قصة

د. نورة القحطاني: الوعي البيئي في القصة القصيرة.


ضمن ندوة “القصة القصيرة والنقد”، التي قدمت ضمن فعاليات جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية، والتي أقيمت مؤخراً في جامعة الشرق الأوسط (AUM) في الكويت، قدمت الكاتبة والناقدة د. نورة سعيد القحطاني قراءة نقدية مغايرة، تناولت فيها النقد البيئي الذي يندر طرحه في المنطقة العربية، مستعينة بنموذج قصصي للكاتب السعودي عبدالله الناصر، وقد جاءت الورقة على النحو التالي:

الوعي البيئي في القصة العربية القصيرة: قراءة إيكولوجية في قصة (الشجرة) لعبدالله الناصر

حظيت القصة القصيرة العربية بكثير من الدراسات التي تناولتها بالنقد والتحليل، وأسهمت في تعميق الوعي بأهمية هذا الجنس الأدبي ومكوناته. ولم تقتصر هذه الدراسات على تقييم الأعمال بناءً على معايير جمالية فقط، بل شملت أيضاً تحليل القضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية التي عالجتها هذه القصص. وترتبط القصة القصيرة العربية بالنقد الأدبي بعلاقة تفاعلية، حيث يسهم النقد في تشكيل وعي القراء والكتّاب بالتركيز على جوانب فنية وموضوعية في القصة، ومن ناحية أخرى، توفر القصص القصيرة للنقاد مادة سردية غنية للتحليل والدراسة، مما يعزز من تطور النقد الأدبي نفسه. وهكذا، تبدو العلاقة بينهما علاقة معقدة ومتشابكة، تسهم في تطوير كليهما من خلال التفاعل المستمر بين الكتاب والنقاد.

د. نورة القحطاني متحدثة في الندوة التي أدارتها الجازي السنافي، وشارك فيها د. عبد الدائم السلامي و د. شعيب حليفي.

لعب النقد الأدبي دوراً هاماً في تطورها من خلال دراسته لها بمناهج ورؤى نقدية متنوعة، فوظف النقاد
التحيل النصي والأسلوبي، والنقد الثقافي، والتاريخي، والنفسي، والنسوي، والبنيوي وما بعد البنيوي، حتى وصلنا إلى دراسات نقدية معاصرة توظف النقد البيئي والرقمي في تحليل القصة ودراسة أشكالها الجديدة وموضوعاتها. ولكن لا توجد إلا دراسات قليلة تناولت القصة القصيرة العربية من منظور النقد البيئي، وليس ثمة اهتمام عميق بدراسة واسعة لها من خلال تحليل علاقة الإنسان بالبيئة وبالكائنات الأخرى، يلقي الضوء على الأبعاد البيئية في القصة القصيرة العربية وكيف تعكس هذه الأعمال التحديات البيئية التي تواجهها المجتمعات العربية، بما في ذلك التصحر، ندرة المياه، التلوث، وتغير المناخ، وغيرها؛ ولذا تستكشف الورقة هنا بعض نماذج القصة القصيرة ودورها في تشكيل الوعي البيئي نحو القضايا البيئية، وكيف مثّلت تقنيات السرد هذه القضايا البيئية؟

وقد بدأ الاهتمام بالبيئة في الدراسات الأدبيَّة العالمية بشكل واسعٍ مع ظهور مدرسة النقد البيئيِّ في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيَّات من القرن العشرين، والتي من روَّادها (Cheryll Glotfelty) و  (Scott Slovic) عندما أسَّسا رابطة دراسة الأدب والبيئة، وبعدها بفترة قصيرة قامت Cheryll Glotfelty، وبالتعاون مع  Harold Fromm)) بتحرير كتاب بعنوان ” النقد البيئي، القارئ”، يتألَّف من مجموعة من المقالات عن الأدب والبيئة). وقد جاء النقد البيئي اﺳﺘﺠﺎﺑﺔ ﻟﻠﺤﺎﺟﺔ إلى ﻓﻬﻢ تلك العلاقة ﻓﻲ ﻋﺼﺮ ﺗﺪﻣﻴﺮ اﻟﺒﻴﺌﺔ. حيث إن العلماء يرون أن اﻷزﻣﺎت اﻟﺒﻴﺌﻴﺔ، إلى ﺣﺪ ﻛﺒﻴﺮ، ﻫﻲ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻻﻧﻔﺼﺎل اﻟﺒﺸﺮﻳﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ، ﻟﻴﺲ ﻓﻘﻂ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ تطور اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ وﻟﻜﻦ أﻳﻀًﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﺨﺼﻴﺺ الذي يفشل ﻓﻲ إدراك اﻟﺘﺮاﺑﻂ ﺑﻴﻦ اﻷﺷﻴﺎء. وﻣﻦ وجهة نظر الأﻛﺎدﻳﻤيا، ﻓﺈن اﻟﻨﻘﺪ اﻟﺒﻴﺌﻲ ﻫﻮ اﺳﺘﺠﺎﺑﺔ ﻟﻠﺘﺨﺼﺺ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻲ اﻟﺬي ﺧﺮج ﻋﻦ ﻧﻄﺎقه المحدود إلى الدراسات البينية. حيث جاءت ﻓﻜﺮة ﺗﻌﺪد اﻟﺘﺨﺼﺼﺎت لتدعم ظهور اﻟﻨﻘﺪ اﻟﺒﻴﺌﻲ كـ “ﺧﻴﻤﺔ ﻛﺒﻴﺮة” ﺗﺸﺠﻊ ﺷﻤﻮﻟﻴﺔ وﺟﻬﺎت اﻟﻨﻈﺮ وترابطها. وﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ، ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗشمل اﻟﻤﻨﺎﻫﺞ اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ اﻟﺒﻴﺌﻴﺔ مناهج ﻧﻈﺮﻳﺔ، وﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ، وﺗﺮﺑﻮﻳﺔ، وﺗﺤﻠﻴﻠﻴﺔ، وﻧﻔﺴﻴﺔ، وﺑﻼﻏﻴﺔ، وﻣﺎ إلى ذﻟﻚ. ورغم أن ﺒﻌﺾ الباحثين لا يميل إلى اﻟﻨﻘﺪ اﻟﺒﻴﺌﻲ لصعوبة ضبطه ﺑﺴﺒﺐ ﻫﺬه اﻟﺸﻤﻮﻟﻴﺔ، ﻓﺈن ﺗﻠﻚ اﻟﻨﻈﺮة اﻟﺸﺎﻣﻠﺔ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻴﺰه ﻋﻦ اﻟﻤﻨﺎﻫﺞ اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ اﻟﻤﺤﺪودة.

 فالناقد هنا حسب (Glotfelty) يطرح أﺳﺌﻠﺔ ﻣﺜﻞ: ﻛﻴﻒ كان ﺗﻤﺜﻴﻞ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻓﻲ ﻫﺬه اﻟﺴﻮﻧﻴته؟ ﻣﺎ ﻫﻮ اﻟﺪور اﻟﺬي ﺗﻠﻌﺒﻪ اﻟﺒﻴﺌﺔ اﻟﻤﺎدﻳﺔ ﻓﻲ ﺣﺒﻜﺔ ﻫﺬه اﻟﺮواﻳﺔ؟ ﻫﻞ اﻟﻘﻴﻢ اﻟﻤﻌﺒﺮ ﻋﻨﻬﺎ ﻓﻲ ﻫﺬه اﻟﻤﺴﺮﺣﻴﺔ ﻣﺘﻮاﻓﻘﺔ ﻣﻊ اﻟسياسات اﻟﺒﻴﺌﻴﺔ؟ وﻛﻴﻒ ﺗﺆﺛﺮ اﺳﺘﻌﺎراﺗﻨﺎ للطبيعة ﻓﻲ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺗﻌﺎﻣﻠﻨﺎ ﻣﻌﻬﺎ؟ وﺑﺄي ﻃﺮيقة ﺗﺘﺴﺮب اﻷزﻣﺔ اﻟﺒﻴﺌﻴﺔ إلى اﻷدب اﻟﻤﻌﺎﺻﺮ واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ؟ وﻣﺎ ﻫﻮ اﻟﺘأثر والتأثير اﻟﻤﻤﻜﻦ ﺑﻴﻦ اﻟﺪراﺳﺎت اﻷدﺑﻴﺔ واﻟﺨﻄﺎب اﻟﺒﻴﺌﻲ ﻓﻲ اﻟﺘﺨﺼﺼﺎت ذات اﻟﺼﻠﺔ كاﻟﺘﺎرﻳﺦ، واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ، وﻋﻠﻢ اﻟﻨﻔﺲ، وﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻦ، واﻷﺧﻼق؟

وبهذا ﺗﺸﺘﺮك ﻣﻌﻈﻢ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﺒﻴﺌﻴﺔ ﻓﻲ داﻓﻊ ﻣﺸﺘﺮك يتصل برفع اﻟﻮﻋﻲ بعواﻗﺐ أﻓﻌﺎل اﻹﻧﺴﺎن التي تدمر أﻧﻈﻤﺔ اﻟﺤﻴﺎة اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻋلى ﻛﻮﻛﺐ اﻷرض. وﻳﺜﻴﺮ ﻫﺬا اﻟﻮﻋﻲ رﻏﺒﺔ ﺻﺎدﻗﺔ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺎﻫﻤﺔ ﻓﻲ حفظ اﻟﺒﻴﺌﺔ، وتشجيع المتلقين ﻋلى اﻟﺘﻔﻜﻴﺮ ﺑﺠﺪﻳﺔ ﻓﻲ ﻋﻼﻗﺔ اﻟﺒﺸﺮ ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ، وباﻟﻤﻌﻀﻼت اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ واﻟﺠﻤﺎﻟﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻄﺮﺣﻬﺎ اﻟنصوص اﻷدبية حول اﻠﻘﻴﻢ ذات اﻵﺛﺎر اﻟﺒﻴﺌﻴﺔ اﻟﻌﻤﻴﻘﺔ.
وسنركز هنا على مصطلح (Ecofiction) وهي الأعمال التي تتناول العلاقة بين البيئات الطبيعية والمجتمعات البشرية التي تسكن داخلها. وظهر هذا المصطلح بعد فترة وجيزة من سيطرة البيئة كنموذج علمي شعبي وموقف ثقافي واسع في الستينيات والسبعينيات. وتركز على موضوعات مثل التأثيرات البشرية على البيئة، مثل تغير المناخ، والأدب الموجه نحو الطبيعة، مثل القصص عن النباتات والحيوانات وتصوير علاقة الإنسان بهم.

وبعد هذا الطرح النظري المختصر، فقد اخترتُ تطبيق هذا المنظور على بعض النصوص القصصية القصيرة للكاتب عبدالله الناصر، حيث نستكشف من خلالها كيف يستخدم الكتّاب القصة كأداة لنقل رسائل بيئية قوية، مما يساهم في رفع مستوى الوعي العام وتشجيع القراء على إعادة التفكير في علاقتهم بالعالم الطبيعي.


في مجموعته القصصية المعنونة بـ (الشجرة) يناقش القاص عبدالله الناصر في قصة (الشجرة) أحداثًا في قرية بها شجرة كبيرة “هي جزء من تاريخ قريتهم، وهو تاريخ سحيق ربما تمرد على ذاكرة التاريخ.. وهم يرمزون بها إلى أشياء كثيرة.. فهي تقع شـمـال الـقـريـة وإذا أرادوا أن يـحـددوا الاتـجـاهـات، حددوها بجهـة الـشـجـرة، فهي مركز الاتجاهات كلها.. وتتخذ الشجرة موعداً لاجتماعهم للسفر، أو للتشاور في شأن من شؤون القرية.. وإذا عقدوا أمراً مهماً كان تحت الشجرة…” ، وتغدو هذه الشجرة رمزًا تعرف به القرية بين القرى الأخرى حتى سميت بها (قرية الشجرة)، و”ظلت الشجرة في أذهان شيوخ القرية وعجائزها وكهولها وشبّانها جسداً مهماً ورمزاً لهذه الأشياء مجتمعة.

وحينما خرج بطل القصة إلى الحياة “كان يشعر بهذا التقدير أو هذا الحضور العظيم للشجرة، فكأنها أب العائلة، أو شيخ العائلة. أو القلعة التي تحمي حمى القرية..”. وتصبح العلاقة بين الإنسان والشجرة قوية بها مشاركة أعمق وأكثر احترامِا بمكانتها نمت في نفس الطفل هيبة وتقديرٌ لهذه الشجرة.. وكبرت مع مرور الأيام ووجد فيها رمزاً لـلـكـرامـة والافتخار”. ويكبر البطل ويذهب إلى المدينة التي يرى فيها كل يوم “شيئاً جديداً وضخماً وفخماً. رأى في المدينة أشجاراً أضخم من شجرته، ومنائر أطول من منارة مسجد القرية. واكتشف حياة لا علاقة لها بالقرية ومحدودية القرية. القرية حوض ماء، وهذه المدينة بحر متلاطم الأمواج. مدينة تعوم في الأضواء، والأسواق، والشوارع الفسيحة، والأبنية العملاقة”. وبدأ البطل بعدها يتغير شعوره نحو الشجرة والقرية، ولم يعد يراها تلك الشجرة المميزة التي كان يعدها أمًا للقرية، وعندما كان “في زيارة للقرية مرّ بالشجرة وأخذ يتأملها (وجدها لا تختلف عن أية شجرة أخرى) وقد رأى الذبول والشحوب يسري في جسدها.. لم يشعر تجاهها بذلك التقدير الوجداني المستبطن داخل نفسه.. رآها عادية مجردة من أي شيء..!! ساوره نوع من الاستخفاف والاستهانة بها ولكنه كتمه”. وبدأ بعدها يلح على تطوير القرية حتى تغيرت ملامحها وقرروا قطع الشجرة لبناء مستشفى مكانها، ولكن شيوخ القرية رفضوا ذلك. وبعد أعوام تحولت تلك الشجرة إلى شيء مهمل داخل مقبرة.

وهكذا، جسدت قصة (الشجرة) تلك التوترات بين التقدم البشري والعالم الطبيعي، مما يعكس المعضلة البيئية المتمثلة في تحقيق التوازن بين التقدم الحضاري والمدني والحفاظ على الطبيعة ممثلة بالشجرة التي تمثل صلة بماضي الأرض. والقصة عبارة عن نقد لانتهاك الحضارة الحديثة للبيئة الطبيعية، وتم تصويرها من خلال الصراع بين شيوخ القرية كبار السن وشبابها الجدد الراغبين في التحديث الذي ينقل بشكل فعال رسالة مفادها أن الطبيعة ليست مجرد خلفية للأنشطة البشرية ولكنها مجتمع حيوي من الكائنات المختلفة في الطبيعة لهم حقوقهم وقيمتهم.

وهناك نماذج أخرى كثيرة من القصة القصيرة العربية تقدم رؤى عميقة حول العلاقة بين الإنسان والطبيعة، مما يقدم مساهمة قيمة في مجال النقد البيئي وفهم الأبعاد البيئية للأدب العربي يؤكد أن هذه القصص ليست مجرد روايات للتجربة الإنسانية ولكنها أيضًا تأملات في الاهتمامات البيئية الواسعة التي تحدد مدى تفاعلنا مع العالم من حولنا.


الإحالات:

-Thomas Dean. 1994. “What is Eco-Criticism?”. Proceedings of the Western Literature Association Meeting Salt Lake City, Utah-6 October.

-Cheryll Glotfelty and Harold Fromm. 2009. The Ecocriticism Reader: Landmarks in Literary Ecology. Ed. Athens: U of Georgia.

عبدالله محمد الناصر. ٢٠١١. الشجرة. بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، ص ٨٦،  ٨٩، ٩٠، ٩١.

 

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى