رأي

د. سعداء الدعاس: “المسرح الإفريقي المعاصر”.. دراسة كُتبت بحُب

د. سعداء الدعاس★

ليس من الصعب أن تكتشف ما إذا كانت الرواية أو القصة التي أمامك كُتبت بحب أم لا، لكن من الصعب جداً أن تكتشف ذلك في حقل الدراسات، حيث تكتظ الأبحاث والكتب العلمية بالاستشهادات، وتتكدس صفحاتها بالمعلومات، مذيّلة بهوامش مشبعة بالبيانات، خاتمتها نتائج، وقائمتها مصادر ومراجع.

أمام هذا النوع من الكتابة التي ترتدي حلة رسمية، يصعب عليك تمييز رأي الباحث من بين جموع الآراء التي يكتظ بها البحث، ولا يمكنك تلمس روحه التي تذوب أمام جمود الكلمات.

رغم ذلك، وطوال علاقتي بالبحث العلمي، التي بدأت منذ أكثر من عشرين سنة حين كنت طالبة، إلى اليوم، استطاعت مجموعة من الدراسات والكتب أن تحقق تلك المعادلة الصعبة، من بينها هذا الكتاب، الذي قرأته أثناء اشتغالي على موضوع خاص بالمسرح الإفريقي، حين اكتشفت دراسة تقبع بين أرفف مكتبتنا في الكويت، ولم أطلع عليها من قبل، بعنوان “المسرح الإفريقي المعاصر – دراسة في الدراما الأدائية” لأسماء يحيى الطاهر، استقيتُ منها – على عجل- ما كنت بحاجة إليه، وسافرتُ إلى القاهرة، بعد أن اعتقدتُ بأنني أنهيتُ دراستي تلك، وكما هي عادتي في التعامل مع كل كتاباتي حتى البحثية منها، عدتُ لقراءة ما كتبته بعد مرور أكثر من شهرين، لأدقق في كلماتي بعينٍ فاحصة، كناقدة، لا باحثة، وكالمعتاد دونتُ الكثير من الملاحظات، التي قررتُ مراجعتها والاشتغال عليها، قبل التسليم.

د. أسماء يحيى الطاهر تتوسط علاء الجابر وسعداء الدعاس

سار الأمر بهدوء وسلاسة، إلى أن وصلت إلى استشهاد من كتاب أسماء يحيى الطاهر، اكتشفتُ فيه أنني لم أدوّن رقم الصفحة، بحثتُ في مكتبتنا في مصر – تلك التي زوّدها علاء بأهم وأغنى المراجع طوال السنوات الطويلة الماضية ولا يزال- علني أجد الكتاب، لكني لم أجده، وبما أنني تركتُ المراجع جميعها في الكويت، شعرتُ بالأسى، لكن علاء أسعدني حين أخبرني بأن الكاتبة صديقته على الفيس بوك، وبالفعل ما إن أرسل لها الرسالة، حتى استجابت بلطف الأصدقاء، وبسرعة الباحثين، وأرسلت الكتاب pdf على الإيميل.

اِنتهت المهمة، لكن علاقتي بالكتاب لم تنته، وكأنني أكتشفه للمرة الأولى، بعيداً عن ضغط فكرة (الانتهاء من البحث)، فقرأته من جديد، ولكن هذه المرة، بروح القارئ/المهتم، بل إنني من شدة استمتاعي، ضممته لقراءات قبل النوم، التي أخص بها الرواية والقصة فقط.

المُتعة التي طالتني لم تأت من فراغ، بل من أساس واحد ووحيد، أن الباحثة كانت في المقابل مستمتعة بكتابة كل صفحة من مُنجزها، تخيلتُها – وأنا أقرأ بعض المعلومات- تقفز فرحاً عند حصولها عليها.

شاهدتُ من بين الكلمات دهشتها لحظة اكتشافها لزاوية جديدة، أو حصولها على نص جديد، في ظل مادة غير مستهلكة.

بسلاسة وتراتبية تناولت الباحثة الفنون الأدائية، طارحة عدة إشكاليات، أبرزها علاقة إفريقيا بالشفهية والتدوين على حد سواء، والمصدر الرئيس لوصف “البدائية”، الذي وُصِمَ به الكيان الإفريقي بأكمله، رغم منجزه الإنساني العظيم، وتوقفتُ عند المعاني المستترة خلف تراث تلك القارة، الذي ينطلق من خصوصية بيئية بحتة.

كما صنفت الباحثة التراث الشفهي بتنوعه؛ كالأساطير، الطقوس الدينية، الاحتفالات التقليدية وغيرها، متوقفة عند الطقوس الدينية وصياغتها درامياً، مع أمثلة متعددة تعبر عن فنون تلك القارة.

ما إن تتصفح الكتاب، حتى تكتشف عوالم جديدة، ومعلومات مغايرة، لم تقرأ عنها من قبل، وفنون لم يُسلط عليها الضوء سابقاً، وبما أن البحث قُدم كأحد المتطلبات العلمية لنيل درجة الدكتوراه، لم تنس الباحثة، أن تعيد صياغته ليتناسب ومنشورات المهرجان التجريبي، فقدمت الكتاب بأسلوب علمي لم يخلُ من اللغة الأدبية، التي لامست الروح والوعي معاً.

لعل أكثر ما يميز هذا الكتاب، أن منطقة البحث إجمالاً، من المناطق المهجورة بحثياً على المستوى العربي، أذكر شخصياً أنني قرأت كتباً/دراسات عربية معدودة ومحدودة جداً عنها، لعل أشهرها ما نُشر في سلسلة عالم المعرفة “الأدب الإفريقي” لعلي شلش، الذي تضمن جزءاً عن المسرح، وكتاب “قضايا إفريقيا” لمحمد عبد الغني سعودي، كما أن مجلتَيْ “المسرح” و”فصول” المصريتين نشرتا بعض الدراسات واللقاءات المهمة في هذا الإطار، ولا ننسى مركز اللغات والترجمة في أكاديمية الفنون، ودار التأليف والترجمة في جامعة الخرطوم، اللتين نشرتا كتباً قليلة، لكنها مهمة عن المسرح الإفريقي، والغريب هنا أن أسماء الطاهر لم تستعن بأي منها في كتابها، ولا أعلم ما إذا كان ذلك عن قصد، أم مجرد صدفة، وإن تمنيتُ ذلك في جميع الأحوال، لإيماني الكامل أن باحثة مثلها، ربما تمتلك وجهة نظر خاصة بتلك الإصدارات، التي نشر بعضها منذ أكثر من خمسين عاماً، وتضمن بعضها معلومات مغلوطة، لا تخرج عن نطاق الأفكار المتوارثة عن قارة إفريقيا.

بجانب ملاحظتي الخاصة بالمراجع، تمنيتُ أيضاً أن يكون الجانب العملي أكثر تنوعاً، فأمام باحثة من هذا النوع، يتمنى القارئ أن يتعرف على أكبر قدر من النصوص، في ظل قراءتها الدقيقة والمغايرة.

بجانب استمتاعي بالكتاب، سعدت كثيراً حين قرأت أسماء أساتذة أعشقهم، وارتبطت بمنجز بعضهم بشكل أو بآخر، تمت الإشارة إليهم وتقديم الشكر لهم في مقدمة الكتاب، حيث لمستُ مدى وفاء الباحثة أسماء الطاهر، لكل من أمدَّها بمرجع أو معلومة، خاصة والدتها المخرجة عطيات الأبنودي، التي بثت في روحها الشغف بالقارة السوداء.

أسماء يحيى الطاهر في طفولتها، مع والدتها عطيات الأبنودي

كتاب “المسرح الإفريقي المعاصر– دراسة في الدراما الأدائية” للدكتورة أسماء يحيى الطاهر، كتاب يستحق القراءة، ويضيفُ لك الكثير – خاصة في الجزء النظري منه- عن قارة يعتقد كثير منا أنه يعرفها جيداً، ومسرح حُشر قسراً في قالب تقليدي، صنعته أفكارنا المتوارثة؛ فيعمل الكتاب حتماً على كسر تلك القوالب، بعشق سرَّبته لنا الكاتبة/الباحثة، التي لا يخفى على كل من يقرأ الكتاب، أنها كتبته بحب.

ــــــــــــــــــــــــ

★ مدير التحرير

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى