مسرح

حنان مهدي: لماذا حتشبسوت الآن؟!

التمرد والطموح والاستحقاق

حنان مهدي

يثار في العالم العربي لغط كثير في الآونة الأخيرة، حول دور المرأة كشريك في تحقيق معادلة الحياة، وأحقيتها كوريث شرعي في الميراث، وهي التي اعتلت من المناصب أعلاها، ففي مصر القديمة كانت حتشبسوت أحد أهم الملكات الفرعونية المعروفة، على مدار ثلاثة آلاف من السنين،  وهي الملكة الأكثر شهرة في التاريخ المصري، كملكة فرعونية حكمت مايزيد عن عشرين عاماً، والتي تميز عصرها بالقوة والعظمة والازدهار، على مر التاريخ في الأسرة الثامنة عشرة، وعلى الرغم من أن الحكم كان ينتقل بين الذكور بشكل أساسي من الأب للابن الأكبر في أغلب الأحيان، إلا أنه إن لم يكن للملك ابن شرعي وله ابنة شرعية، فلها الحق في اعتلاء العرش كملكة؛ ولو تزوجت من أحد، يكون هو الأحق بالحكم منها، بادئاً أسرة جديدة، وحتشبسوت التي تولت الحكم بعد وفاة أخيها وزوجها الملك تحتمس الثاني، والذى لم يفعل شيئاً جديراً خلال حكمه، بل كان يتأثر بقوة شخصية زوجته، التي لم تكن هي الأولى التي تصل لهذه المكانة، لكنها كانت الأكثر تأثيراً من الملكات السابقات كما أشار التاريخ، حين لم يكن يوجد خليفة للحكم، والابن الشرعي للأب لم يستوفِ شروط الحكم، بل لم يكن للمرأة دور في الاستيلاء على السلطة مطلقاً، فجاء توليها كوصية على العرش، وخروجها على الناس بأسطورة مولدها الإلهي، حين جعلت من نفسها ابنة للإله آمون من صلبه.

نص العرض:

 اِستطاع “الزناتي” التقاط أهم المحطات الرئيسية في حياة الملكة المرأة، العاشقة، الأم، واستحقاقها لكل الأدوار التي لعبتها “حتشبسوت”  بجدارة خلدها التاريخ، بلغة رشيقة شاعرية جسدتها “بدير” بتصميمها عبر لوحات متتالية، تعبر كل منها عن طبيعة الحدث، عن طريق الرقص التعبيري، والرقص الحديث، يتخلله السرد تارة، وتارة أخرى الراوية، التي تقوم بها “رجوى حامد” كصعيدية تمتلك رحايه، دلالة على الاستمرار، وإن هذا النموذج ليس الأخير، بل هناك ملايين النساء ستكون، ومنذ مسار الملكة، منذ تمردها الأول بافتتاحية العرض “الأوفرتير” هي والراوية قبل فتح الستار، وحركة قدميها المتمردة ، ورغبتها في الوصول.

يا أيها الجسد أشرق علينا بالضياء، ستولد سيدة التجلي “حتشبسوت”، جسد متحد بالسماء، وحلم لا حدود له.

 وتأتي لوحة الكهنة الرافضين لكونها تترأس الحكم باعتبارها أنثى، وكيف استطاعت أن توهمهم بقوتها الروحية، بأنها ابنة الإله آمون، أي ابنة النور والشمس في صورة امرأة، وأنها يجب أن تترأس العرش،  وتتحد مع الرغبة الإلهية، فنرى رقصة بنات آمون، ثم تأتي لوحة التمرد كونها أنثى، لترسم لنا “بدير” صورة شديدة التميز، تمتزج مع فكر الشاعر “زناتي” حين يقول: الفرق بين المؤنث والمذكر تاء، مجرد تاء ليس إلا، فتخلع  النساء الراقصات مايميزهن من شعر مستعار، ويرتدين اللحى، لينظرن في المرايا، هاهن الآن قد تحولن لذكور، تتوسطهم “حتشبسوت” على هذه الشاكلة، فحلم الأنثى بداخلها يفوق مدارك الخيال، فلا يوجد في معجم الأنثى أحلاماً صماء، هكذا أرادني الإله أن أكون، ولكنكم تعشقون الأقنعة، هيا ترنموا بأسمى، أنا ابنة الشمس، أنا ابنة آمون، أنا “حتشبسوت”.

اِعتلت العرش، ليظهر المنظر المسرحي للمصمم “أنيس إسماعيل” بديكور بسيط يتسع في مجمله للفعل الرئيسي للعمل، والذي يعتمد على الرقصات التعبيرية، ليجعل على جانبي المسرح أعمدة التشييد والبناء، ويشطر المسرح شطرين أفقياً لنرى “حتشبسوت” في الأعلى مع بعض أعوانها، و”سنموت” العاشق المهندس الذي شيد لها معبدها بالدير البحري، ثم نرى بعد ذلك عملية البناء لأعمدة متناثرة، من أعلى سقف المسرح وأسفل المستوى الأعلى، والعمال الراقصين فى تشكيلات، يملؤها النشاط والحيوية والتناغم، تتم عملية البناء.

جميعنا واحد، والأرض لإله واحد، ولا أحد سواه:

المرض والفينال من أهم اللوحات المميزة، والمرسومة بعناية، حيث يرفع الراقصون “حتشبسوت ” للأعلى، لنسمع الصوت (ها أنا أصعد إلى الضوء الإلهي، ولن أكون آخر أنثى كان لها جسد إله، وآمنت به السماء)، لتدخل السوبرانو لتغني أغنية الموت، لتعلن النهاية في مشهد يتميز بغنى الصورة، تذكرني بأوبرا عايدة، بما تحمله من جماليات التشكيل، والصوت الحي، في الغناء والموسيقى والإضاءة لتعلن النهاية.

لكنها خلقت للمجد والخلود:

عناصر العرض المسرحي، من تصميم ديكور وملابس بألوانها الزاهية، والتي اشتهر بها عصر الفراعنة، للمصمم “أنيس إسماعيل”، والإعداد الموسيقى الجيد “لأحمد الناصر” بالانتقاء المناسب لكل لوحة بأماكنها المتباينة، وما يزيد الصورة تألقاً وبهاءً، إضاءة “رضا إبراهيم” الموحية باستخدام اللونين الأحمر والبرتقالي، ألوان الشمس والقوة والطاقة والحيوية والنور، والانسجام الذي اتسمت به الصورة بشكل عام.

واستطاعت “بدير” استلهام التراث المصري والعربي، وإعادته برؤية معاصرة شديدة التميز والخصوصية، باستخدام الرقصات التعبيرية، في خياراتها لطبيعة العروض، التي قدمتها كبهية، وإيزيس، وسيرة عنترة، وسيظل الرقص الحديث أحد أهم الفنون الرفيعة، والتي تتسم بالخصوصية، وإن أصبح له الآن شعبية واسعة من الجمهور، حتى لو غاب عن مخيلته البعد التاريخي أو الفلسفي، لكنه يلتمس مواطن الجمال في روعة الصورة، وتكويناتها فى كل عناصر الفرجة، و”بدير” تحمل على عاتقها رؤية مناصرة للمرأة باستحقاق، مناهضة لكل أشكال التميز، ووضحت جلياً باختيار “حتشبسوت” كنموذج ينتصر للمرأة، ويدل على الاحترام والتقدير، الذي شهدته مكانة المرأة العادية في مصر القديمة، والذي شهدت عليه النصوص القديمة، وهذا ينم عن النظرة التقدمية، إلى النساء ورسالتهن ودورهن، في الحياة الاجتماعية والسياسية.

قُدم عرض “حتشبسوت” لفرقة فرسان الشرق للتراث على مسرح الجمهورية التابع لدار الأوبرا المصرية، من تصميم وإخراج “كريمة بدير”، وتأليف وأشعار “محمد الزناتي”

تصميم الديكور والملابس إهداء: أنيس إسماعيل
إعداد موسيقي وإهداء لحن الانشودة حتشبسوت: أحمد الناصر
تأليف واشعار : محمد زناتي، متزو سوبرانو: منة الله
أداء صوتی: رجوی حامد، محمد المتولي، نادين العطار
تدريب الراقصين: رجوی حامد، تصميم إضاءة: رضا إبراهيم
صوت: يوسف عبد العظيم، ديكور: نيرمين العزب

ـــــــــــــــــــــــــ

★ ناقدة ــ مصــر

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى