رأي

طارق بن هاني: ماذا أرادت “الأرضة” أن تقول عن “توم سوير” وعني ؟

طارق بن هاني ★

عدت إلى صلالة، بعد غياب اتَّصل لسنة تقريبًا، وبعد أن وصلت إلى منزلنا، وعلمتُ من شقيقتي أنّ الأرضة قد التهمت بعض كتبي، هرعتُ معها إليها، لأقفَ على المصيبة، تماسكتُ، ولم أتوقّع أن أكون هادئًا – ولو مع نفسي – إلى الحدّ الذي سيجعلني أكتفي بالتساؤل: “ماذا أرادت الأرضة أن تقول؟”

لقد عبثت الأرضة ببعض الكتب وربما أقلَّها، واكتفت من ذلك القليل بالتهام الأطراف فقط، ومنها: بعض “روايات أجاثا كريستي”، و”رواية الباغ؛ لبشرى خلفان”، و”رواية كل الأشياء؛ لبثينة العيسى” و”مناهج النقد المعاصر؛ لصلاح فضل”، و”معجم المصطلحات الدرامية؛ لإبراهيم حمادة” وغيرها…، إلا كتاب واحد أتلفت أطرافه وأمعنت حتى وصلت إلى أجزاء من متنه. إنه “مغامرات توم سوير- لمارك توين، طبعة: تكوين والرافدين” تلك الرواية التي ظلت في الرفّ، حوالي 4 سنوات، لم أقرأها أبدًا، فصرت إلى سؤال أكثر تحديدًا، “ماذا أرادت الأرضة أن تقول عن توم سوير تحديدًا؟”
لقد قال الحدث كلّه: “إن الهجرَ، في ذاته، جفاءٌ تمرض بطول مدّته حتّى الجمادات، فالبيت الذي يُهْجر، يفضي إلينا بشيء كلما زرناه زيارة خاطفة، تجده يعلن حزنه، فإمّا أن يسقط جزءًا صغيرًا جدًّا من بعض أسقفه، أو يرسم شقًّا سطحيًّا على حائطٍ ما ليزداد غورًا كلما ازداد الهجر طولاً، أو يعلن عن سرقةٍ قد حدثت لبعض الأمتعة الهامشية التافهة، أو ينذر أحضانه للفئران والسحالي والصراصير والأرضة!”

مغامرات توم سوير، التي صدرت عام (1876)، مثّلت – بالنسبة إليّ – نموذجًا للأدب الذي سيتسم بأصالة خاصّة – فقط – إذا ما قُرئ بشرط الإخلاص لقوانين إنتاجه، وقد يبدو ساذجًا وسطحيًّا إذا ما أهدرتْ تلك القوانين الداخليّة. فلم يكن غياب بعض الكلمات التي أكلتها الأرضة مُعيقاً – بأيِّ شكلٍ – للمعنى، فقد فاقت أهميّة السّياق، أهمية الكلمات، وهذا يعني أنّ الرواية وإن مثّلت انبثاقاً (خاصًّا) بالزمن والمكان الذين يعودان إلى 148 عاما إلى الوراء، فقد احتفظت لنفسها بحضورٍ (عامٍّ) إلى يومنا هذا. خلافًا لما ستعلنه الرواية في عقودٍ لاحقةٍ من صدورها. ولقد كان الطفل بطلًا، بل كانت الطفولة كلّها محورًا تدور حوله كل الحقائق، ولقد عبّرت تلك البطولات المتعدّدة عن الطاقات الصامتة وراء ذلك الكائن الذي حُصرَ بين ملائكيّة، أو شيطانيّة (مجازًا) مطلقتين، فجاءت الرواية ناطقة بصوت ذلك الكائن العاديّ من جهة والذكيّ والمشاكس من جهة والهامشيِّ أيضًا من جهة ذلك الذي يُسمَّى طفلًا – توم سوير، إن الطفل هو أكثر الكائنات التي تتطلّب كشْفًا وتواضعًا أمام طاقاته.

إن ما فعلته الأرضة هي أنها دعتني إلى اكتشافِ روايةٍ، تكشف عن طفلٍ اسمه توم سوير، وعن طفلٍ في داخلي، وعن إنسانية مسكونة بالطفولة ومحاولةً تهميشها ربما لأنها توحي إليها بالمشاكسة التي صارت مستحيلةً، والرواية ذاتها كشفت عن ذاتها، رغم أنّها لم تكن مجهولة بعد أن حضرت في أدب الطفل العالميّ، حضورًا كثفه نقلها إلى التلفزيون، والسينما، فمن منَّا لا يتذكر مسلسل “مغامرات توم سوير”؟
وعلمتني الأرضة، وعلّمني توم سوير أنّ الخروج عن الأطر – كما عبر عنه توم سوير وهاك – وكما علّمني مارك توين نفسه، إلى تجارب خاليةٍ من الضَّمانات، واكتساب لياقة التكيّف مع طوارئها التي تطرأ في غفلة منا، أمرٌ لا بدّ منه، لقد تعلمت ذلك في ظرف كنت أحتاج فيه إلى مثل هذا التمرير الذكيّ للبديهيات التي تتطلبها حياة شابٍّ – عربيٍّ – مثلي.

مارك توين

وعلمتني أن امتلاك الشيء لا يعني الاستفادة ممَّا فيه، فمن أعظم الأمراض التي ترتبت على حضارة الاستهلاك التي ننتمي إليها، هو الرغبة في الامتلاك لا الاستفادة، فقد يمتلك أحدنا مئات بل آلاف الكتب، متوهمًا الاستفادة، لكنّه لا ولن يحمي ممتلكاته من الهجر، طال أو قصر، إنها تنسينا محدوديّتنا، وضعفنا الجبلي، وتجعلنا نتوهّم أن في وسعنا تحقيق كل شيء، وهي بذلك تلهينا عن الأشياء القليلة التي علينا أن ننفق من أجلها كثيرًا من الوقت والاهتمام!

ولما حضرت الأخطاء اللغويّة، في الرواية، حضورًا بدا غريبًا، تفهّمتها، فتعلمت التفهّم أيضًا، وربما تفهمتها حينما كانت المحصّلة / الدروس النهائية هي شاغلي، إنّ الكلمات وسائل، جُعلَتْ – الآن – غايات، لقد كانت اللغة – في ترجمة جهاد الشبيني – صديقةً للقارئ ولم تكن تتحدّى صبره، أو معجمه. أتساءل: هل الالتواء في اللغة يصلح دائمًا لكلِّ زمان ومكان ولكل ثقافةٍ وأمةٍ وإنسان؟ أتساءل: ألسنا أمة البلاغة التي تقتضي “مطابقة الكلام لمقتضى الحال”؟

لقد عبرت الرواية – كشأن الأدب الخالد – عن كل إنسانٍ، يمكن أن يقرأها، على اختلاف العصور والأحوال، فجاءت مطابقة – فيما أدعي – لمقتضى كل الأحوال، ومن بديع ما جاء فيها وصفا لصيرورة تكون الأعمدة بفعل قطرات / قطرة الماء في الكهوف: “كانت تلك القطرة تتساقط عندما كانت الأهرامات لا تزال جديدة، وعند سقوط طروادة، وعندما أرسيت قواعد روما، وعندما صلب المسيح، وعندما أسس الغزاة الإمبراطورية البريطانية، وعندما أبحر كولومبوس…” نعم لقد انتصر الخير في آخر المطاف، ولكن ليس على نحو جيّر فيه الروائيّ حدثه لكي ينصر الخير، بل انتصر الخير دون أن ينتصر له الروائيّ.
ويلحّ السؤال: “ماذا أرادت الأرضة أن تقول؟”


★كاتب-عمان.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى