رشا كمال: قراءة جديدة في ” أسرة أناخ عليها الدهر ” لنجيب محفوظ.
رشا كمال★
تتناول قصة “أسرة أناخ عليها الدهر” لنجيب محفوظ مأساة أسرة صغيرة مكونة من أم ابنها الذي يعاني من إعاقة عقلية. يعيشون في ربع فقير بحي باب الشعرية. تلجأ الأم لوزارة الأوقاف طلبًا للمعونة، فيذهب إليها أحد مندوبيها لتقييم حال الأسرة، والبت في مسألة استحقاقها للدعم. ينطلق نجيب محفوظ من هذا الأساس ليكشف عن معاناة هذه الأسرة، كواحدة من عائلات كثيرة أرهقتهم ظروف الحياة، وأصبحوا تحت رحمة الدولة لتقرير مصيرهم.
يستخدم نجيب محفوظ عناصر المأساة في سرد القصة، حيث يضع شخصياته في صراع مع أقدارهم. بعض هذه الأقدار خارجة عن إرادتهم، مثل حالة الابن المعتوه، بينما بعضها الآخر ناتج عن قراراتهم، كما في حالة الزوج غريب عدنان. يبدأ الكاتب ملامح المأساة من العنوان نفسه، حيث يحمل “أسرة أناخ عليها الدهر” ثقلًا دلاليًا يعكس جوهر القصة.
يشير العنوان إلى بطل القصة الرئيسي: الأسرة. كلمة “أسرة” هي اسم مفرد مؤنث لفظًا، لكنها تحمل دلالة الجمع، مستمدة من الجذر اللغوي “أسر”، الذي يعكس الترابط والتماسك. اللافت أن الكاتب لم يستخدم أداة التعريف “الـ”، ما يجعل الأسرة نموذجًا عامًا لأي عائلة قد تتعرض لمصير مشابه. بذلك، تصبح الأسرة هنا رمزًا للوحدة العضوية التي تشكل نواة المجتمع، وتحل محل الفرد كبطل مأساوي كما في الأساطير القديمة.
أما الفعل “أناخ”، فيحمل معنى الاستقرار أو النزول بثقل، وهو اختيار واعٍ من محفوظ لتخفيف حدة المأساة مقارنة بفعل “أخنى”- المعتاد استخدامه مع كلمة الدهر- لذي يدل على الفساد والهلاك. وبهذا، يوحي العنوان باستقرار ثقل الزمن على الأسرة دون أن يقضي عليها تمامًا، تاركًا لها هامشًا للتغيير. اختيار “الدهر” بدلاً من “الزمن” يعمّق الإحساس بثقل الزمن وتقلباته، حيث تحمل الكلمة دلالات فلسفية وسلبية تشير إلى المصائب وتقلبات الحياة.
في هذه القصة، يتجلى عنصر التراجيديا من خلال الصراع بين الأسرة والدولة التي تمثل القدر الحديث. فبدلاً من الإله الغاضب في التراجيديا الكلاسيكية، نجد هنا الدولة وممثليها، مثل لجنة الخيرات، التي تتخذ دور الحكم في تقرير مصير الأسرة.
يُظهر محفوظ هذا الصراع من منظور الراوي الأول، مندوب وزارة الأوقاف، الذي يكشف تدريجيًا عن أوضاع الأسرة من خلال أسلوب تقصي الحقائق. هذا الأسلوب، الذي استخدمه محفوظ سابقًا في روايات مثل “العائش في الحقيقة” وقصص مثل “قرار في ضوء البرق” من نفس المجموعة القصصية الشيطان يعظ، يضع القارئ في موقع الحكم، وكأنه عضو في لجنة الخيرات.وهو كذلك أسوة بالأسلوب السردي لواحدة من أشهر التراجيديات الإغريقية، مأساة أوديب لسوفوكليس.
تتوالى التفاصيل المأساوية في حياة الأسرة، حيث يتضح أن الزوج، غريب عدنان، كان يعمل مترجمًا حاد عن الإيمان ومال للإلحاد، ما أدى إلى سجنه ثم وفاته. الابن الأكبر لقي حتفه في مظاهرة، وهربت الابنة مع عشيقها اليوناني، والابن الأصغر لم يتحمل الوصمة ففر هاربًا بعيدًا عن عائلته. وبقيت الأم مع ابنها المعتوه، يكافحان مصاعب الحياة وسخرية الناس.
يعكس هذا التشظي الأسري مدى تكالب الأقدار على العائلة، وهي سمة من سمات المأساة القديمة يتوارث فيها الأبناء خطيئة الآباء، ويضع الكاتب من خلالها القارئ أمام تساؤلات حول دور الفرد والمجتمع في صناعة هذه المآسي.
من أبرز التقنيات السردية في القصة استخدام نجيب محفوظ لعنصر “التدخل الإلهي المفاجئ”، Deus Ex-Machina وهي تقنية معروفة منذ الدراما الإغريقية، حيث يظهر حل غير متوقع من خارج النص لإنهاء الصراع. في القصة، يتجسد هذا التدخل في مكالمة هاتفية من وكيل الوزارة الذي يطلب مقابلة رئيس لجنة الخيرات. يعود الأخير ليقرر إعادة النظر في طلب الأسرة بسبب صلة الأم بأحد أولياء الله الصالحين.
رغم أن هذه التقنية قد تُنتقد لكونها حلاً اعتباطيًا، إلا أن محفوظ يستخدمها بذكاء لتسليط الضوء على نفاق السلطة، حيث يتغير القرار فجأة بناءً على أسباب خارجية لا علاقة لها بحقيقة معاناة الأسرة.
يستفيد محفوظ من التناقض بين ثقل الزمن واعتباطية الحل لإدانة تعسف الدولة في التعامل مع الأفراد. الدولة، التي تلعب دور الإله الحديث، تظهر بمظهر المتحكم في مصائر العباد، لكنها في الواقع تعتمد على معايير اعتباطية وغير منصفة.
من خلال هذه التقنية، يقدم محفوظ مأساة عصرية بامتياز، حيث تتجلى سلطة الدولة كقوة فوقية تتحكم في حياة الأفراد، بينما يترك الزمن بصمته الثقيلة على الأسرة دون أن يمحوها تمامًا.
في “أسرة أناخ عليها الدهر”، يقدم نجيب محفوظ مأساة حديثة تحمل أصداء التراجيديا الكلاسيكية، لكنها تعكس تحديات الفرد والأسرة في مواجهة مؤسسات الدولة الحديثة. القصة ليست فقط انعكاسًا لمصير أسرة فقيرة، بل هي نقد رمزي للنظام الاجتماعي والسياسي الذي يتحكم في حياة الأفراد دون رحمة. من خلال استخدام التقنيات السردية والرمزية، يعري محفوظ النفاق المؤسسي ويكشف عن مدى هشاشة العدالة الإنسانية أمام ثقل الزمن وسلطة الدولة.
★ناقدة ـ مصر .