تشكيل

شهد إبراهيم: ڤان خوخ ..حين تخلق الصراعات النفسية فناناً من أشهر الفنانين!

 

شهد إبراهيم ★

“إنني أتعفن مللًا..لولا ريشتي وألواني هذه، أُعيد خلق الأشياء من جديد…”
لا كما أرادتها الطبيعة، بل كما أرادها أن تكون، الرسام الهولندي العبقري فينسنت ڤان خوخ؛ الذي كان يبحث طوال الوقت عن أسلوب فريد لرسم الطبيعة، وكانت هذه نقطة الانطلاق المهمة؛ التي ستفتح له طريق إنجازاته، ولكن هل اهتم حقًا بأن يبرز الطبيعة في لوحاته، ويصورها، أم كانت لوحاته تحمل معانٍ أخرى؟ 
فينسنت ڤان جوخ، الذي عاش حياة مضطربة، ومعاناة نفسية عميقة، أثار تساؤلات كثيرة حول تأثير حالته النفسية على إبداعه الفني، هل كانت هذه العواطف القوية المشتتة هي ما أبرز عبقريته الفنية؟ أم كانت مجرد عائق يجب التغلب عليه؟

“زهرية مع خمسة عشر عباد الشمس”

دعونا نُلقِ الضوء على إبداعه المذهل، والأسرار الغامضة وتأثيرها على شخصيته الفنية في لوحة (زهرية مع خمسة عشرعباد الشمس) الذي اعتبرها الكثير من نقاد الفن أنها لوحة تُعبِّرعن مزهريه طبيعية، وأن فيها تصويرًا للطبيعة؛ إلا أنها تُعبِّر عن حالته المزاجيه وقتها، تلك اللوحة الصفراء مشرقة اللون؛ ولكن ليست بنفس الإشراق في بتلاتها، حيث عبَّر عن كل زهره على حدة، من زهرة مشرقة، وزهرة شابة، وعجوز ذابلة، ومريضة، وحزينة، وميتة، لِيُعبِّر في ذلك عن دورة حياة الإنسان من خلال ذلك الظهور ذي الأشكال المختلفة، ومراحلها الحياتية.

“ليلة مرصعة بالنجوم”

خلال فترة تعافي ڤان خوخ  بعد دخوله المستشفى، رسم تلك اللوحة؛ التي وصفها الكثير بأن ڤان خوخ أصبح مهتمًا بالليل، وتصوير السماء في لوحاته؛ ولكن لو نظرنا لاتجاه الرياح غير المنتظم، فإنه يستحيل تحديد اتجاه قدومها، أو حركتها، وهذا ما يعرف بال “جريان المضطرب”؛ الذي كان يُعبِّر وقتها عن حالته النفسية المضطربة، كما أن إبرازه لشجرة (السرو)، واختياره لهذا النبات على وجه الخصوص له معنى كبير، حيث يعتبر نبات السرو رمزاً للحزن، وزينة للقبور.

رسم نهايته

في لوحة أخرى باسم “الغربان في حقل القمح” تعطي انطباعًا بجمال الطبيعة؛ لكننا لو دققنا فيها سنرى القمح مرسومًا بخبطات فرشاة تحمل لونًا أصفر، وغير مرسوم بأبعاد، أو نسب، وكذلك الغربان، وهي تطير بشكل غير منتظم مذعورة من صوت إطلاق النار، تلك اللوحة التي تعبر بشكلٍ كبير عن مشهد انتحاره بين الحقول؛ بعد أن أطلق النار على نفسه، وهو في الحقل.


الدمار الذي فجّر موهبة بهذا العمق

لوحات أخرى عَبَّر فيها بشكل مباشر وصريح، مثل لوحة ” على باب الخلود”؛ التي رسمها قبل بضعة أيام من إطلاق النار على نفسه، ونرى فيها رجلًا عجوزًا يجلس على كرسي، والوضع الذي يجلس فيه يُظهِر خيبة أمل ومرارة، رجل منحنٍ يغطي وجهه بيديه، تم كسر روحه، فأصبح غير قادر على الوقوف أمام العالم، ربما نوعٌ من الحزن الكبير في روحه، وتعتبر نادرة بالنسبة لهذا الفنان، فإنه دائماً يُعِّبر عن آلامه النفسية بشكل غير مباشر، ولنا أن نتخيل أن من رسم هذه اللوحة؛ هو نفس الشخص صاحب لوحة “مقهى الشرفة في الليل”؛  التي تُعبِّر عن أشخاص في مقهى، حاول أن يلتقط فيها أكبر قدر من الضوء، فَبَيَّن انعكاس الإضاءة البرتقالية للنوافذ، والأبواب على أرضية المقهى؛ حيث نجد خيال السماء المرصعة بالنجوم على أغطية الطاولات، إن التضاد اللوني بين الألوان الحارة، كالبرتقالي والأصفر؛ يكثف اللون الأزرق في السماء، كما أنه كتب لأخيه ثيو أنه كان في حالة حماسية وسعيدة عند رسمه لتلك اللوحة، وهذا ما يسمى ” بإضراب ثنائي القطب”؛ الذي كان يعاني منه ڤان جوخ، وهو الذي جعله في حالات مزاجية مختلفة؛ اِستطاع من خلالها إنتاج لوحات مختلفة ومتنوعة.

الخوف من الهجر

كما أن مأساته بسبب والدته، وهجرها له، جعلته يشعر دائمًا بخوف من الهجر، أو من أنه سيكون وحيدًا، وظهر ذلك في الكثير من اللوحات، أهمها لوحة “غرفة نوم في أرلز”؛  حيث إنها لوحة عند النظر إليها في البداية تشعر، وكأنها لوحة تُعبِّر عن الأحداث اليومية، مثل لوحة “ٱكلو البطاطس”؛ إلا أننا لو نظرنا لها من منظور ٱخر، وكأن ڤان خوخ نائمًا على هذا الفراش بمفرده يومياً؛ يعاني من الوحدة، ويشعر أنه سيموت بمفرده، وهذا ما يعرف (باضطراب الشخصية الحدية).

ملك اللوحات الذاتية

كما أن ذلك يولد معه ما يعرف (بالوسواس القهري للكمال)؛ الذي كان يعاني منه منذ الطفولة؛  بسبب أنه يُعتَبَر بديلًا غير مُرضٍ لحلم ضائع، لأنه يحمل نفس اسم أخيه الميت، فكان يسعى دائمًا للكمال حتى يكتسب رضا أبويه؛ إلا أنه كان من المستحيل أن يتخطى هذا الملاك الذي في خيالهم، والذي جعله ينتج أكثر من 30 لوحة ذاتية؛ ولكن جميعها لا تشبهه، وهذا  يدل على أنه كان يحاول تخيُّل أخيه، الذي وُضع طوال عمره في صراع معه؛ ولكن جاءت آخر لوحة له قبل انتحاره بشكل مغاير لكل اللوحات، وكأنه كان يرسم نفسه لأول مرة بانطباعه هو وبعينه، فكانت عيناه ذائبتين، معبرتين عن متاعبه في الحياة، ولحية كألسنة النار، كانت الأذن ناشزة، وكأنه لم يعد يحتاج إليها كالأذن الثانية التي قطعها.

لحظات أخيرة مع إصبعه السادس

“جذور” اللوحة التي رسمها ڤان خوخ قبل انتحاره، والتي أثارت جدلًا كبيرًا؛ حيث قال البعض إنه لم يستكملها، وهي عبارة عن منظرٍ طبيعي، يحمل هو الآخر معاناة ومأساة انتحاره؛ حيث صوَّر فيها جذوراً عارية، وأجزاء من مناطق سفلية من جذوع الأشجار، لِيُعبِّر عن الدوافع النفسية التي بداخله؛ حيث شبهها بالجذوع في التربة الرملية، ويظهر جزء صغير من رقعة السماء، في الطرف العلوي من الجانب الأيسر من اللوحة، وكأنه لا يمكن لنفسه أن يصبح حرًا مرة أخرى، ويرى السماء، التي طالما صوَّرها في لوحاته، كانت تلك الجذور متداخلة بشكل يوحي للناظر إليها، وكأن هناك شخص مختبئ بداخل تلك الأشجار، وهذا أيضًا تصوير لمشاعره الداخلية المتعبة.


الحزن يدوم إلى الأبد

إن كل هذا جعله يسعى دائمًا أن يثبت لأسرته نجاحه، وأنه يستطيع أن يكون ذاته، وليس نسخة من أخيه، وظهر ذلك في توقيعاته على لوحاته، حيث كان يكتب اسمه (فينسنت) وليس ڤان خوخ، ولكن ذاع صيته بعد وفاته بڤان خوخ.

إن هذه الجوانب التي بالكاد تبدو متباينة، هي التي جعلته يُنتج لوحات متنوعة للغاية؛ جعلته أيضًا رائد المدرسة الانطباعية، وما بعدها، لأنه رسم لوحات ليست انطباعية، كل هذه العواطف الداخلية التي استطاع التغلب عليها؛ كانت عاملًا كبيرًا في إبراز عبقريته الفنية.


★طالبة بقسم الدراما والنقد المسرحي -جامعة عين شمس -مصر.

 

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى