رواية

رواية البوكر (تغريبة القافر). تغريبة الذات أم تغريبة الجسد ؟!

* آيه الكحلاوي

“تقف على الشط وما إن تنظر لانحناءات الموج حتى يشدك رويدا رويدا حتى دوامته لتغدوا غريقا”، هذه ليست قصة الرواية هذه قصة قارئ الرواية، هي حالة من يقرأ تغريبة القافر، فليست مريم بنت حمد والدة القافر هي غريق تلك الرواية الوحيد.
تغريبة القافر هي رواية لزهران القاسمي والفائزة بجائزة البوكر العالمية للرواية العربية ٢٠٢٣، وقبل الوقوف عند فنيات الرواية من لغة وسرد وصراع… وعالمها الداخلي، يعجبني القول عن هذا العالم أنه مناسب جدا لمن يريد أن يفك أسره من سطوة العالم الرأسمالي الذي يعيشه،فقد دهست الرواية بحذائها الصلد رأس الرأسمالية المتورم، وأخذت القارئ ألى عالم تعاوني ينفر من الفردية إلى الاشتراكية، حيث لا أحد يعلو على أحد، فهم جميعا في ترويض البيئة في فيضانها أو جفافها سواسية، لولا أن أفسد هذا العالم المتحرر من قبضة العولمة الحديثة كثرة الكلام ومهارة تكويره ورميه في وجه الغير بطريقة تدمي القلوب، فيقول الراوي: “إن كل حكاية تظل صغيرة ما دامت في قلب المرء ولكن حالما يكتشفها أهل القرية تنتشر وتكبر شيئا فشيئا..”، هو عالم بسيط ينتشي بحَبك الأساطير ونسجها والعيش في رحابها ليكون عالم أشبه بالواقعية السحرية.
أخذنا الكاتب زهران القاسمي معه في رحلة سحرية إلى قرية مسفاة في عمان، ليطلعنا بمكان يعبث بشغف مع الطبيعة بعيدا عن أساطين الرأسمالية نافثوا النيران في كل ما هو يحتمي بالطبيعة، وتحرك بنا كالمرشد من قرية إلى أخرى مع القافر سالم ولد عبدالله بن جميل ينظرنا الوجه الضاحك والوجه العابس لطبيعة قرية مسفاة العمانية التي لا سلطة على قانطيها سوى سلطة طبيعتها المتبدلة.

منذ البداية يأرجحنا العنوان بين دلالتين كلاهما تأويله مُقَطّع من جسد الرواية الحزين، فما هي تغريبة القافر؟
التأويل الأول وهو الظاهر لعنوان الرواية يدل على تغريبة/ رحلات القافر الذي يتقفى الأثر ويتتبعه، دلالة على بطل الرواية سالم ولد عبد الله الذي يتغرب ويرتحل في القرية والقرى المجاورة متتبعا أثر ينابيع الماء الجوفية المقبورة تحت الأرض، فيدل القرى على أماكنها من أجل شق القنوات واستخراج الماء لإحياء القرى التي هزمها الجفاف، وفي هذه الحالة فإن التغريبة المقصودة هي تغريبة جسدية مادية للقافر.
أما التأويل الثاني وهو الخفي فدلالته أبعد من الكائن ومقصده أكبر من الظاهر الجلي، فهو دلالة على تغريبة سالم ولد عبدالله التي عاشها منذ صغره منفي في الوطن لأنه “ولد الجن.. ولد الغريقة” تغرب عن أمه منذ الولادة إذ ولد وأمه تُكَفّن، وهو في هذه الحالة ليس قافر للماء ولا يتقفى أفلاجه/ قنواته، بل هو قافر لأمه ويتقفى أثرها، ويثبت هذا التأويل شيئان، أولهم لغوي، أن القافر هو الذي يتقفى أثر الإنسان أو الحيوان خاصة وليس الماء، ثانيا معنويا نفسيا، وهو أن والدته مريم بنت حمد سبب موتها أنها تقفت وتتبعت أثر الماء فسقطت في البئر، ولهذا فإنه القافر يتتبع أثر الماء لأن في ذلك تتبع والدته، وفي هذا الحالة فإن التغريبة المقصودة هي تغريبة نفسية ذاتية للقافر.

الروائي العماني زهران القاسمي

المنبوذ
تبدأ تغريبة القافر بمشهد انتشال جثة مريم والدة القافر من البئر غريقة وشق بطنها ميتة لاستخراج المولود بعد اكتشاف أنه ما زال حيا، هذا المولود سالم ولد عبدالله الملقب بالقافر لأنه يستطيع تقفي أثر الماء الجوفية ومعرفة مكانه، فترصد الرواية حياة القافر الذي يعيش منبوذا في وطنه لاتهامه دائما بأنه ابن الجن وسيؤذي القرية، حتى ينال المنزلة التي يستحقها حينما ينقذ القرية من الجفاف ولكن سرعان ما تنسى القرية معروفه ويعود اتهامه بالجنون من جديد، ففي القرية لا تحلم أن تحتفظ بمكانتك كثيرا، فكيف ستكون نهاية القافر في بيئة هضمته مكانته وحقه ولم تقدر قيمته؟
عالم تغريبة القافر:
هو عالم واقعي سحري يندمج فيه الواقع بالسحر والخيال، فالأسطورة وعالم ما وراء الطبيعة جزء لا يتجزأ من ثقافة أهل قرية مسفاة الذين يعزون كل شيء للجن والسحر فيجعلونه يتحكم في تصرفاتهم واحكامهم ونظرتهم للأشياء، فواقعهم يشير إلى الجفاف لكن تفسير أهل القرية لجفاف إحدى القرى كان هكذا “ادعى آخرون أن ساحرا مر على قرية الوضيحي وأعجب بفتاة وطلبها للزواج لكن أهلها رفضوه فقرأ عليهم تعويذة سحب بها الماء وطواه بيده كما يطوي السجادة ثم رفعه على ظهره وذهب خارجا من القرية حتى اختفى بين الجبال..”.

طبيعة المكان:
من أكبر صراعات الرواية صراع الشخصيات مع المكان، فالقرية إما تجرفها السيول وتهدم بيوتها وإما تصارع العطش بسبب الجفاف في الصيف، فنجد أهل القرية يصارعون المطر الذي قضى على منازلهم ومحصولهم فيعتكفون في الجبال منهزمين، ثم ما نلبث حتى نجدهم يهبطون سويا يتشاركون في بناء القرية وتخطيطها من جديد، ثم نجدهم يصارعون الجفاف متكاتفين يبحثون عن الافلاج التي طمرها السيل ليشقونها من جديد، فطبيعة المكان تعتمد على الافلاج للحصول على الماء، والافلاج هو نظام الري مرتبط بالقرى في عمان، عبارة عن منبع للمياه الجوفية تتفرع منه الافلاج/ قنوات للمياه تغطي البلدة، فما زالت القرية تحتفظ بسمة الاشتراكية في توزيع المياه فلا سيطرة لأحد عليها سوى الخالق.
وخارج السياق نذكر عندما ذكر الراوي أسطورة النبي سليمان حينما مر بعمان فوجدها قاحلة فأمر الجن بحفر الافلاج، سرت داخلي رعشة أن يقرأها بنو إسرائيل فيطالبون بحقهم في عمان!، هذا كان خارج السياق لكنه مهم.
فالبيئة المحلية لقرى عمان هي بطل الرواية، فتنتشر في الرواية بجانب الافلاج حكايات الجن والأسطورة وعناصر الطبيعة القروية كالزام والغاف والأثل، والوادي والنبع والقربة، بجانب انتشار ظاهرة الألقاب، وهو أمر مرتبط بالبيئة القروية، فلكل شخصية لقب من صفاتها، بو عيون مثلا لحظة نظره وهكذا، بجانب اعتماد الشخصيات في الحوار والراوي أو السارد على كنز مصقول من الأمثلة الشعبية سواء العربية أو المحلية العمانية، مما ساعد في وضع معالم بينة للبيئة القروية التي يرصدها الكاتب.

زهران القاسمي بعد فوزه بالبوكر

الروائي زهران القاسمي بعد فوزه بالبوكر

اللغة والحوار:
جاءت اللغة سلسة تهدر كالماء هدرا، فجاءت فصحى فخمة الألفاظ دارجة الفهم، وجاءت قدرة الكاتب في استخدام مخزونه الهائل من الكلمات والخيال في رسم صور بلاغية رشيقة التعبير جميلة الوصف والمعنى والاستعارة ، فيقول في غزل نصرا زوجة القافر” كأن كل خيط درب يأخذها لتبحث عن زوجها..” ويقول في وصف كلام أهل القرية السيء ” هدير ذلك الوادي الجارف من الكلام” فهو يشبه كلام الناس في استرساله وكثرته بهدير الماء المناسب الذي يجرف كل شيء في طريقه.
واستخدم زهران القاسمي اللغة العمانية القروية المحلية في الحوار، ورغم صعوبة فهم بعض الكلمات لمحليتها الشديدة إلا أنها تفهم من السياق، وساعد هذا الحوار القروي في الدخول في جو الرواية ومعايشة البيئة معايشة تامة، حتى أن القارئ يجد نفسه تلقائيا يقرأ هذا الحوار بالطريقة الخليجية، ويخرج من الرواية وقد أضاف لرصيده اللغوي العديد من المعاني والمرادفات الجديدة، فمثلا يعلم أن الطوي هو البئر والمحْل هو الجفاف والبيدار هو الفلاح والطارش هو مثل المنادي الذي ينقل الاخبار والرسائل.
السرد والحبكة
السرد جاء لا بطيئا بل هادئا، ساعد على تفشي هذا الهدوء والايقاع البطيء على جو الرواية تطرق الكاتب إلى حكايات متشعبة تأخذنا بعيدا عن الخط الرئيسي، ولكنها حكايات غير مملة بل تشيع فيها الغرابة والسحر مما سيطر قليلا على بطئ الايقاع.
الحبكة متماسكة وأسلوب تسلسلها يدل على كاتب متمرس وفذ، فهو يقدم الشخصية ثم يدخل في دهاليزها فيما بعد في مكان ما من الحبكة، فتشعر وكأنه يستخدم اسلوب سينمائي يقدم فيه ظهور أول للشخصية ثم يعريها فيما بعد، ولكن هناك غموض زمني يلف الحبكة، فنحن لا نعلم كم استغرقت هذه الحكاية من زمن! مشينا مع القافر حتى وصل سن الخامسة عشر ثم انتهى التقويم الزمني للأحداث.
الشخصيات والصراع
ركز الكاتب على الجانب المادي والاجتماعي للشخصيات عموما، وغاص معنا في الجانب النفسي لبطل الحكاية القافر سالم بن عبد الله، وأخذنا في نزهة إلى ماضي الشخصيات الرئيسية ورصد تاريخها حتى اللحظة الحاضرة التي تواجهها، ولكن بدأ مصير الشخصيات مبتورا، أين مصير شخصية كاذية بنت غانم وهي شخصية رئيسية؟ أين مصير آسيا مرضعة القافر وهي شخصية رئيسية وقد بترت من منتصف الرواية لا نعلم عنها شيئا وهي كانت مرتبطة بالقافر أشد الارتباط؟ فاختفت شخصيات خيلها الكاتب للقارئ أنها مهمة.
الشخصيات النسائية جاءت مناسبة لمجتمع قروي تنتهي مهمة المرأة فيه على تربية المواشي وغزل الصوف والولادة، فجاءت واقعية تناسب الحدث وتتصرف على أساس طبيعة المكان.
الشخصيات جزء من الصراع بل أنها التي تقود الصراع، ولكن في تغريبة القافر الصراع الرئيسي يتركز بالدرجة الأولى بين الإنسان والمكان، فالطبيعة هي من تهاجم الهجمة الأولى وإنسان القرية يواجه مصيره المحتوم، واحتدم صراع المكان مع الإنسان في النهاية مع صراع القافر مع الفلج الذي سجن بداخله وكان صراع من أجل الحياة، ولكن الكاتب ترك النهاية مفتوحة هل سينتصر القافر على الفلج الذي سجن بداخله أم ستكون نهايته غريقا مثل أمه وقد كان يتقفى أثرها؟
ومن الصراعات الأخرى المقدمة في الرواية صراع نصرا زوجة القافر مع الزمن، فهي تصارع الزمن من خلال غزل الصوف في انتظار زوجها الغائب الذي ظنه الناس ميتا، وما إن تنتهي من الغزل ستوافق على الزواج نزولا عند رغبة أهلها، ونتذكر من هذه القصة أسطورة بنيلوبي الإغريقية والتي وظفها الكاتب في هذه الرواية.
هكذا قادنا زهران القاسمي في دهاليز قريته الملتحفة بالطبيعة ليعبر عن مأساة انسان القرية في صراعه من أجل الماء وصراعه مع المعتقدات السائدة، دون أن يصدمنا بغيوم فلسفية ومركبات نفسية تنقض ما غزله من جمال لغوي وصور خيالية ووصف جميل لطبيعة خلابة، فهبطت الرواية في روحنا كما هبط الماء في الفلج من الصخرة فصادفتنا عطشى لمثل هذا الجمال الأدبي فتمكنت من نفوسنا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* كاتبة _ مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى