مسرحمشاركات شبابية

سارة عمرو: ماذا ينتظر العالم؟!

تقليل الحوار لتصدير الصورة

سارة عمرو★

 لم تكن نتيجة الحروب، إعادة بناء لدول ومُدن دُمرت من جديد، أو إعادة بناء حضارة، قد هُدمت بسبب مُحتل ما فقط؛ بل كانت نتيجتها إنتاج بشر مشوهين، وكأنها مشروع لدمار الروح والنفس، فأصبح الناس بعد الحرب العالمية، وكأنهم أجساد شاردة منزوعة الأرواح…. وهذا الشرود جعلهم يبتكرون تيارات فنية وأدبية جديدة للتعبيرعما أصابهم من إحباط ودمار نفسي …فأخذوا يميلون لِابتكار مسرح شعبي واقعي، يحتضن الحياة ليكون هدفه (منها وإليها) عوضاً عن مسرحيات تنفصل عن الواقع، لتكون مسكناً بقصص خيالية سعيدة.

الكاتب ألبير كامو

فمن أهم تلك التيارات، أو أبرزها هو تيار العبث….ذلك التيار الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، عندما كانت الناس أرواحاً شارده، تطوف كالجثث الهامدة في الأرجاء، يائسين من الحياة زاهدين فيها….فكان تيار العبث يُعبر عن ما يدور بداخلهم من إحباط وبؤس في تلك الحياة….ومع ظهور هذا التيار كانت الكلمات الأولى في هذا التيار (لألبير كامو) في روايته ( أسطورة سيزيف) التي كانت إلهاماً كبيراً لكُتاب مسرح العبث فيما بعد وأهمهم (صامويل بيكيت) صاحب أكثر مسرحية أيقونية عبثية، وهي مسرحية (في انتظار جودو) التي تدور أحداثها حول رجلين ينتظران جودو الذي لا يأتي ابداً، و يدور بينهما العديد من الحوارات، حول الوجود الإنساني وغيره…

غلاف كتاب اسطورة سيزيف

فكثرة العبث وغياب المعنى الحقيقي للواقع أثَّرَا كثيراً في كُتاب هذا التيار، وجعلتهم يتجهون في سلاسل من الأفكار التي ترفض الحروب والدمار وأوهام المجد الخادعة، لذلك قرروا مُجتمعين على عمل مسرح أساسه اللامعقول، يوجه رسالته للجمهور بشكل صادم تماماً، كما كانت الحرب صادمة على البشر ليستوعبوها…فظهر هذا المسرح، وكأنه عالم آخر خالٍ من الثوابت والقيم، لا يوجد في مسرحياته أيُّ صراعات ولا منطق،  والشخصيات نفسها مشوشة، و مشوهة داخلياً، و الحوار غير محكوم بتاتاً، تجردت من كل الثوابت الفنية، ومن قيود المكان والزمان، وهذا يرمز طوال الوقت إلى حالة الإنسان، التي شوهتها الحرب، وعملت على إخماد شغفه، ليصل ليأس خامل….وبرغم ذلك أنتج مُبدعو هذا التيار الكثير، والكثير من الأعمال الإبداعية ذات قيمة مهمة، أفادت أجيالاً أخرى، وساهمت في ظهور تيارات مُستحدثة منها….وهذا يجعلنا نلجأ إلى سؤال نطرحه كُلنا الآن…ماذا لو لم توجد الحرب؟

عرض في انتظار جودو لـ بيكت

جدير بالذكر أيضاً أن تيار العبث، لم يكن هو التيار الوحيد الذي ظهر رداً على دمار الحرب؛ بل ظهرت تيارات أخرى، وأنواع مُختلفة من المسارح كمسرح الحقيقة…أو ما يُعرف بالمسرح الثقافي أو التسجيلي…وفي لغة أخرى، يُطلق عليه (الدوكيودراما) …

فهو مسرح يهدف إلى  التعلم في المقام الأول، لتحريض العقل وجعله يُفكر في التغير، من خلال استحضار قضايا، وواقع اجتماعي على خشبة المسرح…يعتمد في الأساس على فكرة كل ما هو مرئي، لجذب انتباه المشاهد…لذلك يعتمد  على التقارير، والإحصائيات، والبيانات الرسمية، وغير الرسمية، والمقابلات الصحفية، و التلفزيونية، والريبورتاج الصحفي، و الإذاعة، و الأفلام،  والصور بتسلسل زمني وفقاً لكل عصر….وما يُميز هذا المسرح…هو إمكانية عرض شريط مسجل، أو فيلم وثائقي تسجيلي، على خشبه المسرح داخل شاشة عرض، واستخدام صور متحركة…فهذا المسرح يعتمد على فكرة المخاطبة بشكل مباشر، من خلال عرض تقارير صحافية، وخطب سياسية من أرض الواقع…وتعتمد شخصيات هذا المسرح على الثوب الكاريكاتيري أكثر. 

عرض الحرب والسلام لـ تولستوي

يُقال إن بداية المسرح التسجيلي أو الدوكيودراما تعود لبداية المسرح نفسه لعصر الإغريق، وظهر ذلك من خلال مسرحية ايسخيليوس (الفرس) عام ٤٧٢ق.م…. وامتدت لتظهر في دراما شكسبير التي اعتمد فيها على أحداث حقيقية سياسية… وتُعد مسرحية (الحرب والسلام) للمخرج بيسكاتور التي اعتمد فيها على رواية لتولستوي حيث استخدمها كمادة درامية وثائقية.

أخذ المسرح الحقيقي يتطور مع الزمن حتى وصل لعصرنا هذا، وظهر على أيدي مجموعة من المُبدعين المسرحيين مثل (آن ديڤاريا، وسارة جونز) وغيرهما من الذين يقدمون هذا المسرح مواكبة مع عصرنا الحالي، على الإنترنت والميديا. 

يعتمد هذا المسرح على فكرة المسرح داخل المسرح، فعرض فيلم تسجيلي يحكي قصة ما، داخل عرض في الأصل كأنها ميتا دراما، واعتمد هذا المسرح أيضاً على فكرة التحرر من قيود الزمان والمكان، كما فعل الفريد فرج في (النار والزيتون) التي تناولت نكسة 1967م

الكاتب ألفريد فرج

تكون فكرة المسرح الوثائقي مُعضلة أحياناً للكُتاب الذين يكتبون هذا النوع من المسرح، لأنه يكون نقلاً صريحاً للأحداث الواقعية، فربما يتعارض مع الأسلوب الفني في بعض الأحيان، أو مع المجتمع، إذا كان الموضوع سياسياً… فهل سيتضاءل استخدام هذا المسرح مع الوقت، تزامناً مع التطور التكنولوجي حالياً، وفي المُستقبل؟ 

في ضوء ذكرنا لتلك التيارات التي تكاد تكون واحداً في المائة مما ظهر بعد الحروب… لا يجب أن نغفل عن المُبدع بريتولد بريخت، ومساره في المسرح الملحمي…ذلك المسرح الذي ظهر بعد الحرب العالمية مباشرة…. حيث كان بريخت واحداً من المسرحيين الذين أحدثوا فارقاً في المجتمع المسرحي بسبب مناهجه، واشتهرت نظرياته في منتصف القرن الماضي بعد الحرب العالمية الثانية….

وكانت وقتها نظريته بديلاً لنظرية الواقعية لستان سلافسكي…كان بريخت متأثراً في البدايه بالتعبيرية الألمانية، ثم انحدر تفكيره للاهتمام بالماركسية، وكانت هي السبب في تطور منهجه ونظرياته، حتى وصل للمسرح الملحمي فما هو هذا المسرح؟ 

بروتولد بريخت

المسرح الملحمي هو مسرح قائم على فكرة كسر الإيهام، من خلال وسائل التغريب، التي تعتمد على وجود راوٍ أو موسيقى وأغاني ورقص، أو تغيير ديكور أمام المشاهد، فكل هدفه هو تحطيم الاندماج، وكسر كل ماهو اعتيادي ومألوف،  حتى لا يندمج معه المشاهد؛ بل يفكر ويستنتج، ليكون عنصراً فعالاً في المجتمع، ويحدث تغيراً فارقاً فيه، لأن هذا هو هدف المسرح الملحمي في الأساس… ليُذَكِّرَ المُتفرج أن ما يُشاهده، هو مُجرد عرض تمثيلي،  وليس حقيقة، لكنه صورة مصغرة عما في الواقع… وهو بجانب ذلك، لا ينفي صفة المُتعة، فشعاره دوماً المُتعة بجانب التعلم… ومن أهم مسرحيات بريخت التي اعتمدت على ذلك (مسرحيه الأم الشجاعة!)

عرض الأم شجاعة

مازال هناك الكثير، والكثير من التيارات والمذاهب، التي تناثرت كبقع الدماء بعد الحرب، وظهرت كَرَدِّ فعل لذلك الدمار، واختلفت أنواعها من تيارات مسرحية، لفنون تشكيلية، لموسيقى، وسينما، ودراما تلفزيونية… وهذا يجعلنا نُعيد سؤالاً آخر….إذا كانت الحروب الماضية قد خلقت كل تلك الفنون….فماذا ينتظر العالم من حروب مستقبلية، وأيُّ فن آخر، سيظهر في ظل تلك التطورات؟ 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

★ كاتبة ــ مصــر

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى