د. سعداء الدعاس★
رغم انشغالنا بمتابعة عروض المهرجان القومي للمسرح المصري، والتي تناولنا بعضها في الجزء الأول من مقالنا هذا، على صفحات مجلة (نقد X نقد) إلا أننا استطعنا اقتناص الوقت لحضور بعض ندوات المهرجان، التي امتازت بالاختيار الموفق للموضوعات، وجودة وجِدَّة بعض الأوراق، التي قُدمت في قاعة الندوات، في المجلس الأعلى للثقافة، ضمن أجواء محفوفة بالأصدقاء من المسرحيين.
هل أسلوب التمثيل خيار الممثل أم المخرج!؟
من بين الندوات المقدمة، استمتعتُ بالإيجاز، الذي قدمته الكاتبة المسرحية رشا عبد المنعم لورقة د. سامية حبيب، التي اعتذرت لأسباب طارئة، والتي تناولت “رائدات المسرح المصري”، فكانت رشا، ذكية في تقديم الورقة، واقتناص فقرات منها، بما يتناسب وأجواء الندوة، لتقرأها بهدوئها المعهود، وتعرضها بموضوعية تامة، كممثلة بريختية، تحافظ على المسافة التباعدية بينها وبين الشخصية.
على الطرف الآخر، قدَّم الدكتور حسام عطا ورقة خاصة، حول أداء الفنان (يوسف وهبي)، متناولاً إيماءاته، وكيفية تحكمه بتقاطيع وجهه، متوقفاً عند أدواته الفنية في عرضين مسرحيين: عرض (راسبوتين)، وعرض (بيومي أفندي)، وذلك بأسلوب علمي دقيق، لاقى استحسان الحضور. كل ذلك في ظل إدارة واعية للندوة من قبل المخرج المسرحي أحمد الحناوي، الذي فتح باب النقاش بإشادته بورقة د. عطا، واضعاً يده على خلل الكثير من القراءات النقدية المصرية والعربية، التي تظل تدور في دائرة (الحكاية)، عاجزة عن قراءة جسد الممثل بحركاته وإيماءاته، فأشعلت ملاحظته تلك النقاش، كما أن شخصية (يوسف وهبي)، فتحت شهية الحضور، لطرح العديد من التساؤلات. ومن جانب آخر، لم أحضر مع الأسف، بداية عرض الأوراق العلمية للناقدين ناصر العزبي، وشعبان يوسف، لكني استمتعت بالحوار الذي دار حول الأوراق من قبل مداخلات الحضور.
في اليوم التالي، وبإدارة الزميل العزيز محمد الشافعي، سعدتُ كثيراً برؤية الكاتب والناقد الكبير عبدالغني داود، هذا الإنسان الجميل، الذي كتب عن عرض “هاملتهن” – قبل سنوات- مقالاً أضاف لي الكثير.. أخجلني بتشجيعه، وأسعدني لقيمة كاتبه.
قدَّم عبد الغني داود ورقته، حول مسارات التمثيل في مصر، فكان لطيفاً كعادته، عذباً في حديثه، مُصَنِّفَاً التمثيل بتقسيمات تراتبية، تأخذ بعين الاعتبار المنهجية العلمية، والموهبة والخبرة، ثم جاءت ورقة الدكتور مدحت الكاشف، الذي استعرض موضوعه عبر أسلوب حكواتي شائق، يتناسب وأجواء الندوة، مؤججاً في عقلي، تساؤلات عديدة حول المقارنة، التي طرحها د. الكاشف بين خريجي الورش، وخريجي المعاهد الفنية، الأمر الذي يستحق مقالاً للكتابة عنه!؟ خاصة بعد أن تَطَرَّقَ الكاشف لأعداد الخريحين، فتساءل علاء الجابر عن عدد النقاد الفعلي، في الساحة المسرحية المصرية، مقارنة بخريجي المعهد، وهي إشكالية نعاني منها في الكويت أيضاً، وكتبتُ عنها مراراً.
تساؤلات عديدة طرحتها الندوات التي حضرتها، والأوراق العلمية التي صدرت في كتاب، جميعها تدفع للكتابة، وتنقلنا لفضاء آخر نتساءل فيه؛ ما إذا كان الأسلوب التمثيلي خيار الممثل أم المخرج!؟ ونبحث فيه عن الدور الحقيقي والفعلي للمعاهد والورش في إعداد الممثل؟! وهو ما يحتاج إلى مقال خاص بذلك.
الإشكالية التي تروق لي!
ألاحظ للعام الثاني على التوالي، أن ندوات (القومي) يحضرها عدد محدود من الجمهور، ورغم أنها إشكالية قد تعود إلى توقيت الندوات، أو عدم الإعلان الجيد عنها، إلا أنها إشكالية (تروق لي) إن صح الوصف، حيث تُضفي على الندوات حساً عائلياً حميماً، يتسرب من القاعة، إلى المنصة، فتجد الجميع في حالة من البهجة، تصل إلى حد الضحك في بعض المواقف، دون أن يُؤثر ذلك على النقاش، الذي يظل رصيناً، جادَّاً، محتدماً، يصل إلى حد الجدل أحياناً.
تشكل تلك الأجواء، عاملاً رئيساً لإثراء الجلسة، فما إن يتردد أحدهم في عنوان مسرحية، أو سنة عرض، حتى تجد القاعة بأكملها تلتفت إلى د. عمرو دوارة، بانتظار تصحيح المعلومة، وما إن يلتبس الأمر على المتحدث بالخلط بين عملين، تتعالى الأصوات لتصويب الخطأ، كل ذلك في ظل تعليقات واعية للمخرج (أحمد السيد) معجونة بخفة دمه المعهودة، وأسئلة ملغمة بالجرأة للزميل جمال عبد الناصر، يلقيها في قلب القاعة بابتسامة خفية، ومداخلات تأملية عميقة للأستاذ محمد الروبي، ينثرها على المكان بهدوء جم، وإضافات تاريخية دقيقة لناصر العزبي، وتساؤلات فلسفية لحمادة شوشة، وإشارات مغايرة لعلاء الجابر، بالإضافة للعديد من الأسماء الفاعلة في كل ندوة.
تحت مظلة (القومي)، أشعر دائماً أن الندوات، كزيارة عائلية لبيت أحد الأصدقاء، أما أصحاب المنصة فبمثابة ضيوف العائلة؛ حين يتحدثون، الكل يصمت، وحين يصمتون الكل يُعلِّق، بصدق الأحبة، ومرح الأصدقاء، وعريف الندوة، كأنه كبير العائلة، الذي يحاول السيطرة على أبنائه، مردداً بلطف (آخر سؤال.. معلهش ده بقى آخر سؤال)، متناسياً أن السؤال الأخير كـ (غودو) لا يأتي أبداً.. فالحوار يظل ممتداً إلى ما بعد الندوة، وقوفاً أولاً، ومن ثم على طاولات المقهى الملاصق للمجلس الأعلى للثقافة، بانتظار أن يبدأ فتيل العروض المسرحية بالاشتعال.
نسمة أغسطس، واللمّة الحلوة!
ليل القاهرة، دائماً محفوف بالأحبة، فبدءاً من الأيام الأولى لوصولنا، تستقبلنا الغالية (هبة الله السيد) وأختها (منة الله السيد)، بكل شوق. فتاتان تتجسد فيهما الروح المصرية الأصيلة، التي نشاهدها في المسلسلات، والأفلام، حيث الحب غير المشروط، والإخلاص بلا مقابل، رفقتهما نركب قطار (القومي) لحظة بلحظة.
ورغم أن أيام المهرجان، مكتظة بالأنشطة (ثلاثة عروض في اليوم الواحد، بجانب الندوات)، إلا أن ذلك لم يحرمنا من اللقاء، بالأحبة والأصدقاء، المشغولين بالمسرح، والمهتمين بحضور العروض، حتى تلك التي شاهدوها من قبل، إما تشجيعاً للفرق المسرحية، وإما تفاعلاً مع مهرجان مصر الأبرز، لعل أولهم، صاحبة الوجه البشوش والقلب الحنون د.عايدة علام، التي تُصِرُّ على مساندة أبنائها المسرحيين بكلمة طيبة، ونصيحة صادقة، رفقة الشقراء الجميلة، صاحبة الابتسامة الآسرة، نادية مؤمن، كما لاحظتُ اهتمام النقاد بالحضور، بمتابعة حثيثة، واهتمام صادق، بالمنجز المسرحي، على رأسهم الناقد يسري حسان، الذي صادفته في معظم العروض تقريباً، والناقد جمال الفيشاوي، الذي فاجأني بحضوره لنفس العروض أكثر من مرة، واهتمامه بالحديث مع الشباب وتشجيعهم، ولفت انتباهي، الحضور الدائم للعروض من قبل المخرج أحمد السيد، والناقد محمد الروبي، رغم حضورهما اليومي للندوات، وهو أمر مرهق جداً، وهكذا بالنسبة للناقد أحمد خميس، الذي ارتبطت صورته في ذهني – ومنذ سنوات- بالمتابعة الدائمة لجميع العروض بحب ونشاط كبير، المتابعة أيضاً وجدتها من قبل الجميلات العزيزات؛ هند سلامة، همت مصطفى، سمية أحمد ، وفدوى عطية.
أما الوقت القصير الذي يفصل بين العروض، فأستمتع فيه بالإصغاء، لرأي الصديقة الواعية حنان مهدي، ووجهة نظرها النقدية حول العروض، ولا أغفل عن اقتراحات الصديقة المبدعة، رشا عبد المنعم، التي أدين لها بالمتعة، التي جنيتها إثر مشاهدتي لعرض (الرجل الذي أكله الورق) رفقة المخرجة العزيزة وسام أسامة، وأسعد كثيراً بلقاء صديقتي الجميلة زهراء المنصور، وكم كنت فخورة بمقابلة أبناء مجلة (نقدXنقد) في معظم العروض، يحفهم حماس الشباب، وتغلف ملامحهم الدهشة، ليخرجوا لنا بمقالات نقدية مميزة، واكبت معظم العروض والفعاليات، وأسعدتْ صُنَّاعها ومبدعيها.
ولا يمكن أن أتغاضى عن الروح الجميلة للفنان علي كمالو، عضو مجلس إدارة نقابة المهن التمثيلية، الذي شاهدته وهو يتابع متطلبات الكثير من الشباب المسرحي بكثير من الود، وأسعدني كثيراً متابعة الفنان سامح بسيوني (مدير المسرح العائم) وياسر الطوبجي (مدير مسرح ميامي) لمعظم العروض المشاركة، وتشجيعهم لشبابها الشغوف بالفن، رغم المنافسة المشتعلة بين المسارح.
وعند الحديث عن دور العرض ومسؤوليها، لا بد أن أتوجه بالشكر الجزيل لجميع المدراء والمسؤولين في المسارح، على الاستقبال الراقي والحفاوة الجميلة، والاهتمام بنا تحديداً (علاء وأنا)، والتي تنبع من العلاقة الطيبة التي تربطنا لسنوات، بالإضافة لسعادتهم بحرصنا كمسرحيين عرب على متابعة مهرجان مصري صرف؛ وهذا ما عبَّر عنه بعضهم، بكلمات مباشرة.
فشكراً لكل دور العرض على الاحتفاء، وأخص بالشكر السيدة العزيزة (غادة جنبلاطي) التي لا تغفل عن كل صغيرة وكبيرة بنشاط ومحبة، وفي مسرح السلام الفنان (محسن منصور)، الذي يستقبلك بكلمات ملؤها الود وخفة الدم، والأخ العزيز (ممدوح حفني) الذي يحتفي بنا بوجه بشوش واهتمام كبير، وصاحبة الابتسامة الجميلة (سحر حسن) في المسرح العائم، والرائع دائماً (عمرو سليمان) في مسرح الهناجر، الذي يُخْجِلُنا بكرمه ولطفه في كل مرة نحضر فيها للهناجر أو لدار الأوبرا عموماً، وابن الصعيد الأصيل (محمود البدري) في مسرح السامر، لطيب أخلاقه ورشاقة عباراته، والأخ العزيز المحترم (محمد لبيب) في الطليعة، والمحترمان (محمود فؤاد ومايكل رفلة) في مسرح نهاد صليحة، للطفهما الجم، ولا يمكن أن أنسى مسرح مركز الإبداع (عشرة العمر)، فشكراً للعزيز أشرف كابونجا، وكل رجال (الأمن) على الاهتمام والمحبة، والشكر الدائم للعزيزة الرائعة (إيناس العيسوي)، على لطفها واهتمامها الجميل.
بعد أن يُسدل الستار على العروض، تظل القلوب مزهوة بالأصدقاء، واللقاءات، التي تستمر إلى ما بعد منتصف الليل، فلا يمكن أن أنسى الساعات الجميلة، التي قضيناها رفقة أستاذنا الغالي المخرج (عصام السيد)، في حديث مغاير، كل كلمة فيه تحفر في الروح، كما ستظل في الذاكرة، تلك الجلسة الِاستثنائية مع صديقنا وأخينا الغالي الفنان (حمزة العيلي)، وهكذا الوقت، الذي قضيناه مع أخف دم في الكون، الصديق والأخ الغالي الفنان (هشام إسماعيل)، وصديقتنا النقية أختنا الجميلة الفنانة (شيماء عبدالقادر)، وابنتهما الموهوبة الذكية جداً (صوفيا).
ولا أجمل من الأوقات التي قضيناها مع صديقتنا الغالية (د. رانيا يحيى)، التي لا نملّ أبداً من صحبتها وخفة دمها ونقاء روحها، وصديقتنا المختلفة جداً؛ الروائية الجميلة والنائب في البرلمان (ضحى عاصي) بمتعة كبيرة تدثر حواراتها المكتنزة بالوعي.
كما استمتعتنا كثيراً، بالحوارات الجانبية مع المخرج الأستاذ خالد جلال، الذي لا ينفك يبث في نفسي الحماس للعمل المسرحي، بكلام رائع وتشجيع دائم له عظيم الأثر في نفسي، ولا أنسى متعة الحوار مع الفنان (ياسر صادق)، بصراحته الشديدة في التعبير عن آرائه، والفنان( محمد رياض) بنبرته الموزونة، وابتسامته التي لا تغيب عن محياه، ولا يمكن أن نُغْفِلَ لطف السيدة الراقية (ماجدة عبدالعليم)، والأخ النشيط (الجدع) (محمد أبو يوسف)، الذين أخجلونا باهتمامهم، في ظل انشغالهم اليومي. وما أجمل ذلك الحوار الذي دار بيننا وبين الفنانة الجميلة (سيمون) التي تمتلك قدرة خارقة على تغليف يومك بالبهجة.
جاء حفل الختام، محتضناً كل الأحبة، كطاقة جذب رائعة، وفرصة عظيمة للقاء القلوب النقية التي انشغلت عنا، أو انشغلنا عنها في زحام المهرجان، أولها فنانتنا وحبيبتنا الغالية سميحة أيوب، التي أسعد شخصياً بالحديث معها، وكتبت عن ذلك مقالي (أن تأكل من يد سميحة أيوب!)، صديقتي وزميلة الدراسة الباحثة الجادة، الجميلة شيماء توفيق، والزميلة الفنانة الجميلة سارة شكري، وكم تمنيتُ في هذا اليوم أن أرى الفنانة الجميلة فيفيان صلاح الدين، التي قضينا معها يوماً جميلاً، وعدتنا فيه أن تكون ضمن متابعي المهرجان صحبة الكثير من الأصدقاء والمحبين الذين يشتاقون للقائها، ويتساءلون عن غيابها.
اِنقضت أيام المهرجان، لكن الذكرى تدوم، خاصة حين تداعبها عدسة الرجل الرائع (عم عيد خليل)، المصور المحترف، مقتنص اللحظات الجميلة، صاحب الذاكرة الذهبية، التي تحمل مخزوناً مصرياً وعربياً يدعو للفخر والبهجة، متشبثاً بعدسته التي تدفع باللقطة الآنية إلى الخلود. ولا نغفل الجهد الكبير للمصور المبدع مدحت صبري، وصور الصديق البشوش كمال سلطان، والمصورة الصغيرة الجميلة (نغم عادل)، ومسؤول الدعاية (محمد فاضل) الذي فاجأني بوعيه في قراءة العروض بعين ناقدة، رفقة زوجته المصورة الجميلة التي افتقدنا صورها هذا العام (هدير السيد)، لكننا كسبنا ابتسامتها وهي تحمل طفلهما الجميل داود (محمد فاضل الصغير)، الذي كان يتحلق حوله معظم ضيوف المهرجان ومريدوه، خلال أيام قُدِّمَتْ فيها مجموعة كبيرة من العروض المميزة، والندوات المثمرة، المُغلفة بالحب، واللمّة الحلوة!
ــــــــــــــــــــــــ
★ مدير التحرير