مسرحمشاركات شبابية

مي الدماصي: لو احتضنتمونا..لما حجزنا (ثلاثة مقاعد في القطار الأخير)؟!

مي الدماصي★

“فكراني ناسية؟ مفيش طفل بينسى” جملة عابرة قيلت قبيل نهاية العرض؛ لكني وجدتها الأنسب والأكثر تعبيراً عن الأزمة، التي يناقشها هذا العرض.

فدائماً ما يُقال إن نشأة الطفل هي الأكثر تأثيراً على شخصيته، فماذا لو كانت تلك النشأة مليئة بالضغوطات والمشاكل؟ وكيف تؤثر على الشخصية بالسلب؟ هذا ما يعرضه عرض “ثلاثة مقاعد في القطار الأخير” من خلال ثلاثة فتيات هن الأبطال؛ لكنهن يمثلن كل الفتيات ومشاكلهن. فالعرض يختص بمشكلات تنشئة البنات في مجتمعاتنا العربية، وسبل التربية التي تسلبهن أبسط حقوقهن، وتجعل منهن شخصيات ضعيفة، وخائفة، وعرضة للابتزاز وسلب ما تبقي لهن من حقوق.

يبدأ العرض بأغنية “بخاف” مع استعراض بسيط، ينتهي باحتضان الثلاث فتيات لبعضهن، ثم تتحدث كل واحدة عن انعدام خوفها من الظلام، بسبب احتضان أمها لها، والأخرى تقول إن السبب طمأنة أخيها المستمرة بأنه بجانبها، والأخيرة تطمئن بوجود كلبها الذي أحضره لها والدها بعدما طلبته منه.
ولكن مع بداية الأحداث وتطورها، نكتشف أن ذلك عكس ما يحدث وأن كل ذلك من وحي خيالهن، أو بقول آخر ذلك ما تتمنى كل واحدة منهن حدوثه؛ ولكن الواقع لم يمنحهن ما تمنوه.

لعل أبرز المشكلات التي يجسدها العرض، من خلال الفتيات، فكرة الإجبار، والإجبار يختلف من واحدة إلى أخرى حسب معتقدات ورغبات الأهل. فمنهن من تُجبر على ارتداء الحجاب ظناً من أمها أن ذلك ما سيحميها من الوقوع في الخطأ، والأخرى تُجبر علي الدراسة باجتهاد طوال الوقت ودخول كلية الهندسه لتحقيق رغبة أمها فقط، رغم عدم حبها لها، ورغبتها في دخول مدرسة للرقص.


وهنا ليست الأم وحدها المتحكمة، بل في مشهد طريف يوضح العرض تحكُّم كل من له شأن، ومن ليس له أيضاً، حتى يصل من عماتها وأخوالها، إلى عم عبده البواب وزوجته، وحتى بائع السوبر ماركت، والذين يحددون لها موعد عودتها ويبدون رأيهم في مدرسة الرقص، وغيرها من رغبات ياسمين، التي يرفضوها لمجرد أنها ليست مناسبه لهم. ومن هنا تنعدم حرية الاختيار، فتتولد شخصيات مذبذبة، غير قادرة على اتخاذ القرارات.

أما عن المشكلة الأهم، والأكثر اختصاصاً بالفتيات، وهي كيف يتعامل المجتمع مع جسد المرأة، وكيف يسلبها حتى حقها في جسدها، ويرعبها من كونه شيئاً مُحَرَّماً لمسه، أو حتى النظر إليه من خلال مرآة. ويتجسد ذلك من خلال أكثر من مشهد، تارة من خلال حوار بين إحدى البطلات وأمها، وتاره من خلال مشهد جماعي مع استخدام العرائس، وتارة من خلال التعبير الحركي مع أغنية “الخرافة”، التي تناقش نفس المشكلة. ومن هنا أيضاً تخرج شخصيات تكره جسدها، وبالتالي تنعدم ثقتها بنفسها، ويتحول الرعب الذي أدخله المجتمع بعقول الفتيات، إلى رحلة بحث عن من يستحق ذلك الجسد، الذي لطالما بقي سراً مدفوناً.

يناقش العرض أيضاً مشكلات التعسف في التعليم، ووصاية المجتمع، والتحرش، والسخرية من المرض النفسي، والعنف الأسري، وعدم تصديق الأهل لأبنائهم، والانتباه لمشكلاتهم، وانعدام الحوار بين الأهل والأبناء، واللجوء للضرب والعقاب، بدلاً من الحوار، وتأثير مشكلات الأهل على أولادهم حتى وإن كانت لا تختص بهم.
كل ذلك يولد انعداماً للأمان والاحتواء، وهنا يكون الحل في البحث عن ذلك خارج جدران المنزل، وتلك هي النتيجة الحتمية، التي يصل لها الأبناء. وإن كان المنزل يسن أنيابه، فكيف بأنياب العالم الخارجي؟

هذا ما تواجهه الفتيات الثلاث خلال العرض، كلٍ بحكايتها الخاصة، وكلٍ حسب ما تبحث عنه نتيجة فقده في المنزل. والنتائج لا تكون أقل سوءاً، بل تزداد، فمن ذا الذي يجد فريسة، ويمنع نفسه من استغلالها؟ وكيف لا يتسرب المرض النفسي إلى العقل والنفس، تحت تلك الضغوطات؟ فينتهي العرض بجملة رغم بساطتها، إلا أنها تعبر عن أعماق المشكله، وبساطة حلها في ذات الوقت: “اليوم قررت الانتحار؛ ولكنني قلت لنفسي لو احتضنني شخص واحد فقط… سأتراجع”.

تدور تلك الأحداث، والخطوط الدرامية الثلاثة بشكل مترابط، يكمل بعضه البعض، وإن لم يرتبط بشكل تقليدي، مثل أن جميعهن تربطهن علاقة واحدة، لكن يترابط من خلال الحوار، فمنذ بداية العرض، وكلام الشخصيات الثلاث يتضافر مع بعضه، وكأنهم شخصية واحدة، فحيثما ينتهي الحوار عند واحدة، يكتمل عند الأخرى بشكل سلس ومتناسق، جعل الإيقاع مشدوداً.
طوال العرض، وعين المتلقي تنتقل من بؤرة إلى أخرى، لتشاهد ما يحدث هنا وهناك، وتتوالى المشاهد بعرض أحداث متسلسلة لحكاية كل شخصية، وتصاعد أحداثها، تتخلل تلك المشاهد استعراضات راقصة، وهو في رأيي ما ميز العرض حيث مزج المخرج بين الحوار والتعبير الحركي في عدة مشاهد، أضاف التعبير الحركي فيها الكثير من المعاني، فمثلاً بدلاً من أن يقول علي لسان الشخصية إنها تتعرض للإجبار استبدل ذلك بحركات أشبه بعرائس الماريونيت.. وهكذا خلال العرض.
وحتى خلال بعض الحوارات كان يضيف إلى الصورة بجانب الشخصيات الرئيسية، شخصيات ثانوية صامتة -ترتدي نفس ألوان ملابس الشخصية، التي تدخل معها-  تقوم بتعبيرات حركية تجسد ما يدور عنه الحوار، وفي بعض الأحيان تكون أشبه بالتعبير عن مشاعر الشخصية، وتجسيدها بشكل حي أثناء ما تسرده، أو تعيشه على خشبة المسرح. فلم يكن التعبير الحركي مجرد شكل جمالي، بل كان عنصراً أساسياً في العرض.

واكتمل معنى تلك الاستعراضات، باختيار الأغاني المناسبة لكل موقف، وخاصة أنها اغاني “اندرجراوند” من الدارجة بين الشباب في الوقت الحالي، مما يجعلها أكثر قرباً وواقعية وتعبيراً عنهم. وكانت جميع العناصر الغنائية، نسائية مما يتناسب أكثر مع تيمة العرض النسائية، التي تختص بمشاكل المرأة منذ الطفولة، كذلك المؤثرات الموسيقية كانت مناسبة مع المَشَاهِد وحالتها، وتضيف لها نوعاً من التأثر، يقحم المُشَاهِد أكثر داخل الحدث.

أما على مستوى الصورة، فكانت الديكوات المستخدمة، بسيطة جداً، ومن أدوات بسيطة وقليلة يتم تشكيلها أكثر من مرة، لتستخدم في أكثر من مكان ومعنى. فالخلفية عبارة عن قماشة بيضاء معلق عليها صورتان، وقطع الديكور مكعبات بيضاء بالإضافة إلى بعض الكراسي، تدخل وتخرج حسب المشهد ومتطلباته، مع وجود ثلاثة حبال معلقة منذ بداية العرض يمين ويسار ومنتصف المسرح، تأخذ شكل المشنقة. ورغم بساطة الديكور إلا أنه عبَّر بخفة ورمزية عن رسالة العرض. فالصور الموجودة في الخلفية في بداية العرض، كانت لأسرتين يحتضنون أبناءهم، ومع تصاعد الأحداث بخفة غير ملحوظة نهائياً، يكتشف المتلقي أن أحد الصور تتغير أجزاؤها بالترتيب حتى تصبح شخصاً محطماً مليئاً بالدماء.
أما الصورة الأخرى، ففي نهاية العرض يوضع على أحد أفراد الأسرة -فتاة- علامة إكس سوداء.


أما عن المكعبات البيضاء، وهي ما يبهر المتلقي حقاً، لبساطة الفكرة وقوة تعبيرها، فمع كل موقف سيء تتعرض له إحدى الشخصيات، يقوم الطرف الآخر بأخد مكعب، ووضعه في مكان معين، ليتكون في النهاية من خلالها ثلاثة سلالم، تنتهي عند ثلاث مشانق.
وكأن كل فرد وضع بقسوته حجراً، ليبني سلم نهاية كل واحدة منهن.

لنكتشف في النهاية أن الثلاث مقاعد هي مقاعد الفتيات في القطار الأخير، وأن القطار الأخير، هو نهاية حياتهن، التي وضعها الأهل بأيديهم لأبنائهم، نتيجة إهمالهم، وتركهم الأولاد يبحثون عما يفتقدوه مع أشخاص غرباء، ساعدوا بدورهم في حجز تذكرة القطار الأخير.

الإضاءة كانت نقطة سوداء في تلك الصورة السينوغرافية، التي تكونت من الديكور، وأجساد الممثلين.
فعلى عكس قطع الديكور البسيطة، جاءت الإضاءة كثيرة الألوان والتغيير بدون هدف درامي واضح، وبدون تناسق مع الحدث. وخاصة مع الاستعراضات، فكانت تلك الإضاءة، تلقي ظلالاً على الأرض لا يساهم في إبراز الاستعراض، بل يضعفه ويشتته، وكأنها دخيلة على اللوحة الفنية، فكانت أشبه بإضاءة إحدى الحفلات الراقصة، وليس عرضاً مسرحياً. ولكن في مواضع البؤر والتركيز على الممثلين كانت قوية، وتزيد من الدخول في حالة المشهد، خاصة مع الإضاءات بالألوان الهادئة، بعيداً عن الأزرق والأخضر، لأنهما رغم دلالاتهما الفنية، إلا أنهما شكلا صورة بصرية غير مريحة.

ومن السقطات التي قد يعتبرها البعض، جزءاً من الكوميديا للتخفيف من حدة الأحداث، الجمل غير المناسبة للشخصيات وأبعادها وطبقتها الاجتماعية. فمثلاً في مشهد حارس العقار وبائع السوبر ماركت رددا عدة كلمات باللغة الإنجليزية، ومصطلحات علمية وفنية، من باب الكوميديا؛ لكنها ظهرت، وكأنها دخيلة عليهم وعلى الحدث، لأنها غير مناسبة للشخصية، على الرغم من كون تلك المفارقة مضحكة، إلا أنها شكلت مساراً درامياً غير متناسق.

أما الشخصيات على مستوى التمثيل، فقد  تفوقت البطلات الثلاث، في أداء أدوارهن، ففي لحظات بكائهن تشعر، وكأنك تشاركهن الحزن نفسه ،وفي مشاهد فرحهن وضحكاتهن تبتسم شفاهك دون إرادة منك. وعنصر التمثيل هنا في عرض يعتمد بشكل كبير على تجسيد النفس واضطراباتها ومشكلاتها، كان يجب أن يكون قوياً، ليصل إلى المتلقي ويؤثر فيه، وقد نجح العرض في ذلك، سواء من خلال البطلات الثلاث أو الشخصيات الثانوية.

في النهاية جسد العرض مشكلات لثلاث فتيات؛ لكنهن يمثلن الكثير والكثير من الفتيات اللاتي يبحثن عن الحب والاحتواء والأمان داخل المنزل، وعندما يفتقدن تلك الأشياء، سيبحثن في الخارج، وبين الداخل والخارج قد ينحدر الطريق إلى محطة القطار، لنجدهن يحجزن مقاعدهن في القطار الأخير، في رحلة ذهاب دون عودة.

ثلاثة مقاعد في القطار

تأليف وإخراج مايكل مجدي، تمثيل كاست إعلام جامعة القاهرة: بطولة ياسمين اشرف، سلمي نصر، إسراء سامح
إضاءة: ابو بكر الشريف، تصميم استعراضات: رحيل عماد، موسيقي: رفيق جمال شكري، مخرج منفذ: باخوم عماد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

★ ناقــدة ــ مصــر

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى