إلا بموافقة الطرفين،أوفيليا وغيرتورد،في صورة توحي بالندية،فكلتيهما تعرضت للخذلان،كلتيهما تبدلاتا اللفظ “أنا أيضًا” فالملكة المتعجرفة التي ظهرت في أول العرض متهجمة على أوفيليا : هل فقدتِ عذريتك،هي نفسها المرأة المطعونة في حبها لكلوديس،
كما جاءت النهاية استفزازية للمتلقي ليشعر بأنه جزء من العرض،وأنه ما دام بيته من زجاج لا يرم الناس بحجر،وأن مآساتهما،مأساتهن-لا أوفيليا وغيرتورد بتعدد أدوراهما-ولكن مأساة جميع النساء،حين تقع إحداهن قبضة الأحكام المسبقة والتعميم الجائر،وجودهما في بداية خشبة المسرح يدعو الجمهور لذلك،عودة غيرتورد لنثر الورود الجافة مجددًا يؤكد أن عجلة الزمن لا ترجع للوراء،فالندم لا يجدي،والدموع لن تشفع لها،والجثمان الهامد من الأفضل له أن يظل حبيس التابوت،صمت أوفيليا في النهاية،وتخشبها،أو توحدها مع خشبة المسرح يوحي بأنها حتى لو أنها تعرف كيف يكون الخلاص،فمعرفتها هذه لن تثمر،فما هي إلا شبح في قبوه.

هاملتهن

رؤية إخراجية سينوغرافية: د.سعداء الدعاس.
تمثيل: نورا عصمت”غيرتورد”،وأميرة عبد الرحمن “أوفيليا”.
عزف كمان :نجلاء يونس.
إضاءة ومساعد مخرج : شيماء عبد القادر.تنفيذ الملابس: مروة عودة.                                    انتاج ومكان العرض: مركز الإبداع، دار الأوبرا المصرية – سبتمبر ٢٠٢٣.

كاتبة _ مصر

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى