رواية

شيماء مصطفى: “القندس” لمحمد حسن علوان.. ماذا لو كنت قندسًا؟!

شيماء مصطفى ★

تدور رواية القندس، الصادرة عن دار الساقي، لمحمد حسن علوان حول شاب يدعى غالب يترك الرياض في رحلة سياحية متوجهًا إلى بور تلاند، بغرض الترفيه، وليتناسى ذكرياته في الرياض، ولكن يحدث هناك ما لم يكن في الحسبان.

التصدع الأسري

بمحاولة سردية قامت على تقنية السرد الاسترجاعي (الفلاش باك ) ، ومن خلال 40 فصلًا، 319 صفحة،  نجح محمد حسن علوان  في عقد موازنة موضوعية بين السلوك  الحيواني للقندس والسلوك الإنساني لعائلة غالب،  التي تعاني من تفكك أسري أثر على البنية الاجتماعية لهذه العائلة، فأحدث هذا الخلل نوعًا من التصدع، وهو النقيض التام لما يقوم به حيوان القندس المنتمي لفصيلة القوارض،والمعروف ببراعته الهندسية في بناء السدود، وبناء البيوت من الأخشاب تحت الماء لتقيه هو وأسرته من الأعداء.
فالقندس الصغير أفضل من غالب كونه نشأ في جو أسري مستقر.

«روحت أتفرج على القنادس وهي تبني السد، وتصارع النهر، وترعى صغارها،.. »
ولكن لأن معرفة غالب بالأشياء، ظاهرية، تعلم بالصدمة بمساعدة حارس الحديقة ألا يصدر أحكامًا مطلقة.

«أخبرني دون اهتمام أن القنادس تتصرف بألفة أحيانًا، ولكنها تظل شرسة في الغالب»
« لماذا لا يجب أن أثق بعائلة من القنادس، في مدينة ليس فيها نهر»

سرد ذاتي ممنطق

استخدم محمد حسن علوان في رواية القندس الضمير السردي أنا، ليؤكد على فردية الطرح، فربما ما يعاني منه غالب بطل الرواية لا يعاني منه أحد غيره، فليس بالضرورة كل أبناء الطلاق  يعانون من التمزق والشتات، وليس كل الأباء بارعين في إحكام السيطرة.

كما أن لجوء محمد حسن علوان في القندس إلى السرد الذاتي بدا النص من خلاله كنص شعري  يعبر علاقة الراوي غالب بالحياة والأشياء والطبيعة، وذلك بفلسفته الخاصة عن همومه وأحزانه.

وعلى مستوى  الحوار فرغم الإسهاب إلا أنه جاء معبرًا عن أيدلوچية الشخصيات، وما يدور في دواخلها من مشاعر وأفكار، فلم تعتمد القندس على السرد والوصف فقط، بل تم توظيف الحوار بشكل يتلائم مع الحبكة.

ولهذا كان الراوي في القندس أكبر من الشخصية الحكائية في العمل والمتمثلة في غالب، فهو يصل لكل المشاهد، ويدرك ما يدور بخلد الشخصيات، الأب، الأم، نورة، بدرية، غادة، غالب.

القحط العاطفي

عانى غالب من مشاعر الاحتياج العاطفي، فبدت أسرته وحبيبته غادة كصحراء قاسية، ولهذا وحين ذهب إلى بورتلاند تمنى لو اختفى هناك وسط غابات أوريغون، ولأن ما نتمناه غالب لن يحدث في الواقع، لجأ  إلى الخيال كحيلة تعويضية، فتخيل الجميع يعانون إثر اختفائه

« تحتاج الرياض لحوداث ومستشفيات حتى تكشف مشاعر  الذين يحيطون به».

سائح أم عالم؟

خرج غالب من الرياض متهجًا إلى بورتلاند وهي من أكبر مدن ولاية أوريغون الأمريكية،  وتقع عند التقاء نهر ويلاميت ونهر كولومبيا، قاصدًا الترفيه، لكنه دون أن يشعر ومن خلال التأمل للطبيعة نسى تمامًا سبب زيارته للمدينة وتحول لمراقب للطبيعة وللقنادس على النهر، ولأن الماضي والعائلة بداخله ودون أن يشعر أيضًا عقد عدة موازنات بينهم وبينه، فصار القندس صديقًا حميميًّا له، وتغيرت مفاهيمه عن الأشياء.

« كتوأمين جمعتهما الأقدار صدفة، ونحاول أن نختار من حكايتنا أقربها نسبًا للنهر»

علاقات مضطربة

تختلف كثيرًا  أم غالب عن الأمهات المتعارف عليهن، فقد أرضعت ابنتها بدرية بداية من شهرها الرابع،  وفصلت غالب في شهره السابع
« هكذا كان الحليب الذي صبته أمي في جسد بدرية متأخرًا، والذي صبته في جسدي مستعجلًا»

فالأم ووفقًا للأدوار الفطرية لم تقم بدورها بشكل يشبع صغارها، ولم يقتصر الأمر على الجوع الغريزي بل تجاوز الأمر حتى امتد للجوع العاطفي، وبمرور الوقت الخلل الأسري، رغم أن غالب كان يقول أن الإنفصال بينهما – الأب والأم- أشبه بوثيقة سلام لا خلل.

وهذا لا ينفي الخلل، بل يؤكد أن الطلاق العاطفي سبق الطلاق الفعلي بسنوات.

لعبت التشبيهات دورًا كبيرًا في القندس لمحمد حسن علوان  في توضيح هذا الخلل فنجده
« كانت أمي القندس الوحيد الذي شذ عن العائلة فملأنا فراغها بالأخشاب والأحزان الميتة».

وبخصوص اضطراب شخصية الأب والتقبل المشروط للآخر  فأكد محمد حسن علوان أن أزمة عبد الرحمن والد غالب تجاوزت التفريق بين الأبناء وسوء معاملته وتعنيفه المستمر لغالب، فامتد الأمر إلى حفيده، حيث لمح لابنته بدرية وزوجها أن يغيروا اسم ابنهما حين لاحظ أنه منغولي، فلا يريد أن يكون حفيده المنغولي يحمل اسمه، فأصبح الصغير هيثم بدلًا من عبد الرحمن.

استطاع علوان بواقعية شديدة أن ينقل لنا نموذجًا متكاملًا عن عقوق الوالدين للأبناء، فيقول على لسان غالب:

« كان بيتنا سدًا ينقصه النهر»

أما عن العلاقة المبتورة بغادة، فكما وصفها محمد حسن علوان «نصائحها مشتقة من مخاوفها» حيث حاولت غادة أن تتخلص من مخاوفها بإسقاطها على غالب، تنهال عليه بالنصائح التي تتناقض مع أفعالها معتقدة أن غالب ليس له من اسمه نصيب، فكما يهزمه والده بأحاديثه دون أن يترك له الحق في الرد والدفاع، وكما تتقاذف عليه دعوات أمه ككرات النار، حاولت غادة وكأنها على يقين بقدراتها على معرفة نقاط ضعفه أن تظفر هي الأخرى ويتحول غالب على يدها إلى مغلوب، ولكن غالب الذي استخف به الجميع، متفقين جميعًا على خوائه الداخلي، لم يعرفه الجميع حق المعرفة، لا الأب، ولا الأم، ولا غادة، فهو كما يرى نفسه:
«كلامي الذي يسقط في النهر يشبه لقاح الأشجار، يحمل  في داخله نية الحياة، …»
لم يكن غالب وحده من يعاني فقد كان فيصل مثله، فكما وصف غالب أمومتها قاهرة، فعبر عن شخصيته الرخوة بالاستعارات،  ولهذا كانت الأم قاسية كالأصداف، فعانى غالب وبدرية، وفيصل جراء هذه القسوة من انخفاض تقدير الذات، مما أحدث العديد من المشكلات في علاقاتهم بالمستقبل، فحتى في لحظات الدفء الأمومي نبذته بما يكره من ألقاب.

«لم تكن  قريبة مني كأم كاملة،  ولكنها لم تكن قاسية كزوجة أب»
كما جمعت الرواية بين الواقعية الاجتماعية لأسرة غالب التي تعيش في الرياض، والرومانسية التي به شيئًا من تهور واندفاع المراهقة من خلال علاقة غالب وغادة.
شكل الأب مع الجميع دور المحرك لعرائس الماريونت بدا ذلك في اختيار زوجته الجديدة، وابنه غالب، أتقن دور المسيطر، وكتاجر يتعامل مع كل شيء بمقياس المكسب والخسارة يقول عن زوجته الجديدة:
«اخترتها صغيرة حتى لا تحاصرني بأسئلة أكبر مني ولا يمكن إجابتها»

وشكل السد دلالة رمزية متعددة التأويلات، فالسد الذي تقيمه القنادس على النهر لحمايتها، غير السدود التي يقيمها المحيطين بغالب لتشكل هالة حولهم وتبقيهم في عزلتهم الداخلية.
فالسد الذي يقيمه القندس دافعه الحماية، والسد البشري دافعه الخوف.

محمد حسن علوان.


فازت النسخة الفرنسية من رواية القندس بجائزة معهد العالم العربي في باريس كأفضل رواية عربية مترجمة للفرنسية في العام 2015، في حين وصلت الرواية إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2013.
لمحمد حسن علوان العديد من الروايات أبرزها: موت صغير، صوفيا، طوق الطهارة، سقف الكفاية.


★سكرتير التحرير.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى