مسرح

أسماء حجازي: في” العيال فهمت” سطوة المركزية في مواجهة الهامش.

أسماء حجازي ★

يقول لورد آكتن: “السلطة المطلقة مفسدة مطلقة”    لكل إنسان خلفية اجتماعية ونفسية وثقافية؛ تساهم في تشكيل كيانه ووجدانه؛ تترسخ وتصبح صفات وسمات أصيلة، وتصبح محركاً له ولدوافعه؛ وبالتالي إذا أردت معرفة أي إنسان؛ لابد من النظر إلى بيئته، ومناخ تربيته الذي ينقش ملامح شخصيته؛ فربما ديكتاتور اليوم كان هامش الأمس تم قمعه، وتهميشه وإخراس صوته؛ فحينما يأتي دوره، وتتاح له فرصة الانتقال من الهامش للمركزية؛ من الظل إلى النور يبدأ في فرض سلطاته، ويصبح ديكتاتور اليوم ويتسلم الراية ؛ فالمجتمع الصغير المتمثل في الأسرة من الآباء والأبناء خير مثال في بعض الحالات، والذي كان ركيزة الانطلاق للعرض المسرحي. 

الأبناء

(العيال فهمت ) للكاتبين (طارق علي – أحمد الملواني ) من إخراج (شادي سرور) إنتاج البيت الفني للمسرح- فرقة المسرح الكوميدي، المأخوذ عن الفيلم السينمائي The Sound of music  والحائز على جوائز الأوسكار، والفيلم مستوحًى من مسرحية موسيقية تأليف ( ريتشارد رودجرز- وأوسكار هامرستاين الثاني) والذي تم بناؤه على مذكرات (ماريا فون تراب) لرواية خيالية لتجرتبها كمربية لسبع أطفال، وزواجها من والدهم الكابتن (جورج فون)

الحقيقية أن التاريخ الفني حافل على مستوى السينما والمسرح في طرح تلك التيمة، وإن اختلف التناول 

 Chapter by the Dozen 

بأجزائه – إمبراطورية ميم – عائلة زيزي ) وقدمها المسرح في (إنها حقاً عائلة محترمة – موسيقى في الحي الشرقي ) والكثير من الأمثلة مع اختلاف وتنوع الطرح؛ ولكن تبقي القضية والعقدة الأزلية هنا هي صراع الأجيال( القديم في مواجهة الحديث) 

وتحَكّم السلطة الأبوية، فكما نقول :من يملك يحكم ويصبح اليد العليا، ويفرض قوانينه مع اختلاف الأهداف حتى وإن بدت بها صلاح النوايا، ولكن ليست كل الطرق تؤدي إلى روما؛ ربما تؤدي إلى الهلاك مع غياب وجود الوعي الحقيقي، ومن الأسئلة التي تفتَّقَ إليها ذهني عند مشاهدت العرض 

لماذا ينجب طيار مرموق ثمانية أطفال ؟!

لماذا يطلق على أطفاله كتيبة؟!

هل نحن في الجيش؟!

ولماذا أسماء أبنائه (أيبك- شوكت – قسمت- جودت- عصمت- همت- نعمت – معاذ) ؟!معظمها أسماء جافة وقديمة !

الأب : (عاصم) يعاني من عقد موضاوية ألقت بظلالها عليه، ولم يستطع التعافي منها، وهي سيطرة والده عليه، وقمعه وتهميشه وإجهاض حلمه في التمثيل( أن يصبح ممثلاً) ولكنه أرغم على قتل حلمه، ولم يملك حرية قراره، وتزوج من امرأة صارمة تدعى (معاذ) أنجبت له ثمانية أطفال، وفارقت الحياة، وتركته في مفترق هذا الطريق بمفرده، فتسلم الراية، وأصبح صاحب السلطة المطلقة!

معاذ ( علي شادى) الأب عاصم ( رامى الطمبارى).

وبالطبع مافعله والده تجاهه من ممارسات؛ جعله يفتقر إلى الدفء الأسري، وظن أن مساحته الآمنة في تكوين جيشه الخاص؛ لتصبح تلك الكتيبة متنفساً له للتعبير عن ذاته، وخروجها للنور، وكأنه جواز مروره للحياة، والاعتراف بصلاحية وجوده الذي خلفته آثار الماضي عليه، فهو مبرر منطقي للشخصية؛ لأننا أبناء تجاربنا فيصبح (عاصم) المعادل الموضوعي لوالده الشخصية الغائبة الحاضرة، التي لم نرها؛ ولكننا نرى تأثيرها حاضراً وبقوة، فيستعين عاصم بـ (زكريا ) وهو أحد أقاربه؛ ليعينه على إدارة المنزل، وشئونه وشئون أبنائه في غيابه، فيصبح زكريا في بعض اللحظات بمثابة نافذة الأمل للأبناء يقوم بإرخاء الحِبال التي يقيدهم بها الأب، فيكتشف الأب تلك الكارثة من وجهة نظره بالطبع، فيقرر أن ينحيَ زكريا، ويقوم بالإعلان عن طلب مربية وبعد تقدم الكثير من الفتيات للوظيفة التي ينسجها الكاتبان والمخرج في إطار كوميدي ساخر يقع الاختيار على (نغم) والتي تعتبر نقطة تحول في حياة الأبناء والأب معاً.

الأبناء

تستطيع أن تقول إنها بمثابة نسمة صيف في مكان شديدة الحرارة، قطرة مياه في صحراء جافة، ومن ذكاء المخرج أن ربط دلالات الاسم بدلالات مرئية واضحة في الديكور والإضاءة، فجعل عند دخولها المنزل تضاء سلالم المنزل بالإضاءة مصحوبة بالموسيقى، وكأنها آلة بيانو تعزف أنغامها معلنة عن تغييرات جذرية في حياة تلك الأسرة، وبالفعل تقترب منهم، وتتعرف على همومهم وأحلامهم، وتساعدهم في التعبير عن ذواتهم، والذي يعتبر عصياناً وانقلاباً من وجهة نظر (عاصم) ويتضح ذلك من خلال المسابقة الفنية التي ترغب (نغم) في الالتحاق بها، ولكن من شروط المسابقة أن تتقدم كفرقة، فتكون فرقتها من الأبناء؛ بعد أن عرفوا طريقهم في التعبير لأول مرة !

لقد قرروا أن يهدموا أسوار السجن معلنين على أن الطيور أكثر جمالاً في السماء، وليست وهي حبيسة الأقفاص حتى وإن كان القفص من الفضة يظل قفصٱ في النهاية، ويقررون أن يذهبوا إلى النور، وأن يصبحوا مركزية الحدث، وفي صراع الأب مع ذاته المحمل بالإرث الذكوري يقف حائراً هل يعطيهم حرية قرارهم في التعبير، أم من الأنسب تهميشهم، وقمعهم؛ ليظلوا تحت سيطرته يتملكهم؟!

وينتصر المخرج والكاتبان لأن يجعلوا الأب جزءاً من التغيير؛ لأن التغيير لم يحدث للأبناء فقط؛ ولكنه حدث للأسرة بأكملها. 

حالات الإنكار للآباء 

في كثير من الأحيان تظل الصورة الذهنية المعلقة في أذهان الآباء والأمهات أن أطفالهم يظلون صغاراً بالرغم من تقدم العمر ومرور السنوات، إلإ أنهم لايعترفون في كثير من الأحيان أن (العيال كبرت وفهمت) ويستطيعون أن يُعبِّروا عن مشاعرهم، ويسعون لتحقيق أحلامهم، فنجد هنا (عاصم) يحقق أحلام والده معه في أبنائه، أو ربما أحلاماً فشل في تحقيقها لذاته، فيختار لهم أنشطة ورياضات يزعم أنه تفوق بها دون دليل أو أستدلال واضح يؤكد ذلك!

ويتكرر سؤاله لأبنائه قائلاً: من هو مثلكم الأعلى

فيجيبه الأبناء تبعاً لذلك :حضرتك 

وكأنه يريد إثبات ذاته، ونيل استحقاقه من أبنائه. 

يظل الطفل في نظر الآباء من المهد حتى يصل الستين من عمره طفلاً؛  

فمن النوادر التخلص من هذا الفخ؛ لأنه من جانب آخر حالة إنكار للآباء بتقدم أعمارهم في بعض الأحيان. 

عاصم (رامي الطمباري)، نغم (رنا سماحة).

 الرؤية الإخراجية ( لشادي سرور)

منذ البداية تستطيع أن ترى بوضوح وعي المخرج ورؤيته في طرحه لتيمة لم تكن جديدة؛ ولكنه أكسبها صفات جديدة؛ لأنها صالحة لكل زمان ومكان؛ فهو يمتلك أدواته الإخراجية بإتقان شديد؛ بالإضافة إلى موهبته وخبرته الكبيرة التي تتلمسها، وترى بصماتها في كل عنصرمن العناصر، فهو يُولي اهتماماً كبيراً للممثل فلا تجد عنصراً سقط منه سهواً، أو تم إغفاله. 

يحب مايعمل، ويخلص له فيستغل خشبة المسرح بوعي ويحرك مراكز القوة بها في رسمه لخطوط الحركة الإخراجية بإبداع، ويحسب له اختياره للنهاية أن يجعل (عاصم) في المشهد الأخير بين الجمهور في صالة العرض، معطياً دلالات مهمة بتلك النقلة؛ لأن الإنسان بطبيعة الحال حينما يكون جزءاً من تكوين الصورة لا يستطيع أن يرى بوضوح، وربما يكون حكمه غير صائب؛ ولكنه حينما ينظر إليها من الخارج؛ ذلك يتيح له الفرصة لاتساع زاوية رؤيته، ومن جانبٍ آخر جعله بين صفوف الجمهور؛ ليعطي رسالة لهم أن ينظروا إلى أبنائهم في تلك اللحظة، وهي حينما كان الأبناء يحققون حلماً من أحلامهم، 

بالإضافة إلى تجنبه الخطابية المباشرة، وذكاء المخرج عندما جعل (نغم) تجلس على مقعد (الأم) الذي لم يجلس عليه أحد طوال العرض ولكن بعد رضا الأبناء عنها جلست مكانها؛ ولكن المخرج لم يذهب لوقوعها في حب الأب والزواج منه، ولكنه أكسبها صفة ذات ثقل أن تساهم في التغيير دون مكتسبات تعود عليها. 

زكريا مع الأبناء (عبد المنعم رياض)

ثنائية لمنهجين مختلفين 

(عاصم) والذي قام بأدائه (رامي الطمباري) ممثل من العيار الثقيل بأداء بديع وثقل وتنوع في الأداء ووعي بطبيعة الشخصية؛ ينسج كوميديا بإمضائه لأن طبيعة تلك الشخصية تتحكم بها الرقابة الذاتية الشديدة فلا يمكن أن تخرج منه كوميديا فارس، أو يذهب إلي الساركازم؛ ولكنه جعل الكوميديا تتوافق مع طبيعة الشخصية، ولأن الكوميديا تم صنعها من قلب الدراما إما (من سوء الفهم) أو( كوميديا الموقف) فجعل لنفسه أداءً بدنياً وصوتياً خاصاً يوافق ماتم نسجه بإحكام وحرفية عالية.

(زكريا) والذي قام بأدائه (عبد المنعم رياض) ممثل من طراز خاص يحمل عبق وتاريخ فنانين مؤثرين أمثال (عبد المنعم إبراهيم) يمتلك تلك الروح ببصمته الخاصة، التي تجعلك من إتقانه وموهبته الكبيرة لاتشيح ببصرك عنه ولو للحظة واحدة، اِستطاع أن يصنع من شخصية (نمطية) يمكن أن تمر مرور الكرام شخصية لها مقومات ونسيج أكبرمن الشخصية في ذاتها فلا تستطيع تخيل العرض بدونه وهو مايحسب له ولملكاته المتعددة، وذكائه في صناعة الكوميديا وخفة ظله الربانية، بالإضافة إلى الكيميا بينه وبين شخصية (عاصم) فهما قطبان لمنهجين مختلفين في الأداء التمثيلي، كل بمذاقه الخاص به.

(نغم ) والتي قامت بأدائها (رنا سماحة) تمتلك صوتاً عذباً فلا غبار عليها كمطربة إلى جانب اجتهادها ولكنها كممثلة تحتاج إلى تدريب 

خاصة أن الغناء مسجل (بلاي باك) لم يكن المخرج بحاجة ضروية للاستغناء عن المهارات التمثيلية. 

مجموعة الأبناء 

(محمد علي – جيسي أسامة – أحمد هشام – رحيم رزق- ندى محمد – روضة عز العرب – علي شادي – نور شادي)

جميعهم ممثلون جيدون يمتلكون الكثير من المهارات التمثيلية بتفاوت خبراتهم وتنوعهم؛ ولكنهم روح العرض وطاقته المبهجة، خاصة (علي شادي) رغم صغر سنه إلا أنه يمتلك موهبة وحضوراً تذكرك (بأحمد فرحات -أحمد عبد الله نصر) ولكنه يمتلك شخصيته الخاصة. 

أما (نور شادي) فهي ممثلة تمتلك أداوتها، ولديها حضور وكاريزما خاصة بها؛ لم تكن المرة الأولى التي أشاهدها بها؛ فعند مشاهدتي لها في (أنوف حمراء) كان أول رد فعل لي : من تلك الممثلة التي تمتلك الموهبة والصدق في الأداء، وحينما ترقص تراها ترقص بروح الراقصين متحررة من القيود الجسدية والمكانية ترقص بشغف 

و(محمود الهندي) بخفة ظل ورشاقة في الأداء ترك بصمته في دور مصمم الأزياء. 

و(إيهاب شهاب) فى دور الجار، اِستطاع أن يخلق أجواء لطيفة بما تسمح به تلك المساحة. 

(رانيا النجار -أميرة فايز – سعيد محمود) أضفوا روحاً مبهجة على العرض بأداء رشيق؛ كل حسب دوره.

كل تلك العناصر تناغمت وتضافرت في (ديكور) معبر عن الدراما ويخدم رؤيته لمصممه الدكتور حمدي عطية (السهل الممتنع) وبحرفية وإتقان دون أن يزعجك بزحمة التفاصيل بصرياً التي في معظم الأحيان تخدم جماليات الصورة فقط؛ ولكنه أيضآ حافظ على جماليات الصورة وتفاصيلها للمنزل (فيلا) ذات مستويين مستخدماً دلالات بصرية تخدم رؤية المخرج بوابة المنزل( بوابة تفتيش إلكترونية- بالإضافة إلى وجود ساعات على الحائط التي تحمل توقيتات الدول، والتي تراها بالمطارات؛ بالإضافة لبراعته في الاستفادة من المساحات مع ثبات المنظر (شباك يرفع لنشاهد غرفة الأبناء تستخدم للتمثيل أعلى يمين المسرح، وعندما تغلق تجد انه رسم عليها خريطة العالم ) مجموعة من الصور للأب تم توزيعها على الحوائط تتصدر العمق وإلى جوارها صورة للأم على نفس المستوى يسار المسرح) ثم يجعل في مشهد مواجهة الأب لذاته أن ترفع الغلاف على الحائط، فترى صور الأب، ثم تصبح صوراً مضللة باهتة.

يدلل على أن البيت مطار، فتجد مقعداً متحركاً للطعام (مقعد الطيارة) 

جهاز تفتيش يدوي – مأدبة تمتد على حدود البصر وكآنهم بالفعل كتيبة بالجيش في غرفة التعيين يتناولون الطعام – كل تلك الدلالات تراها فى (الأزياء) لمصممتها ( شيماء محمود) التي برعت في تصميم الأزياء لجميع الشخصيات، ويتضح ذلك في ملابس الأطفال (في وجود الاب) يرتدون ملابس طيار ومع إضافة لمستها في التصميم. 

الأشعار (لطارق علي) جاءت معبرة، وتحمل معها الآمال 

ونسجها (أحمد ناصر ) بموسيقاه وألحانه البديعة 

 والكيروجراف (دارين وائل) بتصميم أضاف طاقة وبهجة للرؤية 

وتنوعت الإضاءة (لمحمود الحسيني ) وفقاً للمواقف والأحداث الدرامية .

 وتنتهي الأحداث في كوميديا موسيقية استعراضية صنعت بإحكام معلنة عن ولادة آمال جديدة في الأفق، وميلاد جيل يعبرعن أحلامه كما نقول: لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال ، وإذا أردنا جيلاً من الأسوياء بجب أن نصادقهم، ونعطيهم مسئولية اختيار قرارهم. 


★ ناقدة ـ مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى