درية عبد الفتاح : داوود بين القصور والغورية.
درية عبد الفتاح ★
” إيه في إيه يا داوود.. رايح فين وجاي منين.. لا رحت بكيفك ولا رجعت بشوقك ..لا اخترت ناسك ولا اللي اخترتهم قبلوك … إيه يا داوود ”
” ساعات بحس إن حياتي دي رواية.. وأنا ماليش تأثير فيها.. يدوب أقراها من بعيد”
– حفر له الجميع بئراً من الحيرة، ثم ألقوه فيه وحيداً وغريباً.. تركوه يبحث عن قشة يتعلق بها، فلم يجدها، ولم يجد أي وسيلة للخروج، فظل غارقاً في حيرته حتى موته ..قتلته غربته.. غربة الوطن، وغربة الاهل، وبعدها غربة النفس.. تاه واغترب داخل نفسه، وفي كل مكان عاش فيه.. لم يشعر أبداً بالانتماء؛ غريب، ووحيد حتى داخل نفسه.
اِختطفه رجال الوالي، وهو طفل صغير لم يكمل حتى الخمس سنوات، ووضعوه في المعاهد التعليمية، ثم أرسلوه إلى فرنسا؛ ليكمل تعليمه، وتخرَّج بعدها طبيباً مثقفاً يتحدث اللغة الفرنسية والإنجليزية بطلاقة، وعندما أعادوه إلى الوطن لم يقولوا له كيف يعيش، ولا أين يعيش، فأعادوه إلى “الغورية” في الحارة التي خُطف منها؛ حيث جذوره؛ حيث نشأ وكبر؛ ولكن عيناه كانت على القصور؛ حيث يعتقد أنها مكانه، فهو كطبيب من ثقافة أوروبية.. رأى أن قصور أبناء الطبقة الأرستقراطية تلائمه أكثر من الحارة.
– لم يعطِ أحد الحق لداوود، لأن يهدأ، ويجمع شتات نفسه ويستكين من حيرته بين القصر والحارة، فيجد المسكين نفسه محاصراً بين هدى هانم؛ التي تتطوع له في البحث عن عروس ملائمة له، فتاة من فتيات القصور سليلة إحدى العائلات الكريمة، وبين أمه التي تلعن الغربة التي حرمته من الزواج حتى الآن، وعدم إنجاب الأولاد، وجعلت والده يموت بحسرته عليه؛ لأنه لم يره، ولم يعش معه مثلما عاش مع أخيه، وتذكره بأصله أنه ابن العطار، وبائعة السمك، وتحسه في أذنه ألا ينسى والده، ويحمله فوق رأسه؛ ليوافق على عروس هدى هانم، وتذهب الأخيرة مع والدته فرجة؛ ولكن تتلقى أمه فاصلاً من السخرية؛ لجرأتها التي جعلت من السماكة زوجة العطار تذهب لتلك القصور، وتخطب إحدى بناتها؛ لكونها قليلة المقام مقارنة بنساء القصور؛ ليأثرها داوود، في نفسه؛ لتشعر الأم بالحسرة الشديدة، وتموت بعدها مباشرة.. معتقدة أنها السبب في ضياع زيجة ناجحة من ابنها؛ ليبدا داوود، بعدها في محاسبة نفسه، ويشعر بضياعه، وغربته بعدما رفض أهله، ورفضه من حاول جعل نفسه واحداً منهم؛ لتبدأ غربته داخل نفسه وأهله.
ومرة أخرى لم يتركوا لداوود، الحق في أن يلملم ما تبقى من هويته الضائعة، ولا حتى وقتاً للحداد على والدته، فيجد نفسه في موقف غريب عندما يتدخل الشيخ معاوية؛ لتقديمه لعروس جديدة من (آل الوراق) العائلة الكبيرة المرموقة.. تحدث فعلاً مع أهلها، وضمن موافقتهم، ويؤكد على ذلك بعبارة “إنهم بالرغم من ثرائهم الفاحش إلا إنهم يقدرون العلم والعلماء” ؛ لكن كان الموقف شديد الغرابة؛ لأن الشيخ معاوية، حاول إقناعه أثناء عزومته لهم على وجبة لحمة رأس في الحسين، فكان هذا بمثابة إعلان لغرق داوود، التام في بئر الحيرة والضياع، واستحاله استعادته لهويته مرة أخرى، وخصوصاً بعد زواجه من سنية هانم؛ لتكون الغربة هي مصيره الأوحد؛ الذي لا مفر منه إطلاقاً.
– لياتي يوم زفافه علي سنية الوراق، وعدته يومها بأن تحافظ عليه، وتسعده بقية حياتهما معاً، وإذا بداوود، فرحاً يخبرها:
“هيحصل انتي اللي أمي دعتلي بيها عشان تعوضني”
يعيش داوود وسنية، بخير وهدوء؛ حتى تأتي أول عاصفة بينهما في إحدى الحفلات الراقصة يجتمع كبار شخصيات مصر على شرف الخديوي؛ فإذا بالخديوي يأخذ يد زوجته سنية، ويرقص معها، وتوافق هي الأخرى بسرعة دون حتى الاكتراث لزوجها الواقف بجوارها؛ رغبة منها أن يمنح الخديوي الباشوية لزوجها داوود؛ لكن طباعه الشرقية لم تتغلب على الأوروبية، وتظهر ملامح الغضب على وجهه، وقد استنكرتها زوجته سنية معلقة:
“غريبة مع إنك متربي في أوروبا” ليرد عليها هو الآخر: “أنا عشت في أوروبا مصري معرفتش أكون شكلهم ”
لتساله عن سبب حيرته؛ ليخبرها أنه ضائع أضاع نفسه، وأضاع داوود الحقيقي، ولم يجد له أي وجود لا في القصور ولا في الغورية؛ فابن المجتمعَيْن يعيش في القصر؛ ولكنه يحمل بداخله عقليته الأبية الشرقية المحافظة على الأصول، ويحمل قلب أمه الأبيض؛ فيجد ما بداخله غريباً عما حوله، وعن نفسه.
– تدخل الجارية السمراء ( جوهر) إلي حياته وقصره، فيبدأ الاهتمام بها؛ فتشعر الهانم بالمهانة والغيرة؛ فتطردها خارج القصر؛ ليغضب داوود، ويحتج ويعاتب سنية؛ فتبدأ بايقاع كلمات وعبارات عن الجميل؛ الذي لم يصنه، ولم يقدره؛ ولكن داوود، لم يتفاجأ بكلامها؛ وإنما كان مستعداً لتلك اللحظة منذ البداية، وحين اشتد الشجار بينهما أخبرها داوود، عن أمه، وعن طباعها قائلاً:
“شوفي يا بنت الناس أمي عاشت مع أبويا عمرها كله مرفعتش صوتها عليه.. مكشرتش في وشه.. كانت بتجيب الطشت وتدعكله رجله، وتقوله: يا سيدي يا تاج رأسي تعرفي تقولي يا سيدي ويا تاج رأسي”.
لترد عليه هي الأخرى بحزم شديد، وتكبُّر، ووجه حادٍّ قائلة:
“أنا مش أمك؛ أنا سنية الوراق، وإذا كان اسمك وسمعتك مش فارقين معاك، فأنا ليا الحق أحافظ على كرامة ابني، واسم عيلتي”
لياتي الرد الصادم الحازم على كل تلك العبارات القاسية؛ التي تحمل معايرة وذلاً وتكبُّراً بالطلاق، ويذهب داوود، بعدها للزواج ــ من الجارية جوهرــ ملطخاً سمعة سنية، وسمعة عائلتها بالتراب، ويترك القصر، ويعيش مع الجارية جوهر، في شقة متواضعة في أحد الاحياء العادية؛ بعيداً عن صخب القصور.
– في ربيع عمره حدثت ثورة داخل نفسه لم تكن بالمراهقة المتأخرة؛ ولكنها كانت بمثابة احتجاج على حياته، فكما تطلع داوود، لحياة القصور وسيداتها، وهو في الحارة، فإذا به يتطلع للحياة مع جوهر الجارية السمراء؛ بعيداً عن القصر؛ فالجارية تشبه أمه كثيراً، ومشابهة لصورة المرأة المثالية في رأسه؛ تعطيه ما يريد.. وقت ما يريد، وتبرع في مناداته “يا سيدي.. يا تاج راسي” يعيش داوود، مع زوجته جوهر، وكأنها حل مؤقت لمأساته، فيستغل موت عطا الرماكيبي، وترمُّل السيدة هدى، فيهرع إليها غير مكترث لحزنها على زوجها وحدادها عليه، فيحاول إقناعها بأن القدر أراد أن يجمعهما معاً، وأن الاقدار تسوقهما لبعضهما؛ مستنكراً أنها مازالت في حالة حداد وحزن على زوجها الذي يراه غير جدير بها؛ فإذا بها تسأله عن جوهر، ويرد عليها جوهر، كانت صرخة.. نوعاً من أنواع الاحتجاج.. كان لازم أصرخها؛ لكنها لم تعطه الفرصة في الكلام وقالت:
” جوهر، بني آدمة دم ولحم زيك بالظبط.. انت اللي اخترتها بنفسك، وخدتها من سابع أرض، ورفعتها لسابع سما.. ازاي ضميرك سمحلك تكسرها من تاني؟”
فقد أخطأ داوود، التقدير أمام سيدة تعرف معنى الوفاء لزوجها الراحل؛ حتى بعد وفاته كما كانت قبل وفاته؛ لينصرف من عندها حزيناً.. بالكاد تحمله قدماه.
– وفي ظل رحلته في البحث عن ذاته وغرقه في مشاكله واضطراباته نسي أو تناسى ابنه تماماً، وتناساه ابنه هو الآخر؛ فهو لم يكن يعرف أن طلاقه من زوجته سنية.. سيقسي قلب ابنه لهذا الحد؛ فقد تزوج الابن دون علمه.. وإمعاناً في إذلاله.. قرر إرسال رسالة بريدية يخطره فيها بأنه قد تم الزواج، ويدعوه لاستقباله هو وزوجته في بيته حتى يتعرف على العروس..وقتها اصطدم حزن الأب داوود، وكبرياء الباشا.. شرع يبحث عمن يبكي نيابة عنه.. فلم يجد غير أخيه يشكو له.. فطلب لقاءه على المقهى.. وهناك قصَّ عليه مأساته.. فحاول الأخ أن يطيب خاطره، وينطق بكلماته بحزن دفين:”هو ضلعك لا تقدر تخلعه، ولا تقطعه” .
يتوقف عن الكلام فجاة بعد أن أدرك أنه لخص مأساة أخيه في جملة.. فيحاول الأخ المغلوب على أمره أن يتماسك، فيغلبه الحزن؛ ولكنه يتمسك بكبريائه محاولاً أن يداري حزنه ضاحكاً؛ لكن الأخ يشعر بمأساته؛ ليصطدم حزنه مع كبريائه، فيبكي نيابة عن أخيه، وهو يلعن هذا الجيل الذي لا يحترم الكبير، فيدرك صاحب الأمراض الجسدية المتعددة بأن أخاه يحتاج للبكاء.. يتحامل على عكازه، ويتهادى تجاه أخيه؛ ليجذب يده بعنف، ويفتح حضنه لأخيه الذي يلقي بنفسه فيه، ثم ينهمر الاثنان بالبكاء، ويتحدثان عن القدر والصدفة؛ التي جعلته طبيباً، وباشا زوجته من آل الوراق، ثم يبدأ باسئلته الحائرة، وكأنه أراد ولو لمرة واحدة في لحظة مكاشفة وصراحة مع الذات أن يبحث عن هويته الحقيقة؛ التي تبدأ بمعرفته سبب وجوده في الحياة “إحنا جينا الدنيا ليه يا عزيز” ليرد عليه أخوه غير المتعلم قائلاً “كل واحد جه عشان يشهد على عمله اللي مكتوبله في اللوح المحفوظ” لتكون إجابة أخيه بمثابة الإفاقة التي سيبدأ بها داوود، حياته من جديد؛ ليعود عزيز إلى منزله فرحاً؛ ليخبر زوجته أن داوود، بدأ رحلته للعودة لأصله.
– لتبدأ رحلة معرفته لذاته الحقيقية في زيارته لقبر والده، وصراخه عليه كأنه استجداء لوالده؛ الذي حرمه من حنانه وعطفه، والده الذي كان من المفترض أن يكون هومرشده في حياته، والده الذي يضعه على أول طريقه، ويخبره عن ماهيته؛ قبل أن يخرج إلى الحياة، وتصدمه رياح الحياة، وتبعثرهويته وذاته.
– في مشهد بديع ومؤثر يذهب لقبر أبيه يصرخ منادياً:
“يزيد يا مصري, جبتني ورحت فين؟ إيه الحكاية يا يزيد ! يزيد يا مصري فينك يا أبويا محتاجلك محتاج أتكلم معاك فينك يا عم يزيد جبتني ورحت فين؟”
لم يتلقَ سوى صدى صوته فقط، فيزيد، قد ذهب ولن يعود؛ ليردعلى أسئلته، وإنما هو هناك ينتظر قدومه بجانب فرجة، وعليه هو وحده البحث عن ذاته، فهو لم يختر من البداية أن يتركه؛ ولكن الأقدار هي من تدخلت في ذلك الأمر.. والجميع قَبِل القدر حتى لو كان رغماً عنه.. الجميع كتم حسرته داخله، ومضى قطار الحياة حتى جاء داوود، لقبره بعد سنين من الجفاء والبعد.. حتى يعثر على هويته.
– يمضي به العمر سريعاً، ويعاصر الكثير من الأحداث، ويشهد عليها تأتيه الصدمة تلو الأخرى بعضها يزيد من حيرته وتوهانه، والأخرى تكون بمثابة صدمة كبيرة له.. راي ابنه ووحيده يبيع وطنه من أجل الإنجليز، والحصول علي ترقية أعلى، فيشارك في محاكمة أحد رموز المقاومة الوطنية.. يزداد شوقه لرؤيه أحفاده، فيطلب من عبدالعظيم رؤيتهم، فيدعوه لزيارة القصر؛ ليحل على بيته القديم كالضيف، ويرى حفيدته عفت، التي لا تعرفه، ويمسك بها، ويطلب منها أن تقول اسمها، ويبكي، وهو يسمعها لا تدري أن تلك الدموع حسرة على غربته عن أحفاده، وامتداده في الدنيا، أم أنها دموع فرح؛ لأنه لم شمل عائلته، واحتضن أحفاده.
– عندما يمضي العمر بعد وفاة أخيه يذهب إلى بيته في الغورية ؛ حيث ولد وتربى؛ فكان البيت بمثابة حصن يحتمي به من طعنات الحيرة والاغتراب؛ ليقضي سنواته الأخيرة حيث كانت هويته الأولى قبل رحلة غربته وشتاته؛ ليقضي أيامه الأخيرة مرتدياً اللون الأبيض وسط فروع شجرة يزيد المصري؛ ليكون بمثابة الجد وسط الأحفاد، وكبير العائلة الذي يرجعون إليه دائماً للأخذ بنصيحته، ويُقَبِّلون يده في الأعياد؛ ليعود غريب الدار لأهل ووطن.
عندما يشعر بدنو أجله واقتراب موته.. يسلم نعمة، وصيته بشأن جوهر، وابنه عبدالعظيم.. ظنته نعمة، مسافراً عندما قدَّم لها الوصية، فسالته:
– هو انت مسافر ولا إيه يا داوود؟
– لم يكن يحتاج للكثير من الوقت حتى يقدِّم لها الإجابة التي لخصت تاريخ حياته.
“مسافر, أنا طول عمري مسافر.. السفر قدري ومشواري من يوم ما وعيت على الدنيا وأنا مسافر عمري ما عرفت أنا مسافر ليه، ولا رايح فين، ولا جاي إمتى ..مسافر وسط ناسي لا عرفوني ولا عرفتهم.. ركاب قطر اللي بتيجي محطته بينزل ميعرفش حتى وش جاره اللي كان جنبه مش حاجة غريبة يا نعمة”
– تأتي الإجابة في صورة صرخة من نعمة، التي تتلقف رأسه وترفع يده، ثم تتركها تهوي، فتتأكد من موته..مات داوود ..مات في أحضان نعمة، حبه الأول.. حب الطفولة الذي اختاره لنفسه بإرادته الحرة المطلقة؛ لينهي حياته معها وكأن القدر يصالحه على ما فعله به طيلة عمره؛ ليلم شمله، ويربط على قلبه الحزين؛ الذي أنهكته الحياة.. بينما جوهر زوجته ترتمي عند قدميه تبكي بحرقة سيدي يا سيدي…
– ترك في وصيته لابنه الوحيد عبدالعظيم، وطلب أن يدفن بجوار أبيه وأمه في مقابر الفقراء؛ لا أعيان القوم وسادتهم وكأنه يريد أن يختار نهايته ووجهته الأخيرة.. ولو لمرة واحدة.. فإن كانت أقدار الحياة لم تترك له حرية الاختيار؛ إلا أنه حاول أن يختار هو بنفسه نهايته.
– ليتوقف عقله أخيراً عن التفكير، وتتوقف أسئلته الحائرة، واستراح من حيرته بين الحارة والقصر.. مات وبحثه عن ذاته، وعن ماهيه نفسه.. هل هو داوود باشا.. أم داوود المصري؛ ولكن أسئلته لم تمت معه، وإنما ظلت تراود كل من يعرفه، أو قرأ عنه.. ترك وراءه سيرة عطرة ..جعلت كل من عرفه يبكي على فراقه.
مسكين يا داوود.. عاش غريباً ومات غريباً.. شخصية فريدة للغاية.. تحمل عيناه حزناً شديداً للغاية ..حزناً غير مفهوم على قدر ما كان يحويه قلبه من حب، وعقله من نباهة وفطنة؛ إلا أنه كان دائماً حزيناً وحيداً، وغريباً.. راح وخد سره معاه.. أخذ حظ الدنيا كله؛ ولكنه ماخدش أبسط حقوقه، وهو حرية الاختيار.. عاش يدور على راحة البال، وحرية الاختيار.. يختار هو بنفسه، ولنفسه.
نهاية غريبة لرجل غريب.. عاش غريباً، ومات غريباً.
★طالبة بقسم الدراما والنقد المسرحي ـ جامعة عين شمس ـ مصر.