سارة عمرو: (العيلة) هل تستمر فوق الأنقاض؟
سارة عمرو★
ضمن فعاليات المهرجان القومي للمسرح المصري في دورته ال١٦ تم تقديم عرض (العيلة)، وهو عرض اجتماعي في إطار تراجيكوميدي، مقتبس عن مسرحية (كلهم أبنائي لآرثر ميلر).
يحكي العرض عن عائلة مكونة من أب وأم وولدين، الأم تنتظر عودة الابن الأكبر أحمد، الذي لم يَعُدْ من الحرب منذ خمس سنوات، حيث تؤكد الأم أنه على قيد الحياة، بينما يحاول الابن الأصغر يوسف إقناعها بأن أخاه الأكبر قد مات، بعد كل تلك السنوات، ممهداً بذلك طريقاً لتقبل فكرة أن يتزوج خطيبة أخيه جميلة، وتتوالى الأحداث لنكتشف أنها ابنة شريك الأب في مصنع أسلحة، زُج بهما في السجن بتهمة إخراج شحنات سلاح فاسدة، أدت لوفاة العديد من البشر في الحرب، ندرك أن الأب قد خرج من تلك التهمة، بحكم من المحكمة، ووالد جميلة مازال مسجوناً، فتظهر لنا الصورة كاملة أنه هو المذنب الوحيد…لكن سرعان ما تنقلب الرؤية رأساً على عقب ،فندرك أن مُدعي المثالية يتخذ منها عباءة، ليتخفى من وحش الذنب والعقاب تحت مسمى…(العيلة)!
عرض (العيلة) من العروض المميزة، حيث يناقش العديد من الأفكار المختلفة بشكل بارز، والتي تتمحور حول فكرة ادعاء المثالية حتى الانهيار، فالأب أو العم حسين، الذي يلعب دوره، سعيد سليمان، يرتكب جريمة في الماضي، وذنباً يظن أنه يمكن أن يُغفر، بسبب مبرراته للحفاظ على العائلة، في الحقيقة أظهرت جملة (عشان العيلة) إسقاطات على نواحي الحياة والمجتمعات القائمة بذاتها على مفهوم استمرارية العائلة، والحفاظ عليها برغم أي شيء كبُنيان ثابت على أنقاض وحطام المشاكل والظروف والأفعال السلبية المُفتعلة عن عمد، حيث إن تصرّف الأب حسين طوال تلك السنوات ضمن مجموعة من الميكانيزمات الدفاعية، تمثلت في فكرة هروبه من ذنب يطارده كالشبح، وهو إخراجه لصفقة سلاح فاسد من مصنعه للجيش، تسببت في موت الآلاف.
خوفاً من إغلاق مصنعه، وكان رغم أنه يعلم أن فعلته كانت السبب في موت ابنه الكبير أحمد، فالمصنع بالنسبة له هو الأمل، الذي يُمِدُّ العائلة بالخيرات، وبالتالي لو انقطع انقطعت سُبل الحياة.
في الحقيقة يتلاعب الأب بشكل خفي بأهمية أبنائه، حيث فضّل ابنه يوسف، والذي تمثل رغبة الأب في عدم غلق المصنع، حتى لا ينقطع رزقه على اختيار أحمد لفكرة تجنب اتمام الصفقة، خوفاً على أبناء الوطن، الذين يحاربون في المقدمة.
في الحقيقة لم يكتفِ الأب بذلك فقط، بل إحساسه بأنه من الممكن أن يكون قد قتل ابنه الكبير، بتلك الفعلة، جعله بشكل تلقائي يُلقي اللوم على شريكه مختلقاً قصة وهمية عن خوف شريكة من ضياع الشحنة، فأتم الصفقة.
مقولة (أخطاء الكبار يقع فيها الصغار) تنطبق كثيراً على المسرحية من خلال الابن يوسف (أحمد نادي) حيث يشعر طوال الوقت بالذنب من فكرة بقائه حياً، ونجاته من بين الجميع، أخيه وصديقه اللذين توفيا في الحرب بسبب الأسلحة الفاسدة، ويؤثر هذا الذنب على قراراته، فيرغب في الزواج من جميلة، خطيبة أخيه السابقة، لكنه في أفعاله وتعبيره لها عن حبه متردد…هنا تظهر أثر ميكانيزمات الدفاع، التي لجأ لها الأب حسين في ولده يوسف، حيث خلق لديه بشكل لا إرادي ، حالة من الذنب، بسبب التساؤل المستمر عن أفضليته عن الآخرين، ليكون هو على قيد الحياة، وهم أموات…فكانت تلك عقدة سببها في المقام الأول الأب.
أما الأم (هاجر سيد ) فتلجأ لميكانيزمات دفاعية، تتمثل في محاولة إقناع نفسها عكس ما يحدث، برغم معرفتها بجريمة زوجها، إلا أن سبب صمتها، كان محاولة منها في الحفاظ على كيان العائلة، طوال تلك السنوات، حيث تقنع نفسها أن زوجها لم يُذنب من خلال انتظارها لابنها أحمد، وأنه على قيد الحياة…قد تبدو أماً مسكينة، لكن في الحقيقة تشارك زوجها الذنب والجريمة بصمتها.
أداء الممثلين كان لامعاً وسط الأحداث، والخط الدرامي بشكل غير تقليدي، فقد اعتمدت المسرحية على مفارقات كوميدية، قيلت ونُفذت بشكل لا يجعل المشاهد ينفر بسبب تقليديتها، كمعظم الآخرين ….كما أن الممثلين نجحوا في التمسك بقالب الحكاية بشكل سلس، وتنقلوا بسهولة من الكوميديا للتراجيديا… دون الشعور بأي خلل في البناء الدرامي
تفاعـُلُ الممثلين مع الديكور والتحامهم به، يرجع للإطار العام لفكرة المسرحية، حيث ارتبط الديكور (تصميم محمد زكريا ) بفكرة العائلة من خلال إطارات الصور المستطيلة المُعلقة في كل مكان، التي عبرت عن مفهوم العائلة الحميمة المترابطة، وفراغها دليل على وجود خلل في تلك العائلة، كما عكس الديكور بشكل ما عن الشخصيات، فمثلاً البرواز الذي تحطم، هو رمز للابن الأكبر، الذي مات في الحرب، وتحطمه يعني موته، المميز في هذا العرض، الرُقعة الخاصة بالأب حسين، والمتمثلة بالكرسي الهزاز، حيث كان يعود له، ويلجأ له كلما انتفضت مشاعر الفرح، أو الحزن بداخله، وعندما انكشف على حقيقته انهار على كرسيه، الذي حافظ على سره العتيق، طوال تلك السنوات
لعبت الإضاءة (تصميم محمود علاء)، دوراً جذاباً في العرض، حيث كانت تنقلت من الأزرق الدال على الهدوء والسكينة، وسير حياة العائلة بشكل طبيعي، إلى البرتقالي الممزوج بالأحمر، في مشهد وصف يوسف لحادثة موت صديقه في الجيش، حيث هيأت الإضاءة في لحظات أجواء الحرب والنيران، التي ابتلعت الجنود دون رحمة، كما أنها تغيرت بشكل سلس من الأزرق للأحمر في مشهد اعتراف الأب ومواجهة الأب بابنه، ومشهد شجار الأم مع زوجها، وهو ما يدل على شدة احتدام التصادم بين الشخصيات، حيث عكست نفوس الشخصيات في لحظات سريعة، وهو ما يُعد عنصراً جذاباً في العرض، يجعل المشاهد يندمج مع ما يُقدم دون ملل
كان للموسيقى والمؤثرات الصوتية، دورٌ فعّالٌ في اكتمال العرض، فقد أعدّها المخرج بشكل يليق بمداخل المشاهد ومخارجها، ففي البداية يظهر مؤثر لصوت العصافير خارج المنزل، كناية عن مدى طبيعية تلك العائلة، ووصفها كأنها مثل أي عائلة، وصوت الطلقات في مشهد وصف يوسف لحادثة موت صديقه ….ومشهد المواجهة حين احتدّت الموسيقى،. كل تلك المؤثرات والموسيقى، تفاعلت مع العرض بشكل خلق تكويناً بصرياً مُلفتاً للنظر
أما الملابس ( تصميم دينا سليمان) فتدل على الحقبة الزمنية للعرض، وهي فترة الحرب قديماً، مما جعلها مُلائمة جداً للشخصيات، دون تكلف أو تزييف، كما كان لعنصر المكياج لـ (سُهيلة عامر) دور في إبراز ملامح الشخصيات دون بريق زائد، فكان المكياج متماشياً مع ملابس تلك الفترة، ومناسباً لكل شخصية على حدة.
نجح المخرج محمد خلفاوي، من خلال رؤيته الإخراجية، وصناع العمل في تكوين لوحة بصرية، لنقل فكرة وقضية، من الواقع للمتفرج بشكل سلس، محاولين إبراز فكرة أو مفهوم العائلة الخاطئ عند معظم الآباء المقتنعين، بفكرة استمرارية كيان العائلة، على أنقاض المشاكل والأفعال السيئة المُبرَّرة، بالنسبة لهم بجانب شخصية الأب الانتهازي لمفهوم العائلة، للتخفي في عباءة المثالية هروباً من المسؤولية.
العيلة
تأليف: آرثر ميلر، إعداد وإخراج: محمد الخلفاوي، تمثيل: سعيد سلمان في دور (حسين)، هاجر سيد في دور (تحية)، احمد نادي في دور (يوسف)، مارينا صبحي في دور (جميلة)، أيمن سرور في دور (رياض)، ماري جرجرس في دور (نعيمة) إعداد موسيقى: محمد خلفاوي، مكياج :سهيلة عامر، تصميم دعايا: عمر فتحي، تصميم ديكور: محمد زكريا، إضاءة: محمود علاء، ملابس: دينا سليمان، مساعد مخرج: على حسام رضوى أحمد، مخرجان منفذان: عمرو احمد، محمد عصام. |
ـــــــــــــــــــــــــ
★ كاتبــة ــ مصــر