رأي

د. سعداء الدعاس: عبد العزيز السريّع، في أبهى حالاته!

د.سعداء الدعاس★

أن تلتقي بقامة كبيرة مثل الكاتب “عبدالعزيز السريّع”، فتلك مُتعة بحد ذاتها، وأن تستمع لحديثه العذب؛ فالمتعة هنا مضاعفة بلا شك، أما وأن تُصغي له، وهو في أبهى وأجمل حالاته، فتلك حكاية أخرى!

ذلك هو الشعور الذي غمرني، وأنا أصغي باستمتاع كبير، للحوار الذي أجراه متدربو ورشة “إعداد وإقامة حلقة حوارية”، يوم الثلاثاء الماضي، بإشراف الإعلامية “نادين مجذوب”، ضمن برنامج “الجوهر” الذي تُشرف عليه (لابا) للفنون الأدائية ضمن مؤسسة (لوياك).

اللقاء الأكثر حميمية في مسيرة “السرّيع”!

حين فكرنا – علاء وأنا – بتلبية دعوة “الجوهر”، لحضور اللقاء، كنا نسعى لرؤية العزيز (بو منقذ) لاشتياقنا له، ورغبة منا في تشجيع بنتينا العزيزتين منيرة العبدالجادر، وجوري العازمي، ومساندتهما في تجربتهما الأولى في الحوار الإعلامي، بالإضافة للقاء بالصديق العزيز، المخرج المسرحي دانيال الخطيب، الذي وصل للكويت مؤخراً، قادماً من الإمارات حيث يقيم؛ ليشارك في أنشطة لوياك.

لكن حين وصلنا، اِكتشفنا أن الأمر فاق ذلك بكثير! فما إن بدأ الحوار، حتى وجدتُني أحلق في فضاء من الشفافية، والمشاعر العفوية، والذاكرة المُشبعة بالحب والألم، دون تشذيب أو تجميل!

كان لقاءً مميزاً، بعيداً عن الرسمية… يمكن وصفه بـ “الأكثر حميمية” في مسيرة الكاتب القدير عبدالعزيز السرّيع، حيث تمكَّن فيه متدربو الورشة، من تحفيز “السرّيع” لاستدعاء الذكريات الجميلة، والبوح بآرائه وأفكاره وطموحاته، بأريحية كبيرة، دون قيود، وأعتقد أن تفاوت المتدربين في السن، والانتماء، والتخصصات، أسهم في تلك “الحميمية”!

أقيمت الورشة في إحدى قاعات فندق (فوربوينتس شيراتون)، ضمن أجواء محفوفة جداً، ولعل ذلك كان أحد أسباب نجاح اللقاء، حيث لم تخضع الأمسية للجماهيرية المُربكة بالنسبة لمتدربين جدد، بعضهم يقف أمام الميكرفون لأول مرة.

دُعي للقاء عدد محدود من الضيوف، أولهم عائلة “السرّيع”، التي أحاطت به بكل حب وفخر، وبحضور المتدربين وعائلاتهم، والمُعد في تلفزيون الكويت، ابننا الناقد الشاب يوسف العصفور (محرر نقد X نقد)، والكاتب والناقد علاء الجابر، وأنا، بالإضافة لعدد من أعضاء مؤسسة لوياك والقائمين عليها؛ فارعة السقاف، التي تحضر دائماً بروح الضيفة لا صاحبة المكان، متفاعلة مع الحدث والحضور بابتسامة وود كبير، والدكتور خليفة الهاجري، الذي يحرص على استقطاب المتدربين المميزين، ولولا تواصله معي لما شاركتْ منيرة ومن ثّمَّ جوري بالورشة.

السريع مع أحفاده.

نادين مجذوب تقود متدربيها إلى بر الأمان

كانت البداية مع أسئلة ابنتي الذكية منيرة العبد الجادر، محررة مجلة (نقدXنقد) خريجة قسم النقد والأدب المسرحي، في المعهد العالي للفنون المسرحية، التي تغلبت على ارتباكها بعد أول عبارة نطقت بها، رغم أنها أصغر المتدربين سناً، فكانت تسأل باتزان وهدوء كبيرين، مبحرة في عالمه المسرحي الذي يُحب، والذي ترك أثراً لدى المتلقي إلى اليوم، فجاءت الأسئلة رصينة وواعية، جعلتني فخورة بابنتي؛ التي ظللتُ أتابعها تتطور منذ أن التحقت بالمعهد إلى اليوم.

مع منيرة العبد الجادر.

اِنتقلت الأسئلة بعدها إلى لبنان (عبر برنامج زوم)، حيث شارك المتدرب عبد الحميد إسماعيل، الذي اتضح من خلال طلاقته في الحوار، تمرسه في العمل الإعلامي، ومن ثَمَّ شاركت من عُمان (عبر برنامج زوم)، الفنانة التشكيلية مريم محمد الحضرمية، والتي تناولت المسرح من زاويته السينوغرافية، بما يتسق واهتماماتها، معبرة بلغة واضحة وابتسامة جميلة، عن شغفها بالصورة؛ لتأتي بعدها المثقفة الصغيرة “جوري العازمي”، الفائزة بتحدي القراءة على مستوى الكويت، وخريجة الخدمة الاجتماعية في جامعة الكويت، والتي سلبت القلوب بإلقائها المُميز، وثقتها العالية؛ حيث انتقلت بدفة الحوار باتجاه مُغاير، خشية تكرار الأسئلة، فتناولت علاقة السرّيع بالقراءة؛ العشق الأول لكل مثقف حقيقي، فكانت إجاباته مُبهجة؛ كمن يتحدث عن حبيبة لا كتاب!

مع جوري العازمي.

ومن ثَمَّ جاء دور آية البيطار، التي حاولت كسر خجلها وهدوئها بأسئلة عامة في بداية الحوار، إلى أن انطلقت لاحقاً عبر أسئلة تتعلق بالواقع المسرحي الكويتي، أما مسك الختام فكان مع دانيال الخطيب، خريج التمثيل والإخراج المسرحي، في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، وأحد المُدربين في لوياك، حيث أهلته خبرته لنبش جوانب جميلة في شخصية “السرّيع”، عبر أسئلة مؤثرة؛ تناولت مراحل مهمة من حياته.

أدارت الحوار بسلاسة، مُشرفة الورشة، الإعلامية “نادين مجذوب”، فسيطرت على متدربيها بانسيابية وهدوء دون استعراض أو مبالغة؛ بل إنها حرصت على عدم سلب الأضواء من متدربيها بأسلوب ذكي، يدلل على خُلقها، وحرفيتها العالية.

المدربة نادين مجذوب مع عبد العزيز السريع.

حديث لامس الروح.. وعلاء!

استطاع “السريّع” أن يحوز على اهتمامي واهتمام الحضور طوال اللقاء، بل إنه لامس قلبي في الكثير من إجاباته، لعل أكثرها تأثيراً تلك التي أشار فيها لعلاقته بصقر الرشود، وتأثره بوفاته المفاجئة، بتفاصيل أسمعها للمرة الأولى، واستمتعتُ كثيراً بحديثه عن دور عائلته في حياته، وأثناء فترة علاجه، وتوقفه عند دور زوجته تحديداً في جميع مراحل حياته؛ كما تألق كثيراً عند حديثه عن علاقته بالقراءة، وتأثره بكتب بعينها، لها ذات الأثر في نفسي، وكم تألمتُ لكلماته المؤثرة بشأن انقطاعه عن الكتابة، وندمه على خطوة التوقف عن ممارسة شغفه لأهداف فنية بحتة، ورغبة منه في عدم تكرار كتاباته؛ لم يكن يعرف حينها أن ذلك القرار (الاختياري) سيكون سبباً (قسرياً) للتوقف عن الكتابة، وإلى الأبد!

فاجأني “السريّع” حين جاء على ذكر “علاء الجابر” لأكثر من مرة في حديثه، بأسلوب عذب يُدرك معه المتلقي مدى عمق العلاقة بينهما، حيث أشار لتواصله معه أثناء رحلة العلاج والإيجابية التي كان يبثها علاء في رسائله له، كما أشار للعلاقة بين الجابر والمسرح، مؤكداً “علاء الجابر.. هذا عاشق حقيقي للمسرح”، وقد صدق، بالإضافة إلى إشارات أخرى عديدة، أثرت بي كثيراً!

السريع يتوسط الجابر والدعاس.

ليلى أحمد كانت حاضرة أيضاً!

من بين المحطات التي تنقل فيها الحوار، تحدث “السريّع” عن رأي الناقدة “ليلى أحمد” في مسرحيته (الثمن) عند إعادتها على مسرح مركز جابر، قالها بابتسامة جميلة: “ليلى أحمد صلختنا”، ولكنه أضاف بوعي كبير: “لكني متفق مع ما قالت”، فكم كانت جملته تلك رسالة عظيمة لكل مزيف لا يحتمل الرأي الآخر، ودلالة مباشرة على أهمية الناقد، وقيمة النقد الجريء.

ليلى أحمد.

ورداً على سؤال خاص بالرقابة، أشار “السريّع” بذكاء شديد، إلى أن الرقابة في السابق كانت واعية جداً، يقودها مثقفون لا موظفون، ليست كالآن، في إشارة واضحة ومباشرة للوضع المتردي اليوم بمعية الكثير من أعضاء الرقابة؛ الذين لا علاقة لهم بالمسرح، وأحيانا كثيرة لا علاقة لهم بالثقافة أساساً!

بعد ساعتين، اِنتهى اللقاء، دون أن تتسرب إلينا لحظة ملل واحدة، ودون أن يتذمر “السريّع” من أي سؤال، فكان يجيب بروح الأب الحنون، يُشجع هذا المتدرب، ويشد على يد تلك المتدربة، ويُثني على التقاطاتهم ومحاولاتهم، بمفردات محسوبة، دون مجانية مفرطة.

اِستمرت المتعة لما بعد اللقاء، حتى عند التقاط الصور، حيث استقبل “السريّع” الجميع، دون استثناء، مُرحباً بهم بابتسامته وهدوئه الجميل، ومستلماً الدرع المميز من “الجوهر” والذي يحمل في داخله (مرآة) للتعبير عن المعنى الحقيقي للبرنامج.

السريع مكرماً من فارعة السقاف.

شكراً “الجوهر”..شكراً لابا!

كان لقائي الأول بميا مبارك – المنسق الإداري لبرنامج الجوهر- أثناء عرض “بروفة الجدار” الذي أقمناه على مسرح لوياك قبل عام، فاجأتني حينها بقراءتها لروايتي “لأني أسود” حين كانت مراهقة في الرابعة عشرة من عمرها، كانت عيناها تلمع، وهي تتحدث بشغف عن الرواية، لم أكن أعلم أن تلك الجميلة الشغوفة، ستساهم في صناعة يومي بعد عام من لقائنا ذاك، عبر هذا الحوار المُغاير مع قامة من قامات المسرح الكويتي!

خًرجتُ من اللقاء مدثرة بالبهجة، وأنا أرى خاتمة مميزة لذلك اليوم المميز في حياتي، حيث قضيتُ النهار كله مفعمة بالسعادة والامتنان لله عز وجل؛ بعد أن أنهت ابنتي الحبيبة “سماء” آخر اختباراتها في الثانوية الفرنسية، صباح يوم الثلاثاء، بعد مشوار دراسي طويل ومرهق، سبقها فيه أخيها الحبيب “الفارس”، لتأتي دعوة “الجوهر” وتختتم اليوم ذاته بتلك الأمسية البهيّة، مع كاتب مميز، كان في أجمل وأبهى حالاته!

السريع وخلفه من اليمين إلى الشمال منيرة، آية، فارعة،نادين،جوري ، الخطيب.


★مديرة التحرير.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى