رأي

علاء الجابر: هَلِ انحَسَرَ النَّقْدُ.. أم تخاذَلّ النُّقّادُ؟!

علاء الجابر★

حين واجه غاليليو اتهامات الكنيسة بالهرطقة لرفضها رأيه بشأن مركزية الشمس، وأن الأرض تدور حولها، طلبت منه المحكمة أن يتخلى عن رأيه، وأملت عليه قسماً يعلن فيه أن الأرض لا تدور، لكنّ المؤرخين أكدوا أن غاليليو تمتم بعد قراءة القسم (لكنها تدور)، وسمعه كل من حوله، رغم أن رأيه هذا عوقب عليه بالسجن، ومن ثم الإقامة الجبرية، حتى وفاته وحيداً.

ومن الطبيعي أن نتذكر في هذا الشأن ما كابده عميد الأدب العربي طه حسين في معاناته على أثر مواجهاته المتعددة سواء مع الأزهر أو الأصوليين أو المنافسين لنجوميته، أو حتى مع زملائه من أساتذة التلقين الذين انتقدهم في كتاباته، لكنه ظل صامداً متمسكاً برؤاه ووجهة نظره.

بالطبع لا نستطيع أن نذكر تلك الأسماء ذات الحس النقدي المعارض لسطوة ما، تلك التي ظلت تصارع المجتمع والمصاعب والخيبات، لكنها -وبفضل إيمانها بما اقتنعت به- لم تتنكر يوماً لآرائها أو تتبدل أو تتلون أو تهادن.

على مستوى النقد، شتان بين ما كنا نقرأ في الماضي وما نقرأ في الحاضر، ولنحدد الماضي بشكل تقريبي في الفترة من مطلع الستينيات إلى أواخر الثمانينيات، وهي الفترة التي يمكن اعتبارها فترة الاشتعال والاشتغال الذهبي لكافة مسارات الإبداع، ومن بينها النقد، دون أن نشير إلى حالات معينة أو نقاد معينين، بل هي حالة عامة كانت موجودة في تلك الفترات، عرّفت القراء على المفاهيم النقدية، ونقلت نتاج الإبداع الروائي والقصصي والشعري إلى القراء بشكل أكثر سهولة، فكثير من الكتابات الإبداعية -وبخاصة عسيرة الفهم على قارئ تلك الفترة- ما كانت لتصل لنا أو نتعرف عليها أو نفك طلاسمها لولا دور النقد المؤثر حينذاك.

أما اليوم -ونحن نتحدث هنا عن القاعدة لا الاستثناء- فقد أصبح دور النقد محصوراً في مسارات محددة لا تتجاوز قاعات الدرس المُغلقة بما لها وما عليها، أو كتب مفاهيم النقد الجامدة التي قد لا يصاحبها غالباً تطبيقات لأمثلة أو حالة إبداعية معينة، أو محاضرات نقدية لا يتعدى حضورها صفين ممن حضر مجاملة، أو بالإجبار لنيل درجات إذا كان نشاطاً تعليمياً.

بالإضافة لما سبق، هناك خطوات تسير في حقل النقد بمعايير أكاديمية بحتة بما تتطلبه ظروف البحث العلمي للحصول على درجة ما، لا يطلع على تلك الخطوات أكثر من خمسة أشخاص -في أحسن الأحوال- ولا يتذكرها حتى من أعدها، ولاسيما مع كثرة وجود المكاتب والأشخاص عديمي الضمير الذين جنّدوا أنفسهم للقيام بدور الباحث الخفي الذي يقدم الرسالة جاهزة لطلاب البكالوريوس والدراسات العليا، حتى الأبحاث النقدية نادراً ما نلمسها كحالة شغف من الناقد، بل هي أداة (إجبارية غالباً) يقوم بها الكثير من الأساتذة من أجل استكمال (متطلبات الترقية)!

تراجع النقد، وأصبح المرء منا يصاب بالحيرة، حين يُطلب منه ترشيح أو ذكر مجموعة أسماء من النقاد، فلا يجد حوله إلا القليل، مما يعني وقوعه في دائرة الحيرة أو التكرار، أو تقديم أي شخص تحت هذه الصفة وإن كان لا ينطبق عليه إلا مسمى مدرّس نقد لا ناقد!

أما تخاذل النقاد فلا يحتاج المرء إلى مجهر للتعرف عليه، بعيداً عن الاستثناءات. فإما أن يكتفي هذا الناقد –إن وُجِد– بدوره الأكاديمي عبر تلقين تلاميذه تلك المفاهيم النقدية التي تعلمها (بغضّ النظر عن مدى مواكبتها للجديد، أو مدى قدرته الذاتية على القيام بهذا الدور)، وإما أن يبقى هذا النقد محصوراً بين دفّتي كتاب محدود التلقي، أو مختزلاً في نقد صحفي عام لا طعم له ولا لون ولا رائحة، ليس له من النقد إلا اسمه، ولا يتعدى دوره الترويج لشخصية ما أو مؤسسة ما باختلاف الأسباب والدوافع.

كما أن هذا التخاذل يصل إلى حضيضه حين يصاب (الناقد) بحالة من (التّوءمة) مع الجميع بحيث يعجز أو يخاف أو يتخاذل عن إبداء وجهة نظره المختلفة التي يبوح بها بشكل سري غالباً، لأنه يرى بأم عينيه حفلات المجاملة التي تصل في كثير من الأحيان إلى حد النفاق، لشخصية أو مؤسسة ما، خشية حرمانه من امتيازاتها، ويقيناً بأن النار ستفتح عليه بشراسة ممن سيتولون بالمجان دور المحامي لكونهم من المستفيدين -بصورة أو بأخرى- من تلك الشخصيات أو تلك المؤسسات.

بل يصل الحد بهذا الناقد أحياناً إلى أن يصفق لتلك الشخصية أو هذه المؤسسة الثقافية حتى وإن قررت القضاء على مشروع ثقافي ما، ويضع لها مبررات لم تفكر فيها المؤسسة من الأساس، أو يشكرها على ثقتها في شخصية ما وإن لم تمتلك مميزات تؤهلها لتلك المسؤولية، وحين يتم سحب الثقة لسبب معين عن تلك الشخصية، تجد (الناقد) ذاته، أول من يجعل من تلك الشخصية المطرودة صورة للخيانة والجهل وقلة الوعي وسوء الإدارة!

أصبح الناقد مع الأسف مجاملاً لتلك المؤسسة أو هذه القناة أو تلك المطبوعة أو هذه الفعالية، من أجل أن يجعل اسمه حاضراً دائماً في تلك المواقع متناسياً دوره المنوط به.

نضيف إلى ذلك أن قسوة بعض القوانين الكاتمة للحريات في بعض الدول، شجعت على هذا التخاذل أو حالة الصمت في أقل الأحوال، مما يجعل أمر مناقشة حالة إبداعية أو عرض مسرحي أو فعالية ما أمراً فيه من الخطورة الكثير!

مع ذلك، ورغم كل السوداوية التي تحيط بالمشهد النقدي، لا يملك المرء إلا أن يحرك مصباحه اليدوي الصغير ليبصر إشعاع نور يضيء هنا وهناك في عواصمنا العربية لناقد مازال يكافح ليواجه خطأ مؤسسة ثقافية أو فنية، لناقد أكاديمي حقيقي يفتح آفاقاً جديدة لطلابه، لمقال جريء ينتقد الخلل بوعي ونزاهة، لمبدع يحاول أن يقدم رسالته بصدق -وإن كان بشكل فردي- عن طريق كتاب أو وسيلة تواصل أخرى، أو لقناة تؤمن بدور النقد فتشرع له الأبواب، وربما دار نشر، أو مؤسسة -وإن صغر حجمها- تمنح فسحة أمل لكل ناقد وتدافع عنه، بدافع الشغف والرغبة في تحريك الراكد.

ــــــــــــــــــــــــــ

★ رئيس التحرير 

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى