طارق هاني: كيف ننصف الأدب والأدباء؟
طارق هاني★
لا أظننا نعدِل حين نعارك انتصارا لموقفنا المناوئ لأي عمل إبداعيّ، مهما بدا ذلك الموقف وجيها، وغالبا ما يبدو وجيها، لأنه يمثّل لنا حصيلة تأمّل وجهد شخصي نسعد بل نحرص على اعتداد الآخرين به. غير أننا نغالط طبيعة النشاط الذي نضطلع به، بضبابية مُفرطة وذاتية موغلة لا ننتصر عبرهما إلا للذات. إن أغلب القضايا النقدية تبدأ نزيهة حتى تلتبس بالذات، فتنماع بعدئذ الموضوعية. وما نخلص إليه في تقديرينا للأمور لا يراعي تقديرات الآخرين من ناحية، وما تمثّله الحقيقة الجمالية شديدة التركيب في مادة الإبداع من ناحية ثانية، ولذلك فإننا أمام مسؤوليتين أولاهما مع القارئ الآخر وحقّه في التلقي المُختلف، وثانيهما مع الأدب ومبدعهِ وحقّه في الإبداع المختلف.
إن ثمة معضلة قديمة كامنة، تتلخص في استعصاء تمثّل الحقيقة في غير ذواتنا الناقدة أو الناقمة، أي ضمن ظنوننا؛ فالآراء النقدية – غالبا – ظنون نقّاد، والتراث النقدي طافحٌ بعبارة مثل: “يريد الشاعر أن…”، أو “لا شكّ أنه…” وغير ذلك…، وليس الإشكال في أنْ نظنّ، لكنه في تقديم الظنّ في ثوبِ اليقين، وأظنّ أن هذه النزعة المذهبيّة ثوب يتسربل به الجميع، إن صراحةً أو كناية، ضرورة أو ترفا، تنتهي بالمحصّلة إلى ما تنتهي إليه المذاهب عادة من إلغاء الفكرة الأخرى، وإقصاء المختلف، وبالتالي تحجير المعاني وتهجير الدلالات والحقائق، انتصارا للرواية المركزية المذهبية الواحدة المزعومة المدعومة كما في المعارك الأدبية. وهذا وإن كان يُتفهّم في مجالات أخرى، فإن بطلانه في الفن والأدب أظهر وأبيَن، ومع ذلك، فإن الرواية المركزية هذه ما تزال تشكل ظاهرةً بيننا، ويكفي أن ننظر لواقع التلقي اليوم حتى ندرك أمثلة حية على ذلك.
دافَع التأثريون -على الرغم من أنهم شكّلوا اتجاها- عن التذوّق في اتّجاه ينحو منحى منفتح، وهم خلصوا بعد نقد لمن سبقهم، بأنه من غير الموضوعي أن يدعي طرفٌ امتلاك الرواية الواحدة أو الحقيقة بمعناها المركزي، تجاه النصّ الأدبي، أو المضمر الإبداعي عامة، إلا في حالات هي أقربُ إلى الاعتساف منها إلى التحقيق. بل لعلّ أحد الأسباب التي أدت إلى تطوّر مناهج القراءة في النظرية النقدية ما بعد الحديثة، كانت اعترافا بالعجز عن الإتيان بحقيقة تلقائية التحقق في الأدب والفن، فضلا عن تقعيد الوصول إليها، والاعتراف بإن استحالة احتكار المعنى، خصيصة الفن والأدب أصلا، الأمر الذي انتهى – أخيرا – إلى القول بتعدد الدلالة، ثم انفتاحها كما في مقولةِ رولان بارت، وهي أوضح ما تكون عند منظّري جماليات التلقي.
يقول المنظر الفرنسي لانسون (1857 – 1934) (منهج البحث في الأدب ص: 27): “لنحذر جيدا من أن نتصور، كما نفعل عادة، أننا نعمل عملا علميا موضوعيا عندما نأخذ في بساطة بتأثرات زميل كبير [ناقدا كان أو أستاذا] بدلا من تأثراتنا نحن. فتأثري موجود مهما كانت قيمتي في نظري، تأثري حقيقة واقعة يجب أن أحسب لها حسابا كما أحسب حسابا لتأثير أي قارئ آخر ولو كان ذلك القارئ برونتير أو تين [وهما ناقدان كبيران] …” إن الصراع الخفيّ الذي دارت رحاه، قديما وحديثا، كان بسبب القاعدة النقدية وتغوّلها إلى حدّ الاعتساف على المعنى، تلك الرحلة التي تبدأ من التقعيد إلى التعقيد.
إن ذلك الخفيّ أو السرّ الذي شغل منظر النقد، بحيث كلما زعم إمساكه به، جاءنا من ينقض دعواه بعد سنوات قليلة، يجعلنا في حاجة إلى مراجعة مواقفنا الناقدة التي لعل الأوان قد آن لأن تُنقض. إن تاريخ النقد كله، بما اتسم به من نقض وحلّ وتجاوز. يعيدنا إلى سؤال هل نقرأ الأدب بصورة جيدة؟ وهل ننصف الأدب والأدباء؟
يقول الناقد المصري محمد مندور (1907 -1965 ) عند حديثه عن التأريخ الأدبي (في الأدب والنقد ص: 8): “… لا مفرّ لمؤرخ الأدب من أن يحكم على ما يدرس وكل حكم لا بد أن يقوم على التجربة الشخصية، إذن فمؤرخ الأدب لا مناص له عندما يحكم على الكاتب أو الكتاب الذي يدرسه من أن يعود إلى نفسه ليتلقى انفعالاتها…” إذن، فإننا حينما نحكم، كثيرا ما نتورّط بتجاربنا، وانفعالاتنا، وسجلّنا الذاتي، بل وحتى الخبرات النفسيّة، ولذا فإن الأحكام المناوئة التي يقطعها ناقد ما لأدب أديب ما، أو بلد ما، أو جنس ما، أو ثقافة ما، نابعة غالبا، من موقف ذاتيّ سابق. ذلك السابق الذي يحدد – سلفا – شكل اللاحق.
لذا فإننا إزاء آراء لا أحكام، وانطباعات لا قيم مستقلّة، تأتي أحيانا استجابة لذواتنا، أو استرضاء لذوات أخرى واتقاء لشرّ أخرى، وبين هذا وذاك، ينبغي أن نعترف بأن الإنصاف أبعد ما يكون في حالات كهذه عن النّقد. أحب أن أستعير تشبيها للباحث المغربيّ طيب بو عزة (1967 – الآن)، حينما قال بأن الوجود مكعب لا يمكن للوعي أن يرى كل أطرافه. إن العمل الأدبي أو الفني كالمكعب الذي تعجز ذات الناقد / القارئ عن الإحاطة بأطرافهِ، ولذا فإن الاعتراف بنسبية الآراء، أمر يعود لصالح الحياة الإبداعية حتى تستوعب الاحتمالات المتعددة والمنفتحة، وتعطي المختلف مجالا للتحقق، ناقدا كان أو قارئا أو حتى كاتبا، أو فنانا تشكيليا، أو غير ذلك…، والإبداع في كل الأحوال، معرّض للنقد على النحو الذي أشار إليه لانسون في الفقرة أعلاه. أحب أن أظن بأن الوجدانيات كلها، والأدب والفنّ منها، فوق أيّ منطق عام، إذ كل عمل فنيّ، يحمل في بطنهِ منطقه الخاص، علمنا ذلك أو لم نعلم، وإلا ما الذي يجعل لوحة الملاك الجديد Angelus Novus – اللوحة المبتذلة في ذائقة أغلبنا – لوحة ذات قيمة عند الفيلسوف الألمانيّ والتر بنجامين إلا لأنه انحاز إلى منطقها الداخلي الذي لم نره نحن، كما أحب أن أظن، مما تجلّى في علاقته العجيبة معها. إنني أحب أن أجزم لو أن هذه اللوحة عرضت في مسابقة أو معرضٍ معاصر، لما التفت إليها أحدٌ، لأننا لا نقرأ الأشياء بمنطقها هي، بل بمنطقنا نحن الممعن فينا، أو منطق النقد العام ونظرياته. وأظنّ أنها اللحظة التاريخية التي دفعت الناقد السعودي عبدالله الغذامي (1946 – الآن) لإعلان موت النقد الأدبي في ندوة عن الشعر عقدت في تونس 22 / 9 / 1997 وفي مقالة بجريدة الحياة أكتوبر 1998. لقد كان النقد الثقافي – كما أميل لأن أفهم – بديلا لتأزّم التعاطي النقدي مع الأدب والفن إلى الحدّ الذي يقوض احتمالاتهما، بما يقترب ولا يتطابق من هذا الذي أشرنا إليه، فتضمن مشروعه جوابا على سؤالنا الذي طرحناه آنفا، حتى كان كتابه “النقد الثقافي” في جملته يطرح سؤالا مثل هذا، كيف ننصف…؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
★ كاتب ــ سلطنة عمان