شعر

أحمد كرماني: رمزية الأنثى في ديوان “من أحوالها ” لمحمد عبد الستار.

أحمد كرماني★

إِنِّـي أَلُـوذُ بِـشِـعْـرِي حِـيـنَ يَطْرُقُنِي مِــنَ الــطَّــوَارِقِ نُــزَّالٌ وَضِــيــفَـانُ
والـشِّـعْـرُ مِنْ نَفَسِ الرَّحْمَنِ مُقْتَبَسٌ وَالـشَّـاعِـرُ الْـفَـذُّ بَيْنَ النَّاسِ رَحْمَانُ
وَالـشِّـعْـرُ أَلْـسِـنَـةٌ تُفْضِي الْحَيَاةُ بِهَا إِلَـى الْـحَـيَـاةِ بِـمَـا يَـطْـوِيـهِ كِـتْمَان
لَـوْلَا الْـقَـرِيـضُ لَـكَـانَـتْ وَهْيَ فَاتِنَةٌ خَـرْسَـاءَ لَـيْـسَ لَـهَـا بِـالْـقَـوْلِ تِبْيَانُ
مَـا دَامَ فِـي الْكَوْنِ رُكْنٌ لِلْحَيَاةِ يُرى فَــفِــي صَـحَـائِـفِـهِ لِلـشِّـعْـرِ دِيـوَانُ
العقاد: الشعر
مفتتح :
    التراكيب الشعرية أجسام، في نسجها وسبكها المتقن تحل أرواح،  لمن يصغي إلى حديثها مستنطقا سرها الخبيء ، والحق أن في ديوان ” من أحوالها ” من النسج الشعري المطرز بجماليات الفن وصفاء التصوف وألق اللغة ما يأخذ بيد المتلقي إلى الإصغاء إليه في رفقة الأنثى بتجليتها وأحوالها في تطواف خلاب دون مناوشة لمعامي أسرار جسدها ، وكأنه تجلي الجميل في سكون وحب .

   لقد كانت المرأة في الشعر العربي موضوع الحب والغزل ، وقد كان الغزل العذري إرهاصًا لبواكير رمزية المرأة في الشعر الصوفي ، ولا أدل على ذلك مما تناقله الرواة من أخبار قيس مجنون ليلى ، وعبارته الشهيرة (أنا ليلى) وعبارة الحلاج الشهيرة (أنا الحق) بما تحملان من دلالة الاستغراق والوجد والفناء في المحبوب .
   وإذا كان الحب بأبعاده الثلاثة : طبيعي يهدف إلى استحواذ المحب على محبوبه وامتلاكه لإرضاء رغبته ، وروحي يلتمس فيه المحب محبوبه متكشفا صورته فيما حوله من موجودات جميلة ، وإلهي يقوم على حب الخالق لذاته تعالى عن الشبيه والمثيل فإن المرأة في رمزيتها الصوفية دائما ماكانت مساهمة للتوفيق في التعرف على الوجود ببعديه العلوي المنزه الغير قابل للتعيين وآخر هو مظهر التجلي في الصور والأحوال.
تجليات المرأة في ديوان من أحوالها:

   وفي ديوان من أحوالها؛ ثمة امرأة روح منها في دم الشاعر تجري تتجلى في عديد من الهيئات والأحوال تبهج القلب تارة وتوجعه أخرى تأخذ بيده فلا يرى إلا هوى منها وشذى غناء يفصله عن ضوضاء حوله ليسبح في سماءها .
أخذت يدي / وأنا لها / أنى تسير فلا أرى إلا هوى صارت به مفتونة
وشذى الغناء / يفوح منها بلسما /
للروح /  يفصلني عن الضوضاء/  من حولي / فأسبح / في فضاء سماءها .
   من أحوالها مسارة يمثل فيها الشاعر دور مريد تقوده الأنثى برمزيتها المتشكلة إلى نقاء الحياة ، فالأنثى هنا روح تتنقل من بريق إلى بريق تاركة شبابها والحب والوهم والكفاح بحضورها وأفولها، قابلة للتمثل والحضور في حياة الأخرين  :
ستقرأ في صحيفتك البهية
مثلها روحا من النعناع
تدخل من يراها
تشعل الروح الوريفة
ثم تمضي
تفتح الأبواب
للحب الذي يهوى التمتع بالحياة .

   في الديوان ثمة روح أنثوية لها قدرة التشكل والاختراق ، فاعلة وليست مجرد محفزة ، هي من تدخل من يراها ، هي من تشعل الروح وتفتح الأبواب لا تغلقها ، تفتح الأبواب للحُب لا للحِب، للحُب يحرك كل ساكن فيصير الحُب فقها يدرك به جمال الوجود العبقري.
  ولنتأمل هذه الصورة الشعرية : ” تفتح الأبواب للحب الذي يهوى التمتع بالحياة” ، منطلقين من ذاكرة الكلمات ، الفتح إزالة الإغلاق ، والإغلاق تعلق بغاوية واشتهاء ، الإغلاق تستر واختفاء زليخي الهوى، أما الفتح كشف ووضوح خروج للروح من نطاق الإنساني الضيق للحب يسبح في الحياة. ويتجلى في أحوال ، قد قال ابن عربي قديما ” إن المحبة حالة تفسية تجعل الإنسان ينزع إلى التفاعل مع الجمال في مختلف تجلياته”

  تتفاعل شعرية الديوان متخذة من المرأة محيطا حسيا لرؤى جمالية تتجلى في أحوال : والأحوال من الحول ، حاجز، وستر ، تحول ، وتغير ، صفة تبدو ، لكن دوامها محال .

الأحوال : من الحال،  سكون الصوفي على هيئة عارضة نازلة نزولا لا إراديا، وهي بذلك تختلف عن المقام إذ المقام فعل إرادي يلتزمه السالك في طريقه إلى الله .
  الأحوال هنا جمع مقترن بضمير الغائبة تتقدمه من التبعيضية يشير بالفحوى أننا أمام محاولة للرصد أو الاقتناص لغائبة ، وجعلها العتبة الأولى دون إحالة سابقة ،يطرحها طرحا مجازيا قابلا لافتراضات مسبقة ، ربما هي الأنثى حقيقة:  أما أو حبيبة ابنة أو صحفية شهيدة ،  أو قل ربما هي القصيدة ، هي تجربة الشعر والبحث عن الحقيقة ، مجاهدة ، وابتهاج ، تأسيس ومصارعة ، أو هي اللغة هزة الوجود الناعس في سكون ، نظرة ونافذة  أو هي أنثى الصوفي في سلطنة عشقه ، في تشكل واختراق أو هي الكل في واحدة.
قديما قال ابن رشيق : ” الرمز لمحة دالة ، واختصار وتلويح يعرف مجملا ومعناه بعيد عن ظاهر لفظه” ، وهذا فيما أفهم عماد الشعر ولغته.

محمد عبد الستار.

    فالشعرية فيما أفهم مستويات، فن كثيف ، والكثافة تحول وتشكل دون رجوع إلى أشياء متميزة بسيطة ، الشعرية واقع ملتبس فن لايخلو من توافق وتخالف، فيه حيلة ، تجعل من الغائب البعيد واقعًا ململوسًا ، تجعل المحسوس في  قلب الأسطوري المتخيل ؛ فليس الظن كاليقين ولا الخبر كالمعاينة .


    ولتنظر إلى هذا الافتتاح الذي يصدر به الشاعر ديوانه ، مستصحبا روحا أنثوية تشكل الوجود في جمال عبقري ترسل من روحها للكائنات لتصحو تسبح تبتغي باب القبول والرضى، تهز القلوب دون تحفظ منها ، لا تنام كنومنا ، لكنها ترنو إلينا بقلبها فننام ، رفقتها الطيور، سردها عفوي ملفوف بعطر معتق من الأزهار ، قلبها مأهول بالأفراح . تلك روح أسطورية لا تمل من العطاء ، قد تكون علوية  فهي تغزل نسجا لقصيدة الشمس الزكية.
  تلك روح من المحبة الغائبة ينبه الشاعر إليها ويستحضرها واقعًا معيشًا ، ويصرعلى استحضارها حسيا ، بضمير الغابئة والإشارة للمؤنث القريب:
هي ذي تحبك
هل وعيت حوارها ؟
في لمعة العينين / والصوت المشبع بالندى /في لفتة الوجه الخجول
وبسمة الصبح الحنون / وما بدا من قولها عن تضحيات العاشقين / وحالهم /  في نسجها
لقصيدة الشمس الزكية حين ترسل روحها / للكائنات بلحنها  / تصحو / تسبح
تبتغي /  باب القبول / وبعده / باب الرضا

  تفتح رمزية المرأة هنا بابا من الوعي بمعرفة قوامها الحوار، بابا من الوعي يوصي الشاعر به في نبرة السؤال ، الوعي إذن إصغاء، صمت، هجر لدندنات التائهين، وطنطنات الزاعقين ، الوعي يشعل مسرح الدنيا، ولا شيء يهييء الأجواء غير محبوبة تتبدا في هيئة وردة توزع حلوى على الصغار ، وتطالبهم بغناء بريء مع العصافير .


  الوعي إذن محبة ونظر للحياة بعين الجمال لايزف بشارته غير الإنسان النابه بعلم الكتاب حامل بشارتها عابر العتبات  :
ويجيئها
طير من الطمي الزكي
لديه من علم الكتاب
يزفها بشرى
  
  الوعي تلقي إنساني لرسالة السماوي المقدس ، الوعي علم ، قبس من نار نبيلة في قلوب أحبة ليست لهم أطماع دنيوية . والواعي طير من طمي زكي ، بريء،  منزه عن الأطماع.
  الطمي تربة الأرض في خصوبتها وقدرتها على الإنبات ، الطمي حاضر في الديوان حضورا لافتا ، الطمي طير في قصيدة شهادة ، وللطمي وصية من الشهيدة في قصيدة خلود ، وصية بالصلاة ، والصلاة دعاء وصلة صلة بالسماء نهوض وارتقاء .
لكِ المجدُ  / يعرفه المنتمون / لصوتِكِ / حيثُ تكونُ الحقيقةُ / يطلبها العارفون /
لبابك / حيث يكون الوصول / صلاة الدماء/ تخط على كل زاويةٍ / في البلاد: انهضوا يارفاق/ فإني هنا في التفرد / حيث أراكم /على كل لون / ولا تتركوا الطمي /دون صلاةٍ / ليأخذ موقعه / في الفضاء البعيد / كنجمٍ /تجاوزَ كلَ النجوم.
   المرأة في ديوان من أحوالها ذات تجليات جمالية تعرج بالشاعر إلى سموات كشفية ، حين يكون منها وهي منه  ، قد تستحال إلى أميرة ، حولها من كل لون مقدس : عمر أبدي ، وروح مضيئة ، وقلوب مستثارة بالصفاء ، هدية النيل المبارك ، وعين أطفال تغازل حلمها ، المرأة مدد ، والمدد عطاء ، حمامة تحوم فوق كنائس قديمة ، تبني بيتا حديثا تزرع الساحات قمحا.
وأنها مدد /  على مدد الزمان
تعيش …
من لغة إلى لغة تجدد نفسها /  في حرفها الأبدي / لاتهوى المسوخ /  أو الضياع .
     قد لا أكون مبالغًا حين أرى الأميرة هنا لغة الشعر التي تتأبى على السقوط ، فلها نبلها السماوي، وتاريخها المجيد ، نحن أمة الشعر في تاريخنا المجيد ،  قوام لغتنا كان البحث عن المعجز المقدس، رمزية الأميرة رمزية الشعر، رمزية اللغة ،  تتبنى من جديد من وهج جديد، من لغة حية ، من قمح ونور، نور الحرف من عرق الوجوه ، والقمح قرين الحيوي ، وعرق الوجوه، قرين العملي، حب الحياة في جمال عفوي  ، لا اعتزال ،  درس الأميرة لاتموت قوامه الأساسي أن اللغة في تحرك مستمر ، ثمة حقيقة تقررها في  الذهن الأميرة لاتموت ، حقيقة فحواها أن لكل عصر لغته  وثيابه ،لكن ثمة حلم بلغة ثانية ، ثمة بحث عن خبيء ، طير فوق كنائس قديمة ، ترتدي ثوب الحضارة في الرقي ، تهتف :
-أنتم إلىَ /
– قالت وقلنا مثلها
– مت في لظى الجهل الغبي / يامن تدثرت بالتراب / ولا يعي / سر الوجود لروحها /
في رحلة الأزمان / من بدء الحياة / ولا حياة / سوى هواها / يمسح التعب العصي /
قالت وقلنا قولها
و أحاطنا / ألق علينا من بديع / جمالها / وهجٌ علينا من تفرد عطرها/
طوبى لنا / طوبى لها.
  ثمة مسح ، محاولة للخلاص من الاستغراق في العملي في التراب ، ثمة محاولة للعود إلى وهج روحي ، إلى جميل عطر الأميرة . تلك الرمزية تتكشف للعيان في قصيدة (أنا وسلمى)،
حين تحضر ذات الشاعر ، معلقة بين حبين : حب لسلمى لبراءة الطفولة ، وحب للبلاد للطمي والنخيل وونس عربي من الكلمات، من تراتيل الحب من الزمن الجاهلي إلى الحاضر ،لكن سلمى تحمل البشارة والدعوة إلى لقاء عند مجمع البحرين ، إلى رياض من نور ، إلى استباق الزمن ، تبشر بشعرية من مدد من جمال روحي ، وما كان استدعاء المكان على مجمع البحرين إلا استحضارا لصورة الخضر ، عبد أتاه الله من لدنه علما ، الخضر استحضارعذب لمعرفة روحية غابت في زمن الماديات ، معرفة قوامها الهداية والرشاد ، ولتسمع نداء الطفولة في براءة.

فإن حبيبي /سيلقي علينا ثيابًا /تزيل السموم / التي بذرت بيننا /تعيد الحياة إلى كل عين /
بغت في الطريق / ولابد أن نسبق الوقت / هيا اتبعوني / لنلقاه حيث يكون اللقاء /على مجمع البحرين / هناك / يكون الأحبة / في صخب اللحظة الوالهة / أخمدوا اللآلهة /واستطالوا /إلى روضة من نور /في سدرة المنتهى / وتظهر أسماؤهم / فوق بيت النجوم /
تضيء الطريق / ولا تختفي.
 
  سلمى تبشر للأطفال الأبرياء مثلها بشعرية فيها الخلاص من سموم بذرت في الطريق ، تبشر بأسماء باقية فوق النجوم تضيء الطريق ولا تختفي . تبشر بمعرفة قوامها مكاشفة الوجود بحب ولحب ، لكن أليست تلك المعرفة تتطلب شيئًا من المجاهدة ؟ ومصارعة الأنا ؟ ببذل وحسن إصغاء لما هو جميل عذب صافي أصيل، أليست تلك المعرفة تتطلب إرادة.

    كثيرًا ماشبه النساء بالورد في نضارة وتفتح لكن عبقرية الشاعر في من أحوالها يستعير للمرأة حال من أحوال زهرة السوسن ، أو الرفيف اسمه بالاتينية ايرس ، ويعتقد فيه اليونانيون رمزية البلاغة ذلك لتشابه اسمه باسم رسول الآلهة والمعبر عنها ، السوسن متعدد الألوان والدلالات ، ترمز البيضاء منها إلى الصفاء ، والصفراء إلى قوة العاطفة ، كما أنها رمز الإيمان وتجدد الأمل ، إذ تذبل زهرة السوسن في الشتاء ، لكن مع الربيع تظهر البراعم متجددة في بهاء.

  تخبرنا ذاكرتي النقدية أن حضور الزهور في الشعر الجاهلي كان قليلا إذا قيس بالاشجار والنباتات والأطلال والأوابد ، تلك بيئة الأدب الجاهلي ، طبيعة قاسية ، وتنقل مستمر ، لايسمح بتقصي ظاهر لصنوف الزهر ، إلا ما جاء مقرونا بطيب الرائحة وبياض الثنايا.
قال طرفة :
تضحك مثل الأقاحي حوى   من ديمة سكب ماء دلوج.
وقال الأعشى :
وتضحك عن غر الثانيا كأنه   ذرى أقحوان نبته متناغم.
وقال امريء القيس واصفا عطر صاحبتيه :
إذا قامتا تضوع المسك  منهما        نسيم الصبا جاءت بريَا القُرنفل .
  هذا فقه الشكل لا الرمز ، حضور السوسن في الشعر الحديث لافت برمزيته لجديد الأمل، لحب ينبثق من حزن أصيل ومخاوف سرمدية .
من قبل قال محمد عمران :
– حبك ياحبيبتي
سوسنة زرقاء
فتحتها ، فكل ورقة جناح
مبلل بالموت ، والصباح
ويقول محمد عبد الستار :
هذه سوسنة / إن رضيت  / أن تعطيك شذاها / خذها/ إني أومن /أن الورد /إذا شعر الحنان  / مال وفاح / وإن شعر الإهمال / أو الغدر/  اسودت عيناه/  من الحزن
ولا أدري / إن كان سيذبل أو يتحول قنبلة / لعبور قادم؟

لا أستطيع أن أتجاهل تلك اللغة الإرشادية ، المقترنة بالشرط ، المقر لحقائق تُظهر السوسن يشعر الحنان فيميل ويفوح ، وإن شعر الإهمال أو الغدر اسودت عيناه من الحزن، يحتاج إدراك الجمال إلى طلب واهتمام،  لا أستطيع تجاهل الأسود دليل الحزن لا بياض عين يعقوب الكظيم الصبور ، لا يمكنني أن أتجاهل تلك النقلة التي يوميء إليها الشاعر بذكاء إلى هموم الجماعة وتحولهم لعبور قادم ، إلى أي شيء يشير السوسن إذن إلى المرأة نموذج الحب والدلال أم إلى الجمال مجردا ، أم إلى شعرية قوامها الحب والتطلع إلى الجديد ؟  أم هي دعوة لارتفاع الهمم نحو مقصدها.

     يتردد في عقلي بعد قراءة سوسنة قول ابن عربي : ” إذا ارتفعت الهمم نحو مقصدها أقيمت في الفناء ، فاتصلت بالحياة التي لاتنفد ولا يعقبها حياة “. يحتاج الجمال الحق إلى مناصرة وطلب إلى مزاحمة الذئاب العاوية حتى تمضي لحتفها ، يحتاج الجمال لعيون تحب ، لعيون ترى الجمال في الورد  ،تتبصر الجمال الحق ، وتميز الجمال من الغث الخبيث، هذا درس يتردد في الديوان بأكثر من وجه ، تمليه قصيدة سوسنة في صورة الطلب ، وتمليه قصيدة عيون وعيون :
عيون /  تضيء الحياة /  وتفدي العصافير بالروح / والذئب يسكن حتى تنام العيون /
فيأتي / على شكل طفل / عليه دماء / وتنخدع العين فيه / فتصرخ / تصرخ /حتى يناصرها / ثلة / من عيون تحب / تناصر / حتى يروا / في الطريق ذئابا / يهاجمها
كل كلب يراها / ويعلو النباح / العواء/  إلى أن تضج السماء / فتمطر / تثبت كل العيون
التي تفتدي / وأما الذئاب / فتمضي إلى حتفها / وأشرقت الأرض/  للورد في العالمين.
  الورد هنا  مقرون بالإشراق ، وفي قصيدة تأسيس كان مقرونًا بالمآذن ، وترديد المحبين في الطريق ، وتبسم محبوبة لحبيبها ليلمح أزهار وأشجار وطيور في قصيدة غيمة، وفي الحرف الخامس والعشرين في قصيدة حروف من لحنها ، مقرونًا أيضًا بغناء بنات على رسلهن يغنين :
لا تسرق النار منا / لأنا / حميناها بالروح / تحرق / من جاء يسعى / ليخطف ورد الحياة /  من الحب حتى / يقص الحكايات عنا .

  وفي مصارعة أيضًا ثمة ليل وقصيدة وشاعر يمسك بشعاع من محبوبة وجدة تغزل وأورادًا صافية من روح الشمس تبسطها للمارة يشتعلون نباتًا ورحيقًا وحروفًا وضياء وهواء ومياها وسماء وسنابل شتى تصنع منها أيات تترى ، تصاعد حتى تملأ الأفق مصابيح تغني أغنية الحاضر والآتي.

تتبدا لي شخصية الشاعر قروي عاشق للحياة وللكون من حوله ذا رؤية جمالية لها متشجرة بالديني الصوفي ، حيث يقوم الدين على حب تؤدى به العبادات ، وينتظم سلوك السالك ، إلى الله بالذكر وجميل الأوراد ، دون غياب عن الواقع ، ينظر إليه بعين الجمال، ولاعجب فثمة روح من الجمال البهي تنظم السلوك ، روح منها تجري في الدم تبهج القلب تارة وتوجعه أخرى تأخذ بيده فلا يرى إلا هوى منها وشذى غناء، تلك روح من الجمال :
تسكن روحي / بين الأشجار / وتسرح / في موسيقى الماء /وتصحو / بجمال الضوء/صفحة بسمتها / حين تنام / وحين تقوم / على دقة قلبي / تلك طبيعتها / تظهرها/ كي نعشقها / بخيال ملامحها / دون بزوغ حقيقتها / حتى نقدر أن نتحملها / ونعيش / على أمل الرؤيا / والرؤيا / بعد حكايتها تنسى .

تلك روح من الجمال تنظم السلوك وتجدد الأمل ، يصورها الديوان بلغة شعرية مستمدة صورها من الواقع في تراسل شفيف وحروف ندية دون استغراق في التيه ، ترنو إلى وعي متجدد يتخذ من العلم والمدارسة بابا للنجاة من كوابيس وخفافيش تحوم حول الوطن متخفية .
كلما حاولت / أن ينجو رأسي / من كوابيس َ / تناجي دارنا / من خفافيش تغني / مثل قلبٍ / أجوف الدقات/ مهما يتماهى بغناء عن البلاد / أو صبايا / كلما حاولت / أن ألهو وقتا /  احرجني عين طفلٍ/ واقفٍ/خلف جدارٍ/ يمسح العينين / يرنو في بكاء /لصغارٍ/ يدرسون.

   ديوان من أحوالها – فيما يبدو لي – مثاقفة شعرية للوعي الاجتماعي العام ، من خلال لغة شعرية تجعل من المرأة وحبها نموذجا للجمال ، يدور الشاعر حوله وكأنه مركز الثقل أو نقطة الارتكاز في هذه الحياة ، يتصل به ، ويبعد عنه ، دون انفصال ، فتارة نراه يحدث المتلقي  بلغة الخبير الرواي عنها ” هي ذي تحبك هل وعيت حوارها ” ، وتارة نسمع همس صوته متحدثا عنه وعنها ” هذي نافذتي / بعض من عيني / تملك ماتشتهي النفس/ وخفقة روحي/ بعضا من حروفي / حين أطل على العالم / أو حين أطل علي.

   ما أكثر الحديث عن المرأة بضمير الغيبة ” ها ” ، يقول الخليليون الهاء لاتصلح قافية ، إنما هي وصل والألف خروج ؛  فأقول ، وصل بغائب جميل ، نرجوه يبدو وميضا جميلا نتبعه ، قد يصوره الشاعر نجمة أو غيمة ، سرعان ما يتلاشى ويذوب ، لكن التتبع شرط لمن أراد الوصول، تلك رؤية قوامها الوعي بالجميل لمثاقفة الواقع المرير. لتتبع العثرات والانطلاقات، هذا درس في المثاقفة ، لا أنسى ماحييت معلمه الأول ، مصطفى ناصف حين ألقاه علينا في قاعة الدرس :” قراءة الشعر عمل صابر عاطف يرتاح إلى السؤال أكثر من اعتياده بقضايا صريحة، الملامح اللغوية يراد بها هذا الوجه أو ذاك من ثقافتنا المعاصر لا بد أن نتحدث عن  أهداف قراءة الشعر، غايتنا من قراءة الشعر إفساح السبيل لتصور أفضل لثقافتنا ” لا ريب أن إسهام الشعر في الثقافة يعتمد على  طبيعته ، وغالبا مايكون هذا الإسهام من قبيل الحفاظ على حيوية الحس وإثارة الخيال والتحرر من الغايات “
   لاريب لدي أن الأنثى المحال إليها في ديوان من أحوالها لايمكن اختزالها في هيئة واحدة ، غير روح من الحب ، تتبدا طارة في صفاء التصوف ، وصورة الوطن ، وصورة الطفولة ، أو الشهيدة ، وأحيانًا روح من محبة الشعر التى مست الشاعر بروحها ، ولا رابط بين هذه وتلك إلا روح المحبة التي يتبناها درسا للمدينة للجماعة من حوله ، تشير القرائن أن الديوان كتب في أعقاب الثورة ، في أعقاب حالة من الاختلاف وعدم الائتلاف ، لكن الشعر يؤسس درس التوافق يقوم بمثاقفة قوامها الحب :
لما رأيت حبيبتي / أخبرتها : أن الجميع على الطريق يرددون كلامنا : شجر القرى/ورد المآذن / والطيور جميعها /عزف الكنائس / والمصانع / والحقول / وما تلا / والأهل / والأحباب /والجيران /لم يتخلفوا / هم ينسخون كتابنا / للطالبين حياتنا / والشوق يملأهم إليكِ/فقالت : اتركهم قليلا / يظهرون ما يضمرون / على بساط الشمس /واسكب فوقهم ماء المحبة.
تلك روح تتشكل عناصر رمزيتها بعبقرية شعرية ، تجمع المقدس ممثلا في المآذن والكنائس بالمصانع والحقول والأهل والجيران وتصطحبهم إلى بساط الشمس ، إلى النور والوضوح ، لتسكب عليهم ماء المحبة . هذه نفس من نفس الشعر الحق التي يلمح العقاد إليها ، نفس تجلو الحياة على نحو أرحب.


★ناقد-مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى