شعر

عادل الغماز: الجارم؛ شاعر مناسبات أم شاعر وطني؟

عادل رمضان السيد الغماز ★

تعالت بعض الأصوات التي تمنح وتمنع صكوك الوطنية لا لشيء غير أن الإنسان يكتب في موضوعات أخرى غير التي يتكلمون فيها، وظهر من يحاول أن يطمس الجارم ووطنيته وحبه لمصر والعروبة والإسلام، عن قصد أو غير قصد، مدعيًا أنه لم يكن يشغله غير المناسبات المتعددة، وأن شعره إنما هو من شعر المناسبات، والأسرة الملكية في عصره، وكان لهذا السبب.

هذا الموقف المُعادي لشعر الجارم.

وفي هذا السياق لا أدع أنني أنفي هذه المقولة، أو أثباتها وإنما هي محاولة لرد هذه الفرية عنه وإظهار الحق من خلال مفهوم الوطنية.

وردت في كلمة “وطن” في أساس البلاغة بمعنى: كل يحب وطنه وأوطانه وموطنه ومواطنه، والإبل تحن إلى أوطانها. وأوطن الأرض ووطنها وتوطنها واستوطنها.

ومن المجاز: هذه أوطان الغنم: لمرابضها. وثبت في موطن القتال ومواطنه وهي مشاهده.

وجاءت في المعجم الوسيط معنى الوطن: مكان إقامة الإنسان، ومقره وإليه انتماؤه ولد به أو لم يولد. ومربض البقر والغنم الذي تأوي إليه ج. أوطان

تعريف الوطن اصطلاحا: عرف الجرجاني الوطن في الاصطلاح بقوله: الوطن الأصلي هو مولد الرجل، والبلد الذي هو فيه.

وفي المعاجم والموسوعات، وخاصة السياسية منها نجد أنها لا تختلف عن المعنى اللغوي ففي المعجم الفلسفي يقول: الوطن بالمعنى العام منزل الإقامة، والوطن الأصلي: هو المكان الذي ولد فيه الإنسان، أو نشأ فيه.

وفي المصطلحات السياسية الدولية: الوطن هو البلد الذي تسكنه أمة يشعر المرء بارتباطه بها، وانتهائه إليها.

ومن خلال هذه التعريفات يمكن المثول أمام الجارم ووطنيته للمحيط المعايش به.

يصف العقاد الجارم قائلا عنه “زينة المجالس” والجارم ركن من أركان مدرسة شعرية تستحق الآن أن تعرف بملامحها وأن تستقل بعنوانها، فلا تلتبس بمدرسة أخرى.

ويصف الجارم نفسه بين الجدة والفكاهة قائلا:

 لبست الآن قبعة بعيدًا … عن الأوطان، معتاد الشجون

فإن هي غيرت شكلي فإني… “متى أضع العمامة تعرفوني”

والشعر عند الجارم… أعصى الفنون على التعلم، وأبعدها من أن تنال بالدرس والتدريب، إنما هو شعاع يضعه الله في قلب من يشاء، وهبة يمنحها لمن يشاء.

ووطنية الجارم بارزة؛ تشرق شمسها في أشعاره ونثره.

وهو القائل: فإذا استطاعت هذه الأشعار أن تزيد في بناء العربية صفًا أو أن تضيف إلى آياتها البينات حرفًا… فقد نلت التفوق كله، وسكنت نفسي أن قدمت بين يديّ عملا أشعر فيه أداء لحق لغتي وأمتي، وأن فيه غذاء صالحًا للناشئة المصرية الكريمة التي بذلت حياتي وأبذل ما بقي منها في تثقيفها وإنهاضها إلى الأوج الذي تريد وأريد.

وينتمي الجارم إلى المدينة التي حافظت على أبجدية الحضارة المصرية من الاندثار، والتي لها شرف الانتصار على المحتلين في العصور الوسطى، وعلى أكبر إمبراطورية في أوائل العصر الحديث.

يقول عن موطنه رشيد

أرشيد وأنت جنة خلدٍ … لو أتاح الإله في الأرض خلدا

بك أهلي، وفيك ملهى شبابي… ولكم فيكِ لي مراحٌ ومغدَى

لو أصابتك مسةُ الريح ثارتْ … بفؤادي عواصف ليس تهدا

أنا من تربكِ النقيّ وشعري.. نفحات من وحي قدسك تهدى

ولا يعيب الجارم أنه كتب من الأشعار في المناسبات التي مرت به كغيره من الشعراء أحمد شوقي، وحفني ناصف، ومحمد عبد المطلب. وإنما هي من النوع المحمود كما ذهب أبو همام الأستاذ الشاعر بكلية دار العلوم. قائلا: والجارم بك من أصحاب الصنعة بالمعنى المحمود، ولا تشعر أمام كلماته إلا بالجواهر مرصوفة في إتقان بديع.

وها هي أم كلثوم تنشد أشعاره في أوائل عشرينيات القرن الماضي من قصيد الحب والحرب.

مالي فتنت بلحظكِ الفتاكِ…. وسلوت كل مليحةٍ إلاكِ؟

يُسراكِ قد ملكتْ زمام صبابتي… ومضلتي وهداي في يُمناكِ

ويتفاعل الجارم مع الأحداث لإعادة اكتشاف قريحته في ذكرى المولد النبوي الكريم. قائلا:

نبي الهدى قد حرق الأنفس الصدى…. ونحن لفيض من يديك ظماءُ

حننّا إلى مجد العروبة سامقًا… وما نحن في ساحاته غرباءُ

زمان لنا فوق الممالك دولة… وفي الدهر حكمٌ نافذٌ وقضاءُ

ونراه يتغزل في مصر ونيل مصر وتاريخ مصر في قصيدة قاربت التسعين بيتًا جاء فيها

أنتِ يا مصر جنة الله في الأرض…. وعين العلا وواو الوجود

أنتِ أم المجدين بين طريف…. يتحدى الورى وبين تليدِ

أمة العُرب آن أن ينهض النســـر، فقد طال عهده بالرقودِ

قد أعدنا عهد العروبة في مصـــر وذكرى فردوسها المفقودِ

وعندما فجعت مصر بموت زعيمها – سعد زغلول- شارك المصريين في ذكر مآثره وفضائله.

ما كان سعدٌ آية في جيله…. سعد المخلد آية الأجيال

تفنى أحاديث الرجال وذكره …سيظل في الدنيا حديث رجال

وفي قصيدة -إبراهيم بطل الشرق- التي كتابها بمناسبة مرور مائة عام على موت إبراهيم باشا، تظهر فيه فخره بالجيش المصري وأحد قواده الذين حققوا النصر في أرض عزّ فيها النصر.

سلوا عنه عكا إنها إن تكلمت … معاقلها حدثتكم بالعجائبِ

رماها بجيش لو رمى مشرق الضحى … لفر حسير الطرف نحو المغارب

ويوم نصيبين التي قام حولها.. بنو الترك والألمان حمر المخالب

علاها فتى مصر بضربة فيصل…ولكنها للنصر ضربة لازب

فريع لها البسفور وارتج عرشه… وصاحت ذائب الشر من كل جانب

أبى الغرب أن تختال للشرق راية… وأن يقف المسلوب في وجه سالبِ 

وفي عام ألف وتسعمائة وسبعة وعشرين كتب قصيدة “دار العلوم” بمناسبة مرور خمسين عام على إنشاء الكلية التي تخرج فيها.

ويخاطب دار العلوم بأسلوبه الرشيدي المنتمي للوطن المصري الذي أشادت به الأمثال

فقالت: نزل القرآن بمكة وانتشر بمصر، وماتت اللغة العربية في كل مكان وأحيت في دار العلوم.

إيه دار العلوم، كنت بمصر…. في ظلام الدجى ضياء الشهابِ

في زمانٍ من كان ينسك فيه…قلمًا عُدَّ أكتب الكتاب

ويعلو مفهوم الوطنية ليشمل الأمن القومي المصري الشامل ليظهر بأبعاده الكبرى في قصيدة السودان التي يقول فيها:

أنا على العهد لا بُعْدٌ يحولنا… عن الودادِ ولا الأيام تنسينا

أثرت يا نسمة السودان لاعجه… وهجت عش الهوى لو كنتِ تدرينا

إن جرت يوما إلى السودان فارع له… مودة كصفاء الدر مكنونا

ظل العروبة والقرآن يجمعنا… وسلسل النيل يرويهم ويروينا

وفي قصيدة الزفاف الملكي لتهنئه الملك فاروق بزفافه. وهنا نسأل هل كانت القصيدة تهنئه لشخص فاروق؟ أم لحاكم مصر في ذلك الوقت ينظر إليه الشعب بأنه رمز لبنيه من حماة النيل

ودم لبني مصر أمانًا ورحمةً … فأنت حمى النيل الوفيّ وعاهلُهْ

وعندما قامت ثورة لبنان الوطنية أواخر عام ألف وتسعمائة وثلاثة وأربعين شارك الشاعر بقصيدة لبنان الثائر قال فيها:

طائر غرد في دوحتكم.. علم الأطيار معنى الطربِ

طار من مصر يحيي أمةً… توجت بالمجد هام الحقبِ

وواكب علي الجارم مسيرة بلاده وأمته العربية، فأنشد أروع قصائده للأقطار العربية، ويرى أن اللغة العربية هي المدخل الطبيعي لوحدة الأمة العربية.

ولو لم يكتب الجارم غير هذه الأبيات لكان يكفيه أن يتبوأ مجالس الصدارة في الوطنية المخلصة للثرى الطاهر بقصيدته الجامعة العربية التي جاء بها.

إذا عددتْ راياته فهي راية… وإن كثرت أوطانه فهي موضعُ

فليست حدود الأرض تفصل بيننا…. لنا الشرق حد، والعروبة موقعُ

تذوب حشاشات العواصم حسرة…. إذا دميتْ من كف بغداد إصبعُ

ولو صدعت في سفح لبنان صخرةٌ… لدك ذرا الأهرام هذا التصدع

ولو بردى أنّتْ لخطبٍ مياهه… لسالت بوادي النيل للنيل أدمع

ولو مسَّ رضوى عاصف الريح… لباتت له أكبادنا تتقطع

أولئك أبناء العروبة ما لهم …عن الفضل منأى، أو عن المجد منزعُ

فوطنيته غرست بأرض رشيد، وترعرعت في وطن العروبة مجمع اللغة العربية، وأتت ثمارها في أشعاره وعمادته لدار العلوم، ومؤلفاته اللغوية والدراسات الإنسانية واللسانية وتلاميذه الدراعمة.

___________

★ مدرس أول لغة عربية ــ مصــر

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى