د.أحمد عيد:في محراب الحضارة مسارات الفن المصري في رؤية صالح عبد المعطي.
د. أحمد جمـــال عيـــد★
في قلب مدينة الأقصر بجمهورية مصر العربية، حيث تنبض الروح بالحكايات القديمة وتنطق الأحجار بأسرار الزمن، ولد وترعرع الفنان التشكيلي الأستاذ الدكتور صالح محمد عبد المعطي، بين أروقة هذه المدينة التي تروي للعالم قصة حضارة شامخة امتدت عبر آلاف السنين. نشأ صالح عبد المعطي في ظلال معابد طيبة، حيث كانت عينيه تتشرب بريق النقوش الهيروغليفية على جدران المعابد، وسحر التماثيل الضخمة التي تجسد الملوك والآلهة، وكأنها تجسد مجدًا خالدًا لا يُمحى.
لم يكن الفن بالنسبة لصالح مجرد مهنة أو طريقٍ للاحتراف، بل كان بالنسبة له جسرًا روحيًا يربطه بأجداده الفراعنة، أولئك الذين صنعوا حضارة قائمة على الجمال والعلم والحكمة. من خلال الألوان والخطوط، كان صالح ينقل نبضات هذه الحضارة العريقة إلى عصرنا الحالي، محاولًا أن يستحضر عُمقها وعبقها في كل لوحة يرسمها وفي كل خط ينقشه. كان مزيجًا نادرًا بين الجرافيك والروحانية، إذ أن أعماله لا تتوقف عند الجمال البصري، بل تتسلل لتسكن في أعماق الوجدان وتفتح أبوابًا للتأمل والتفكر.
حصل الدكتور صالح على تعليمه الأكاديمي في أعرق المؤسسات الفنية، حتى أصبح أستاذًا للجرافيك، حيث كرّس حياته لتعليم أجيال من الفنانين، ناقلًا إليهم خلاصة تجاربه وعشقه للتراث المصري القديم. ومع مرور الوقت، تقلد منصب عميد كلية الفنون الجميلة بجامعة الأقصر، التي شهدت بين أروقتها جيلًا جديدًا من الفنانين، نشأوا على يديه، ونهلوا من فنه وعلمه. لم يكتفِ صالح بهذا، بل شغل أيضًا منصب نائب رئيس جامعة جنوب الوادي، حيث وسّع دائرة تأثيره لتصل إلى أبعد من نطاقه المحلي، فكان بذلك نبراسًا للفن والتعليم في مصر وخارجها.
تأثُر صالح محمد عبد المعطي عميقًا بالحضارة المصرية القديمة، لكن تأثيره لم يكن محصورًا في التقليد البحت، بل كان يستلهم منها روح الإبداع والتجديد. فعند النظر إلى أعماله، نجد بصمة هذه الحضارة في تكوينات مُبتكرة تحمل بصمات الحداثة وملامح الأصالة في آن واحد. إن لوحاته وأعماله الجرافيكية تجسد توليفة عجيبة بين الموروث والمعاصر، إذ أنه يمزج بين التقنيات الحديثة كطباعة السلك سكرين والحفر الحمضي والرسم بالحبر الشيني، وبين الأسلوب الروحاني العميق الذي يجعلنا نتساءل عن الوجود والحياة والموت.
لقد جعل صالح من كل عمل فني نافذةً تطل على عالم من الأحلام والرؤى، حيث تعبر الخطوط والألوان عن مشاعر مُتشابكة كالحب والخوف والأمل، وحيث تتحول المساحات إلى أبعاد روحية تتغلغل في النفس. إنه فن يُخاطب العمق الإنساني، ويفتح أمام المشاهد بابًا للدخول إلى عوالم غير مرئية، عوالم يحضر فيها الجمال بمعناه المطلق، ويكون للفن معنى أسمى من مجرد صورة أو لوحة.
في هذه المقالة النقدية، سنبحر في عوالم الفنان الدكتور صالح محمد عبد المعطي، لنتعرف على الرؤية الفنية التي جعلت من أعماله مرآةً تنعكس فيها صورة الحضارة المصرية القديمة، ورؤية الحداثة في قالب فني مبتكر. سنخوض رحلة بين أعماله الفنية، لنكتشف تفاصيل إبداعاته، ونغوص في عمق المعاني التي ينقلها عبر تجريده للصور وتعبيره الصامت عن فلسفة الجمال اللامحدود.
قراءة في أعمال عبد المعطي
شمس النهار
سنة الإنتاج: ٢٠٠٣
حفر غائر
الحجم ٣٥ سم x ٣٠ سم
في هذا العمل الجرافيكي، يقدم لنا الأستاذ الدكتور صالح محمد عبد المعطي رؤية بصرية تمزج بين التجريد والرمزية في إطار مشهد درامي غامض يعبر عن حالات عاطفية وروحية عميقة. يحتل الجزء العلوي من اللوحة قرص ضخم بلون أحمر متوهج، يتخذ شكلًا حلزونيًا يعكس حركة دائرية تموجية، مما يمنحه طابعًا حيويًا كأنه مشهد من عوالم الطاقة والضوء. في المقابل، يتوسط العمل شكل عضوي يبدو كهيئة إنسانية أو تمثال واقف، يغلب عليه اللون الرمادي ويتسم بخطوط ناعمة تنساب على سطحه، وكأنها نقوش أو علامات دالة.
العمل يتضمن أيضًا خطوطًا مائلة وسحابات داكنة في الخلفية تعزز من عمق الأجواء الغامضة. على الجانب الأيمن من اللوحة، يظهر ثعبان أو كائن متموج كأنه يرمز إلى عنصر من عناصر الطبيعة، يُضيف بعدًا رمزيًا آخر إلى هذا التكوين المُعقد. هذه العناصر المختلفة والمتداخلة تجعل المشاهد يشعر بحالة من الترقب والغموض وتدفعه للبحث عن معانٍ خفية وراء هذا المشهد.
يعتمد العمل على التضاد الواضح بين الألوان؛ حيث يتباين اللون الأحمر المشتعل في الخلفية مع الرمادي البارد الذي يغطي الشكل المركزي. هذا التضاد يعكس تناقضًا داخليًا بين الحرارة والحيوية المتمثلة في الدائرة الحمراء وبين السكون والتأمل في الشكل الرمادي. المساحات والتدرجات اللونية أُتقنت بشكل يعكس بُعدًا بصريًا وعمقًا يعزز من التوتر الداخلي للوحة.
استخدام الفنان للخطوط الناعمة والمتموجة يخلق إحساسًا بالحركة داخل العمل، وكأن الشكل الإنساني يتعرض لقوة خارجية تجذبه نحو المركز المتوهج. الخطوط الحلزونية في القرص الأحمر تخلق شعورًا بالدوار، وربما ترمز إلى طاقة كونية أو قوة روحية تحيط بالشكل الإنساني. على الرغم من سكونية الشكل الأساسي، إلا أن العمل يبعث في النفس شعورًا بالديناميكية والتغير.
يُمكن اعتبار هذا العمل انعكاسًا للصراع الداخلي بين العقل والعاطفة، بين الروحانية والمادية. القرص الأحمر الحلزوني يُمكن أن يرمز إلى طاقة الحياة، أو ربما شمس الروح التي تجذب إليها كل من يقترب منها. في المقابل، الشكل الإنساني الرمادي قد يمثل الإنسان في تأمله وتواضعه أمام عظمة الكون، أو ربما كيانًا يسعى إلى النور والمعرفة محاطًا بمظاهر الطبيعة التي تجسدت في شكل الثعبان على يمينه.
الثعبان، برمزيته القديمة، يمكن أن يكون تعبيرًا عن الحكمة أو الخطيئة، وهو هنا يضفي على العمل طابعًا ميثولوجيًا أو فلسفيًا؛ كأنه يذكرنا بالصراع بين المعرفة والنقاء، وبين الإغراء والتجربة. اللون الأحمر المتوهج قد يشير إلى التنوير أو إلى الشغف الذي يحرك الذات البشرية نحو اكتشاف ما هو أبعد من حدود الإدراك المادي.
هذا العمل يمثل قمة الإبداع الفني للأستاذ الدكتور صالح محمد عبد المعطي، ويبرز عمق قدرته على استخدام الألوان والتكوينات بأسلوب شاعري ومكثف يلامس وجدان المشاهد. تمكن الفنان من خلق تركيب بصري متكامل يُعبر عن قضايا وجودية ويشع إحساسًا بالعزلة والبحث عن الذات. من خلال استخدام التقنيات المتعددة، نجح في تحويل اللوحة إلى فضاء ينضح بالغموض ويحفز التأمل، ويعبر عن عمق فلسفي يتجاوز الجمال الظاهري.
العمل يُمثل تحفة فنية في عالم الجرافيك، حيث أن الفنان لم يكتفِ بإظهار براعته التقنية فحسب، بل تجاوز ذلك إلى خلق حوار صامت مع المتلقي، حوار مليء بالأسئلة الوجودية والتأملات الروحية. هذه اللوحة لا تُعتبر مجرد مشهد جمالي، بل هي رحلة بصرية ونفسية تأخذنا إلى عوالم بعيدة من التأمل والفهم، وهي بذلك شهادة على عمق رؤية الفنان ومهارته الفائقة في ترجمة المشاعر والأفكار إلى لغة بصرية رفيعة.
بدون عنوان
سنة الإنتاج: ١٩٩٠
حبر شيني على ورق
الحجم ٦٠ سم x ٤٥ سم
نحن هنا أمام عمل جرافيكي متميز من إبداع الأستاذ الدكتور صالح محمد عبد المعطي، الذي يعد أحد الرموز البارزة في مجال الفن التشكيلي والجرافيك بمصر. يجسد هذا العمل بأسلوبه التجريدي تعقيدات الحياة وروح الإنسان الباحثة عن المعنى وسط تراكمات المعطيات الحياتية. استخدم الفنان الرسم بالحبر الشيني، ليمنح العمل عمقًا فنيًا وبصريًا يلفت النظر ويستدعي التأمل.
تظهر في مركز اللوحة تشكيلات عضوية متداخلة تميل إلى اللون الرمادي بدرجاته المتنوعة، وكأنها عناقيد أو منحوتات تأخذ أشكالًا دائرية وحلزونية، تتصاعد برفق نحو الأعلى. في الخلفية، تتداخل المستطيلات وتقطع المساحة الخلفية بأبعاد هندسية لتضيف إيقاعًا بصريًا. هذا المزج بين الخطوط المنحنية في المقدمة والتكوينات الهندسية في الخلفية يمنح اللوحة تناقضًا ساحرًا بين الصلابة والهشاشة، بين الثبات والحركة.
نرى في هذا العمل تموجات الخطوط وألعاب الظلال والنور تتعاون لخلق تباينات بصرية تمنح التركيب روحًا ثلاثية الأبعاد، على الرغم من كونه عملًا ثنائي الأبعاد. كل عنصر في هذا التكوين يحمل إحساسًا بالتطور التدريجي، كأن العناصر تحاول الوصول إلى حالة من التكامل والتناغم مع الكتل المحيطة.
يتسم هذا العمل بانسيابية تأخذنا في رحلة بين الأشكال العضوية التي تشبه الكائنات الحية، وبين الخلفية الهندسية ذات البنية الجامدة والمستقرة. يظهر التكوين ككائن متحرك، يتصاعد برشاقة عبر اللوحة، مما يمنحها طابعًا ديناميكيًا، وكأن الفنان يحاول تجسيد حركة الحياة والصعود الروحي عبر هذه الخطوط المتشابكة. يُلاحظ أيضًا التناغم بين التقنيات المستخدمة، حيث يعزز استخدام الحبر الشيني حدة التفاصيل ويبرز الحفر الحمضي مستوى إضافيًا من العمق.
من الناحية الرمزية، يُمكن تفسير الأشكال الحلزونية الصاعدة كرمز للتطور والنمو الروحي، كأنها تمثل رحلة الذات نحو النضج واكتشاف الحقيقة. الخلفية الهندسية قد تكون رمزًا للعالم المادي، الذي يُحاصر هذه الروح الساعية إلى الارتقاء. هذا التناقض بين العضوي والهندسي، بين اللين والصلب، يُمكن أن يُعبر عن الصراع الأبدي بين الروحانية والمادية، بين الرغبة في التحرر وبين القيود التي تفرضها الحياة.
إن هذه التركيبة تبدو كقصيدة بصرية، حيث يعبر الفنان عن أحلامه وتطلعاته كإنسان يواجه تحديات الحياة، ويبحث عن ذاته في وسط متاهة من الأشكال والرموز. قد تكون الأشكال التي نراها في التكوين بمثابة تجسيد رمزي لمراحل النمو، بدءًا من القاعدة حيث الأرضية الصلبة، إلى القمة حيث الانسيابية في الشكل والتجريد.
يُعتبر هذا العمل الفني شهادة على عبقرية الأستاذ الدكتور صالح محمد عبد المعطي، الذي تمكن من استخدام التقنيات الجرافيكية بشكل متقن ليُبرز رؤيته الفنية العميقة. استطاع أن يمزج بين التقنيات التقليدية والمعاصرة ليعبر عن صراع وجودي وجمالي، مما يُضفي على العمل طابعًا فلسفيًا وشاعريًا نادرًا.
اللوحة تمثل قصيدة بصرية تنبض بالحياة، وتعكس روح الفنان المتطلعة نحو التعبير عن أبعاد روحية ومعرفية عميقة. إنها ليست مجرد تكوين جمالي، بل هي تأمل صامت في جوهر الحياة، رحلة متواصلة نحو النور وسط ظلال الوجود، وسعي دؤوب نحو الكمال الفني والروحي.
الوحدة
سنة الإنتاج: ٢٠٠٣
حفر غائر
الحجم ٣٥ سم x ٣٠ سم
استخدم الفنان الحفر الغائر، وهو أسلوب يتطلب دقة عالية وفهمًا عميقًا لطبيعة المواد، لتخلق بنية تجريدية تتجاوز الحسية المادية وتنقلنا إلى أفق من التأمل والفكر العميق.
في قلب اللوحة، نجد شكلًا مركبًا يتخذ طابعًا تجريديًا يمزج بين الكتل الهندسية والأشكال العضوية. يبدو الشكل المركزي كأنه هيكل معقد من الأشكال المتشابكة التي تتراصف وتتماسك لتشكل بنية مستعصية على التحديد الدقيق، كأنها بوابة لمدينة خيالية أو تمثال رمزي يحمل معه رمزًا خفيًا. الألوان الداكنة والتضاريس المتدرجة تُسهم في خلق أجواء غامضة وحالكة، كأن العمل يُطل علينا من عالم غامض تتفاعل فيه العناصر والأفكار.
بالتعمق في تكوينات العمل، نجد أن الفنان قد اختار بعناية تقسيم المساحات بشكل متناغم وغير منتظم، حيث يمتزج الخط بالحبر الشيني مع الظلال التي أوجدها الحفر الحمضي، ليمنح العمل عمقًا بصريًا يفتح المجال لرؤية عدة أبعاد متداخلة. كل كتلة في هذا التركيب تحمل معنى مستقلًا، لكنها في الوقت ذاته تتحد لتشكل كيانًا متماسكًا وكأنها مخلوقات حية تتنفس داخل العمل.
يمثل الجزء العلوي قرصًا مائلًا كالسيف أو الشعاع القوي الذي يخترق الظلام، والذي ربما يكون رمزًا للمعرفة أو القوة التي تسلط الضوء على الظلام المحيط بالكتل السفلية. الكتل السفلية نفسها تبدو وكأنها متماسكة بواسطة عناصر دائرية صغيرة في الأسفل، تشبه الخرز أو الحبات، ربما ترمز إلى الترابط أو الوحدة في إطار يتسم بالغموض والرمزية.
من الناحية الرمزية، يمكن أن يكون العمل انعكاسًا للبحث الداخلي للفنان، سعيه نحو فهم أعمق للذات الإنسانية وما يحيط بها من تحديات وغموض. القرص المائل يمكن تفسيره كرمز للضوء الذي ينير الطريق في وسط ظلام النفس البشرية وتحديات الحياة، بينما الكتل المتراكمة ترمز إلى الطبقات المعقدة التي تشكل هوية الإنسان. هذا التكوين يبدو كما لو كان رحلةً روحية، تتخللها لحظات من الشك واليقين، من السكون والصخب الداخلي، من البحث عن الحقيقة وسط التناقضات.
إن اختيار الفنان للتقنيات المتعددة من خلال الحفر الغائر يعكس تداخل التجربة الإنسانية وتعقيداتها؛ فقد استخدم تقنيات الحفر الغائر لخلق خطوط عميقة، مما يضفي على العمل جاذبية فريدة. كأنه بذلك يرسم لوحة نفسية تعكس ما يختلج في الروح البشرية من تناقضات بين النور والظلام، بين الوحدة والترابط، وبين البحث عن الحقيقة والعجز عن بلوغها.
يُعد هذا العمل إنجازًا فنيًا يعبر عن رؤية عميقة وفلسفية، ويُبرز خبرة الأستاذ الدكتور صالح محمد عبد المعطي في استثمار تقنيات الجرافيك بشكل شاعري ومعبّر. قدرة الفنان على الدمج بين التجريدي والرمزي بأسلوب متقن يعكس عمقًا فكريًا ووعيًا بصريًا نادرًا، يتخطى الحدود التقنية نحو التعبير عن مشاعر ومعانٍ إنسانية عميقة.
هذا العمل ليس مجرد تجربة جمالية، بل هو دعوة للتأمل والتفكر في جوهر الإنسان، في معركته الدائمة مع ذاته ومع قوى الكون المحيطة به. يمثل هذا العمل قمة النضج الفني للفنان، حيث يتجلى فيه الجمع بين الخبرة التقنية والعمق الفلسفي، ليُنتج أثرًا يلامس الروح ويدعو المتلقي للتأمل في الجوانب الخفية للوجود.
بدون عنوان
سنة الإنتاج: ١٩٩١
رسم
الحجم ٣٥ سم x ٣٠ سم
في هذا العمل الجرافيكي البارز، يظهر لنا الفنان الدكتور صالح محمد عبد المعطي تكوينًا تجريديًا يتألف من مجموعة من الأشكال الدائرية والمستديرة التي تتكدس فوق بعضها البعض في تشكيل متماسك ومتوازن. الأشكال تتنوع في حجمها، مع احتوائها على تفاصيل دقيقة توحي بملمسٍ مختلف لكل منها، مما يضفي بُعداً إضافياً على سطح اللوحة. كما نرى تشكيلاً يشبه عجلة أو ترسًا مسنناً ضمن هذه المجموعة، يحتوي على فراغ دائري في مركزه، ما يضفي عليه طابعًا صناعيًا يشير إلى أدوات وآليات قديمة أو حديثة.
خلفية العمل محايدة نسبياً، ذات لون باهت، مما يُبرز الكتل الدائرية في المقدمة ويُضفي عليها مزيدًا من العمق. الحدود الخارجية للأشكال منحوتة بدقة شديدة، ويبدو أن الفنان استخدم هنا تقنيات الطباعة بالحبر الشيني بتدرجات تتفاوت بين الأسود والرمادي، مما يتيح له خلق إحساس بالتدرج والظل. الألوان الأحادية والتدرجات الخفيفة تضفي طابعًا هادئًا، يُرَكِّز انتباه المشاهد على التفاصيل الدقيقة للأشكال.
يُظهر هذا العمل اهتمام الفنان بالتوازن البصري والدقة الهندسية، حيث تترتب الكتل الدائرية بشكل منظم، مما يوحي بترتيب هارموني ينسجم بين الفوضى والنظام. يبدو أن الفنان اعتمد على تقنية “الحفر الحمضي” التي تُعرف بقدرتها على خلق تأثيرات دقيقة على أسطح الطباعة، مما يضفي على العمل لمسة من النعومة والتدرج السلس، وكأنه يريد أن يُحاكي ملمس المعادن أو الأحجار الدائرية.
وجود الشكل المسنن بين الكتل الدائرية يعكس مفهوماً مزدوجاً يجمع بين الطبيعي والصناعي؛ فهو رمز للتكنولوجيا والآليات الميكانيكية، ولكنه يظهر هنا مندمجاً بانسيابية بين الأشكال الدائرية الناعمة، مما يخلق تبايناً غنياً بين الحدة والنعومة. أما الخطوط والتظليل بالحبر الشيني، فتمنح العمل إحساسًا بالتجسيم، حيث تبدو الأشكال وكأنها بارزة عن السطح وتتحرك باتجاه المشاهد.
في هذا العمل، يبدو أن الفنان صالح محمد عبد المعطي يتأمل في علاقة الإنسان مع الآلات والصناعات الحديثة، وكيف تتداخل تلك الآليات الصناعية مع الطبيعة الإنسانية. الدوائر الملساء والمنتظمة قد ترمز إلى الديمومة والدوران اللانهائي، وكأنها تمثيل لدورة الحياة التي لا تنتهي، أو ربما لدوران الزمن الذي لا يتوقف.
الشكل المسنن الذي يتوسط العمل قد يرمز للآلة والتكنولوجيا، لكنه ليس بارزاً بشكلٍ منفصل، بل مدمج مع الكتل الأخرى، في إشارة إلى اندماج الآلة والإنسان في العالم المعاصر. لعل الفنان يسعى هنا إلى تسليط الضوء على تأثير الآلة في حياتنا اليومية، وكيف أننا أصبحنا جزءاً من هذه الدورة الصناعية.
كذلك، قد يحمل العمل إشارات فلسفية حول الصراع بين الطبيعة والصناعة، حيث تأتي الأشكال الدائرية لتعكس الانسيابية الطبيعية، فيما يُظهر الترس الحاد دور التكنولوجيا في تشكيل الواقع. يُمكننا القول إن الفنان يدعو المشاهد للتفكير في كيفية إعادة التوازن بين الحياة الصناعية الحديثة والجوانب الطبيعية للوجود الإنساني.
هذا العمل هو بلا شك مثال على براعة الفنان في استخدام التقنيات المتعددة للجرافيك لتجسيد أفكارٍ فلسفية معقدة. استطاع الفنان، من خلال طباعة السلك سكرين والحفر الحمضي، أن يخلق إحساسًا عميقًا بالتجسيم والانسيابية في تكوينٍ مجرد، مُحافظاً على توازن بديع بين الأشكال المختلفة.
اختيار اللون الأحادي والتدرجات الرمادية يُعزز من طابع العمل، حيث يُبعدنا عن تشتيت الألوان، ويوجهنا نحو التركيز على الأشكال وعلاقاتها ببعضها. هذه اللوحة تُمثل انعكاساً لفكر الفنان العميق حول التكنولوجيا وتأثيرها على الإنسان، وحول اندماج الإنسان والآلة في عصرٍ معاصر بات فيه الاثنان جزءاً من نسيج الحياة اليومية.
يمكن اعتبار هذا العمل بمثابة دعوة صامتة للتأمل والتفكر في حياتنا الحديثة وعلاقتنا بالآلات التي تُسيِّر حياتنا بشكلٍ أو بآخر. هنا، يضعنا الفنان أمام مرآةٍ مجردة، حيث يدفعنا للتساؤل: هل نحن من يتحكم بالآلة، أم أن الآلة قد سيطرت علينا وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من هويتنا؟
بدون عنوان
سنة الإنتاج: ١٩٩١
رسم
الحجم ٣٥ سم x ٣٠ سم
في هذا العمل الجرافيكي، نرى تجسيداً غنياً لتفاصيل رمزية تأخذنا في رحلة بصرية عبر عمق تاريخي وثقافي غني. في المركز، تبرز كائنات تجريدية، أشبه بأجساد بشرية تتداخل وتندمج في تشكيل يوحي بالألفة والحوار. من خلف هذه الكائنات، يظهر قرص دائري ضخم يحتل الخلفية، وفيه رمز يُشبه خنفساء “الجعران”، الذي يُعد من الرموز الفرعونية المهيبة، رمزاً للحياة والتجدد في الحضارة المصرية القديمة.
في الجزء السفلي، نجد صفاً من أشجار النخيل المنتظمة، رمزاً للخصوبة والحياة في البيئة المصرية الصحراوية. كما أن هنالك زخارف هندسية متكررة تضفي إحساساً بالاستمرارية والنظام. في أقصى الزاوية السفلية اليمنى، نرى شكلين يشبهان الأهرامات، التي تقف شامخة كرمز للقوة والعراقة والخلود. يضفي استخدام الأبيض والأسود والألوان الأحادية تبايناً قوياً يعزز من الإحساس بالدرامية والغموض، ويجعل المشاهد يتأمل التكوين بعمق.
العمل هنا يُبرز براعة الفنان في استخدام تقنيات الرسم، حيث نرى تنوعاً في الملمس وتدرجات الظلال التي أضفت عمقاً واضحاً على العمل. اعتماد الفنان الرسم بالحبر الشيني، أعطى طابعاً مميزاً للأشكال والخطوط، وجعلها تبدو متكاملة ومتداخلة بشكل سلس، مما يشير إلى تأثر الفنان بالرموز الفرعونية والمفاهيم التقليدية.
تحتوي الأشكال المركزية على انحناءات وانسيابية تعكس جانباً عاطفياً، وربما تُشير إلى ثنائية الرجل والمرأة، أو الأنوثة والذكورة، بما يرمز إلى التناغم والتكامل في الكون. أما النخيل المرتب في الجزء السفلي فيمثل استمرارية الحياة والتجذر في الأرض، كما أن الخطوط الهندسية توحي بتناغم بين الطبيعة والهندسة، وبين الحرية والنظام.
استخدام رمز “الجعران” في الدائرة الخلفية يعتبر إشارة واضحة لقيمة التجدد والحياة الأبدية، حيث كان يُعتقد في الحضارة المصرية القديمة أن الجعران يرمز للشمس والنور، ويمثل طاقة التجدد والحياة الجديدة.
يبدو أن الفنان، من خلال هذا العمل، يسعى إلى استحضار الروح المصرية القديمة، ويدمج بين مفاهيم الحياة والموت والتجدد. فالأشكال البشرية المتداخلة في المركز قد تكون تمثيلاً لفكرة الاندماج والعودة إلى الجذور، وكأن الفنان يحاول أن يقول إن الحياة والموت هما جزءان من دورة أزلية لا تنتهي. النخيل والأهرامات يرمزان إلى العراقة والأصالة، بينما الجعران في الخلفية يمثل الأمل في التجدد والبعث بعد الموت، كأن هذه الحياة هي مرحلة نحو حياة أخرى.
كما أن التقسيمات والزخارف الهندسية قد تعكس رؤية الفنان للنظام الكوني، وكيف أن الحياة تحمل توازناً بين الفوضى والنظام، بين الواقع والحلم، وبين التراث والحداثة.
يُعد هذا العمل قطعة فنية غنية بالرمزية والمشاعر. استطاع الفنان الدكتور صالح محمد عبد المعطي أن يمزج بين الماضي والحاضر، بين الرموز الفرعونية العريقة وتقنيات الطباعة الحديثة، ليخلق عملاً يتجاوز حدود الزمان والمكان.
توظيفه للحبر الشيني وطباعة السلك سكرين والحفر الحمضي يعكس احترافية عالية وتقديراً للفن الكلاسيكي المعاصر. كما أن استخدامه للألوان الأحادية يعزز من إحساسنا بالجلال والقدسية، ويجعلنا نغوص في أعماق هذا العمل لمحاولة فك شفراته ورموزه.
يُعتبر هذا العمل مثالاً على عبقرية الفنان في استخدام الرمز واللون والخطوط لإيصال مشاعر عميقة ورسائل فلسفية، تجعل المشاهد يقف متأملاً، منبهراً، بل ومتسائلاً عن أسرار الحياة ومعانيها.
★فنان تشكيلي وناقد ـ مصر.