منة الله حازم: “ولاد الشمس” ..تمنح للأيتام صوتاً بلا أحكام ؟


منة الله حازم ★
منذ صغري، كنت أشعر بالشفقة والمسؤولية تجاه كل يتيم أو طفل مشرد، وأعددت نفسي بأنني عندما أكبر سأجمع هؤلاء الأطفال، وأوفر لهم حياة كريمة، لكن مع مرور الوقت، أدركت أن الأمر ليس بهذه السهولة، فكل يوم يُظلم طفل جديد، ليس فقط على أرض الواقع، ولكن حتى في الأعمال الفنية.
لطالما قدَّمت الدراما والسينما الأيتام في صورة نمطية قاسية؛ إما كمجرمين بالفطرة، أو غير جديرين بحياة طبيعية، وكأن مصيرهم محتوم بالفشل والجريمة، وإذا ظهر أحدهم كشخص صالح، فإن الحياة تدفعه نحو السقوط،، فلا حق له في الحب أو النجاح أو الاستقرار.
هذه الصورة ترسخت في أذهان المجتمع، فأصبح الخوف والتَّوَجُّس أول رد فعل عند معرفة أن شخصاً ما ترَبَّى في دار أيتام.
لكن وسط زحام الموسم الرمضاني، ظهر مسلسل “ولاد الشمس” ليكسر هذه القوالب الجاهزة، مقدِّماً صورة أكثر إنسانية لأبناء دور الأيتام، حيث منحهم صوتاً؛ ليعبروا عن مشاعرهم وأفكارهم، وليس مجرد أدوات لخدمة حبكة درامية نمطية.
تدور أحداث المسلسل حول دار “الشمس” للأيتام، التي يديرها ماجد، أو “بابا ماجد”، لكنه ليس الأب الحنون، الذي يرعاهم، بل يستغلهم في أعمال غير مشروعة؛ ليصبح العقبة الأكبر أمام تحقيق أحلامهم.
منذ الحلقات الأولى، نتعرف على الشباب داخل الدار، كل منهم يحمل حلماً بسيطاً، لكنه بعيد المنال، بسبب قسوة الحياة واستغلال “ماجد” لهم.
“ولعة” (أحمد مالك) شاب موهوب في الملاكمة، لكن حلمه محصور في مباريات الشوارع والمراهنات، لأنها الوسيلة الوحيدة المتاحة له لممارسة رياضته.
“قطايف”(معتز هاشم) عاشق للقراءة، لديه من الثقافة والمعرفة ما يكفي ليكون في مركز مرموق، لكنه محاصر بواقعه، الذي يمنعه من تحقيق ذاته.
أما “مفتاح” (طه دسوقي)، فحلمه الوحيد هو التخلص من سيطرة “ماجد “، وحماية إخوته في الدار من الاستغلال.

المسلسل لا يسلط الضوء فقط على معاناة الأيتام داخل الدار، بل يعرض التحديات التي تواجههم في العالم الخارجي، يظهر ذلك بوضوح في شخصية “مفتاح”، الذي تم تبنيه في طفولته من قبل عائلة لم تُرزق بالأبناء، لكن بمجرد أن أنجبوا طفلاً، تَخَلّوا عنه وأعادوه للدار، وكأنه شيء فائض عن الحاجة، ظل “مفتاح” يراقبهم من بعيد لسنوات، غير قادر على المواجهة؛ حتى قرر أخيراً مواجهتهم تلك، التي كانت تؤرقه ليقول : هذا نتيجة ما فعلته بي أنانيتكم، في مشهد مؤثر يعكس مدى الأنانية، التي يتعامل بها بعض البشر مع التبني، وكأنه حل مؤقت، وليس التزاماً حقيقياً تجاه الطفل.
علاوة على صراعهم مع “ماجد” (محمود حميدة)، الذي يُمَثِّل الوجه الحقيقي للاستغلال داخل بعض دور الأيتام؛ حيث يستخدم التلاعب النفسي؛ ليجعلهم يشعرون بأنهم مدينون له، مما يدفع بعضهم، مثل “عبيد”، لتنفيذ أوامره دون إدراك أنهم مجرد أدوات لمصالحه، ولكن حتى لو تمكنوا من الهروب منه، سيجدون أن المجتمع لا يمنحهم فرصة عادلة، فالحب، الذي يعتبر أبسط حقوق الإنسان، ليس متاحاً لهم بسهولة، إذ غالباً ما تُرفض علاقتهم العاطفية بدعوى أنهم “ليسوا من مستوانا”.
تجسد ذلك في قصة “ولعة”، الذي وقع في حب امرأة تكبره سنًا، بحثًا عن دفء الأمومة، الذي لم يجده في حياته، وفي قصة “مفتاح”، الذي وقع ضحية لفتاة مادية استغلته، وعندما حاول الحب مجدداً، اِكتشف أن صديقه كان يحبها من قبله؛ ليقرر التضحية من أجله حتى النهاية.
وعلى عكس الأعمال، التي أظهرت أبناء دور الأيتام في صراع دائم، قدم “ولاد الشمس” صورة مختلفة، فعلاقتهم ببعضهم كانت كعائلة حقيقية، وليس مجرد أشخاص يعيشون في نفس المكان.
كانت صداقة “ولعة” و”مفتاح” مثالاً للدعم والحماية؛ حتى في أصعب الظروف، لم يتخلَّ أحدهما عن الآخر، بل حاول كل منهما حماية صديقه من المصير المأساوي، إلى أن انتهى الأمر بمقتل “مفتاح”، وهو يحاول إنقاذ ولعة.

جاءت نهاية المسلسل مناسبة تماماً للأحداث، بعيداً عن أسلوب الانتقام والبلطجة؛ حيث انتهى الأمر بسجن “ماجد” وهو المصير العادل لأفعاله، ومع ذلك، لم يكن العقاب هو محور القصة، بل الأمل؛ حيث يكتشف “ولعة” أنه الوريث الشرعي للدار، مما يمنحه الصلاحية في إدارتها، وتحقيق حلمه، وحلم صديقه “مفتاح”؛ لينجح خلال عام واحد في توفير حياة كريمة لإخوته، وإقامة بازار لمشغولاتهم؛ ليكسبوا رزقهم بكرامة.
تميز العمل بأداء مبهر خالٍ من التصنع والمبالغة، فلم تُذكر ألفاظ سيئة على ألسنة الشخصيات، رغم أنهم يعتبرون من ضمن أبناء الشوارع، مما كسر الصورة النمطية عنهم، وأكد أنهم بشر طبيعيون؛ لديهم مشاعر وضمير وأخلاق، لكن الحياة أجبرتهم على التواجد في موضع الشك.
عززت ذلك الحلقة الأخيرة، التي كانت أشبه بوثائقي؛ حيث ظهر أبناء الدار الحقيقيون؛ ليحكوا معاناتهم، لنتفاجأ بأنهم يشغلون مناصب مرموقة، مثل مذيع وأكاديمي حاصل على الماجستير وغيرهم.
برع الفنان “محمود حميدة” في دور الشرير الهادئ؛ حيث استخدم أسلوباً مقنعاً بعيداً عن الصراخ والمبالغة المعتادة. كما تألق الشباب في أدوارهم، وأظهر كل منهم موهبته الحقيقية.
حتى التفاصيل الفنية دعمت الفكرة، فقدمت مصممة الملابس “نهال المصري” ملابس واقعية لأبناء الشوارع، ليست مبالغ فيها كي تثير الشفقة، وليست فاخرة بشكل غير منطقي.
وجاءت الإضاءة الصفراء المعتمة؛ لتعكس عالمهم المليء بالغموض والتوتر.
اِختيارات المخرج “شادي عبدالسلام” الذكية في كادراته جعلتنا نشعر بكل كلمة ونظرة، كما ساهمت أغنية التتر، بصوت بهاء سلطان، في تعزيز الأجواء العاطفية؛ حيث تميزت بجملة “صاحبي يا صاحبي”، لتؤكد على العلاقة الإنسانية التي يدور حولها العمل.

في النهاية، لم يكن “ولاد الشمس” مجرد دراما عابرة، بل رسالة قوية تعكس واقعاً قاسياً يعيشه الكثيرون، مسلطاً الضوء على الظلم، الذي يواجهه هؤلاء الشباب، ولكن من منظورهم هم، وليس من منظور المجتمع.
★ناقدة ـ مصر.