مسرح

رانا أبو العلا: (الرجل الذي أكله الورق).. حين تكون كل عناصر العرض أبطالا

رانا أبو العلا★

تنتصر أغلب الأعمال الفنية في نهايتها للخير والعدل، ورد الحقوق لأصحابها، ولكن هل هي بالفعل محاكاة للواقع، أم انها رغبة في أن يتحقق العدل في عالمنا، فعلى أرض الواقع، ليس من الضروري أن تتحقق العدالة، وليس من الضروري أن تنتهي القصص نهايات سعيدة دائماً، ولا أن يأخذ المظلوم حقه، فقد تنتهي أحياناً باستمرار الظلم.

وذلك ما يتبناه العرض المسرحي، (الرجل الذي أكله الورق)، تأليف الكاتب الأرجنتيني أوجستين كوزاني، وقام بالإعداد الدرامي والإخراج محمد الحضري، ضمن فعاليات المهرجان القومي للمسرح المصري في دورته الـ 16، العرض مأخوذ عن نص تاجر البندقية، للكاتب وليم شكسبير، لقد اتخذ الحضري في إعداده لنص العرض، الخط الرئيسي في النص الأصلي، حيث اقتراض أنطونيو من شايلوك المُرابي، وحين تنقضي فترة السداد، يصبح السداد، قطع رطل من لحم أنطونيو، ومن ثم تنطلق أطروحة (الرجل الذي أكله الورق)، والتي يتخذها الحضري من منحى مختلف تماماً عن النص الأصلي، لينسج خلالها نصاً جديداً مغايراً، له أبعاد تختلف في بنيتها عن النص الأصلي، فقد سلك الحضري مساراً يختلف عن مسار شكسبير في رسم الشخصيات والفضاء المكاني، الذي تدور خلاله الحبكة، فنجد أن شخصية إلياس بيلوبر، تختلف عن شخصية أنطونيو، فـالأخير شخص ميسور الحال، يتمتع بقدر كبير من الجراءة، والتي تدفعه إلى شتم شايلوك، حتى بعد اقتراضه المال منه، أما بيلوبر ـ بطل العرض ـ فهو على النقيض تماماً، إنه مجرد كاتب حسابات اضطرته ظروف الحياة وضغوطاتها ان يقترض المال من شايلوك، حيث إنه رغم فناء عمره في الورق والحسابات، لم يجنِ منها سوى المرض والعجز، لكنه لم يجنِ المال، وبالتبعية تكثر الديون عليه، حتى يصل به إلى أن يقف في المحكمة كمتهم عاجز ينتظر الحكم، إما أن يُسدد ديونه، أو يتم اقتطاع جزء من لحمه لصالح شايلوك، فالأحداث تدور في قاعة المحكمة حيث رئيس المحكمة، وهيئة المحلفين، والجمهور، وأمامهم طرفا النزاع محامي شايلوك، والذي يحاول إثبات أحقيته في رطل اللحم، لتعثر بيلوبر في السداد، ومحامي الدفاع الذي يلعب دور الراوي، ويقص خلفية ما حدث لبيلوبر من جهد شاق في عمله، والغوص في الورق والحسابات، وروتين الحياة، بالإضافة إلى زوجته المتطلبة، التي تثقله بالشكوى والطلبات،  وانتقاله من عمله القاسي إلى عمل أكثر قسوة، ويعمم الحضري ذلك الروتين الوظيفي من خلال المجاميع، حيث نجد أوفرتير العرض مجموعة من العمال، يمارسون عملهم في تنظيف القاعة، قبل وصول القاضي والمحلفين، وكذلك مشهد الحافلة، والذي يرمز إلى روتينية العمل لجميعهم، فقد وضعنا الحضري في قالب مغاير به سمات من شكسبير، ولكن ببناء درامي ودلالات مختلفة تماماً، ويتضح من رسم شخصية رئيس المحكمة، والذي بقي طوال المدة التي يخاطبه فيها الدفاع غير مبالٍ، يأكل ويشرب وينام، أحياناً بغياب العدل، وأنه لا أمل في تبرئة هذا الرجل، بل حتى المشاهدين، لم يأتوا إلا من أجل متعة المشاهدة، وهنا تبرز شخصية الطفلة، التي ترمز للبراءة والعدل، و تبتعد تمام البعد عن التحالفات البالية، كونها لم تتلوث بشرور العالم بعد، ولذلك فهي الوحيدة التي تُقبِل على مساعدة الرجل، وترفض ما يحدث له، كما اتضح من خلال الأحداث، الربط الذي يجمع بين الرجل بيلوبر ومحاميه، فكلاهما يعاني في عمله ويمرض، أما هيئة المحلفين، فلم يكترثوا لما حدث لهذا الموظف، الذي بالفعل أكله الورق، فانحازوا ضده.

شكلت سينوغرافيا العرض، لوحة ديناميكية  وظفت جميع عناصرها، لتسهم في خلق دلالات تتفق مع طبيعة العرض، وهنا تكمن قدرة المخرج على خلق صورة مسرحية مغايرة للسائد، تتفق مع البناء الدرامي المختلف للعرض، وهو ما يبدو واضحاً في التكنيك المستخدم في الصورة المسرحية، فنجد أن ديكور العرض ( صممه محمد سباعي) يجسد فلسفة العرض، التي رسخها الحضري من البداية، حيث نجد في عمق المسرح، مجسماً لشكل أقرب لميزان العدل، ولكنه مبعثر، وكأنه يتألف من نفايات القمامة، ليدل على عبث ما يحدث داخل هذه القاعة، التي لا تكترث للعدل مطلقاً، بل هي عفنة بظلم الأبرياء، وكذلك نجد أن هذا الميزان، الذي من المفترض أن تتساوى فيه الكفتان،  يميل ناحية المال، وهي الناحية التي يجلس بها شايلوك الخصم، كدلالة واضحة على غياب العدل، وانتصار الظلم، وهو ما يكتشفه المتلقي مع استمرارية الأحداث، ومن ثم يبدأ المتلقي في تأويل وفك شفرة الديكور، والتي يجدها تتفق مع البناء الدرامي، الذي اتخذه العرض من المشهد الأول، حتى أن استخدام قفص المتهم بيلوبر، لم يأتِ في قالبه المعتاد، بل استخدمه سباعي بديناميكية، ليشارك في الأحداث المختلفة، التي تدور، فهو مرة يلعب دور المواصلات العامة، التي تختنق بالموظفين، ومرة أخرى هو سرير في بيت الزوجية، وقفص للمتهم، وأيضاً للمحامي في المشهد الأخير، فدلالة القفص، والتي ترمز للقيد، استمرت في كل مرة، حتى وإن اختلف الزمان والمكان.

 أما الإضاءة (لمحمود الحسيني كاچو)، فقد وظفت لخدمة دلالات العرض، شأنها شأن كافة عناصر السينوغرافيا، فنجدها في مشهد البطل، تتغير بين الأحمر والأزرق سريعاً، لتعكس حالة التوتر التي تغلف المشهد، وكذلك بمشهد الطفلة الاخير، والذي استخدم فيه اللون الأبيض، كدلالة على براءة الطفلة ونقائها، وهكذا استمرت الإضاءة في خلق دلالات، تتفق مع طبيعة كل مشهد، كمشهد المواصلات العامة، الذي اعتمد فيه على اللون الأصفر، الذي يعكس الطابع النهاري، ونجد أن اللون الأحمر، ساد في أغلب المشاهد، والذي اتفق مع الأجواء العامة للعرض.

 أما ملابس هناء النجدي، ومكياج ميار محمدي، فكانا استكمالاً لكسر نمطية المشهد ووضعه في قالب مغاير، يعكس أبعاد كل شخصية، فهم لا علاقة لهم بالقضاء أو العدل، وهو ما بدا واضحاً في شخصية القاضي، وشايلوك، ومحاميه، وكذلك الزوجة، بالإضافة إلى مزج الشخصيات، التي ترتدي ملابس تقليدية كشخصية بيلوبر، ومحاميه، وكذلك الطفلة، فقد خلق الحضري، صورة حداثية للمشهد المسرحي بكافة عناصره.

نسج مجموعة الممثلين بأجسادهم تكوينات على خشبة المسرح، لتخلق في كل مرة مشهداً مختلفاً، لوصف حدث مَرَّ على الموظف بيلوبر، سواء في عمله، أو منزله، كما في مشهد المنزل، الذي يتحول فيه مجموعة الممثلين إلى حوض اغتسال في منزل بيلوبر، وهنا علينا أن نتحدث عن قدرة جميع الممثلين على فهم طبيعة العرض، والتي تتطلب الوعي بلحظة كل حركة، حتى لا تبدو الصورة مشتتة، وبالفعل تمكن جميع الممثلين من ضبط لحظة الحركة، فقد بدت الصورة المسرحية متجانسة، في كل مشهد كوحدة واحدة، فقد وعى كل ممثل طبيعة وأبعاد الشخصية، التي يقدمها فنجد يسرا يسري في شخصية الزوجة، والتي أدَّت دور الزوجة المتسلطة والمتطلبة، بمزجها بعض الكوميديا بأداء سلس وغير مفتعل، وأيضاً عبد الرحمن الدمسيسي والذي أدَّى دور المحامي، فقد بدا في بداية العرض، بأداء هادئ ورصين، يحاول من خلاله إثبات براءة المتهم، ليتحول بأدائه في نهاية العرض، ليعكس المرض الذي وقع عليه والظلم، بعد فشله في إثبات براءة المتهم واستمرارية الظلم، وتمكن أيضاً عمر فتحي في دور شايلوك، من تلوين صوته وتوظيفه  بما يتفق مع شخصيته، التي تجمع بين النقيضين، أحدهما ظاهري أنه مظلوم، ويريد حقه في استرداد الدَّين، وأخر خفي، ويكمن به الشر الواقع داخله، وهو ما جسده، خاصة في مشهد المونولوج في اللحظة التي كاد بها أن ينتصر عليه المحامي أرسطو، ويفوز بالقضية، حيث استخدم لغة الجسد والصوت بين الأجش والناعم، ليعكس خلاله ظاهره وباطنه، أما علي الكيلاني في دور إلياس بيلوبر، فعلى الرغم من أنه لم يتحدث حرفاً واحداً طوال العرض، إلا أنه جسد ما يكمن داخله من خلال أدائه الجسدي الصامت، الذي تتخلله بعض محاولات التحدث والآهات، ولكن عبثاً لم يستطع، وهنا أثبت الكيلاني، قدرته التمثيلية في أداء دوره  دون أن ينطق كلمة واحدة، بل استخدم جسده وتعبيرات وجهه فحسب، ليجسد خلاله كل ما يكمن داخله، وهو ما تجلَّى واضحاً في مشهده، فلم يكن بحاجه للغة المنطوقة، بل لأحاسيسه الداخلية، ليعكس مكنونه دون كلمة.

الرجل الذي أكله الورق

تأليف: أوجستين كوزاني، دراماتورج وإخراج: محمد الحضري، تمثيل: أحمد عماد، شهد السيد، معاذ مجدي، محمد هشام، محمد كمال، بيتر صدقي، احمد إبراهيم، مينا منصور، محمد سباعي، علي حسام، سعيد رشاد، إيهاب إسماعيل، هشام حفني، إسـراء ماهـر، إيمان الصادق، همسة علي، محمد أحمد، أنطون فؤاد، الاء ناصر، عبد الرحمن محمد، محمود مكرم، ياسر عبـاس، سلسبيل أشرف، ماهيتاب أحمد، محمد وليد، انطون سلامة، يسرا يسري، عبد الرحمن الدمسيسي، عمر فتحي، علي الكيلاني
ديكور: محمد سباعي، ملابس: هناء النجدي، إضاءة: محمود الحسيني كاجو، مكياج: ميار محمدي، أقنعة: بسنت مصطفى، موسيقى: إسلام علي، القفص المعدني: محمد طلعت، دعاية: عمر فتحي، مخرجان منفذان علاء سلامة، عمر مبارك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

★ سكــرتيــــر التحــريــــر

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى