مسرح

نواف الربيع: ” الجزار”..أقدارنا التي كتبها الآباء.

نواف الربيع★

رغم تعدد الأراضي الخصبة للثيمات المسرحية وأشكالها إلا أن المسرح الكويتي في بداية الألفينات عانى من أحادية نصية وشكلية حتى – عدا بعض الحالات الإستثنائية- ليكتفي معظم صناع المسرح بشكلٍ مسرحي أحادي  مبني على الكوميديا والهزل بعيدًا عن التطرق لأبعاد إنسانية أكثر عمقًا، أو تقديم التنوع الدرامي الذي يسمح للفنان أولاً إظهار قدراته الفنية، ويسمح للمتلقي التعامل بجدية مع المسرح باعتباره شكلًا فنيًا قادراً على المساهمة في تغيير الواقع أو طرح الأسئلة الجادة التي تحترم عقليته، وهنا تتكرس الفكرة القديمة حول رداءة النصوص المسرحية/ الفنية وتلاشيها، ليبقى المسرح رهينة التكرار والرداءة لعدة سنوات، لكن الحبس انتهى في السنوات العشر الأخيرة بوجود فنانين يمكن اعتبارهم صناعاً للثقافة، بدءاً من الفنان والكاتب والمخرج محمد الحملي، والكاتب بدر محارب، والكاتب والمخرج عبدالعزيز صفر، وجهود الفنانين مبارك المانع، خالد المظفر، عبدالعزيز النصار وغيرهم، الذين استطاعوا تحقيق معادلة المسرح الصعبة، والمتمثلة بتقديم عمل مسرحي ذا نص رصين، دون الإخلال بشرط الفرجة والمتعة، مما يغير من ذائقة المتلقي ويدربها على شكلٍ مفترض للمسرح، أما عن تأخر ظهور هذا الشكل المسرحي فربما أسبابه تتعلق بخشية رفض الذائقة الجماهيرية لهذا الشكل الفني، وضعف الإنتاج المسرحي الذي يتطلب خوض مغامرة حقيقية لتقديم مسرح كهذا.

محمد الحملي..  المسرح كصناعة

قدم الفنان والكاتب محمد الحملي عددًا من النصوص المسرحية ذات رؤية مسرحية جديدة نوعاً ما، بدءاً بمسرحية الأحدب، ومسرحية الغولة، ومسرحية موجب وأخيرًا مسرحية الجزار، وهي مسرحيات سوداوية الطابع، تتناول إشكاليات إنسانية عدة، وتبرز تناقض الإنسان وصراعاته الداخلية، شريطة الموازنة بين الرؤية الإخراجية والنص المسرحي الرصين.



وقد استمر الحملي في تحقيق تلك الشروط في مسرحيته الأخيرة (الجزار)، وهي من تأليفه وإخراجه، وبطولة عبدالله الخضر، طيف، عبدالله الرميان، محمد الحملي، حصة النبهان، محمد فايق وفنانين آخرين. يلتزم النص المسرحي  “الجزار”  بثيمة مسرحيات الحملي السوداوية ( الأحدب، الغولة، موجب)، حيث الفوضى، البؤس، غياب الأمل، وتعدد الطبقات الإجتماعية ومزاجاتها، والتركيز على حالة إنسانية مهمشة تبنى حولها الأحداث، وتتوزع حولها الشخصيات بحذر شديد، فلا تطغى الشخصية المحورية في حضورها، بل ثمة تناسب في المساحات الدرامية لكل شخصية.

“الجزار” يتناول النص المسرحي شخصية إنسانية مهمشة، تحاك حولها الغرائبية الناتجة عن طبيعة عملها والمرتبطة بالقسوة والذبح والدم، لتصنع هذه المهنة المتوارثة لـ صاحبها “عطا الله” حالة أشبه بـالأسطورة المتمثلة بقسوته، خوف أهل الحي منه ومن طباعه، واتهامه بالسحر، إضافة إلى اتهامه بأنه السبب الأساس في تعطل حياتهم وسوء حظهم، حتى سجن ومات مظلومًا، ويرث ابنه “عبدالله” تلك النظرة من المجتمع، ويكافح ليغير من تلك النظرة والمصير إلا  أنه يعجز؛ فهو ابن الجزار عطا الله، المحكوم مسبقًا بلقبه، حدة طباعه، وثأره، إلى أن يقرر الابن مصيره المستقبلي المنسلخ عن هوية والده الجزار.

بينما يستمر كفاح “نطاح” الضابط الأهم في المدينة ليواصل تحقيق سلطته وقبضته العسكرية، ولم يكن ذلك إلا عبر التخلص من أمه الفنانة الشعبية والتبرأ منها، رغم ذلك تظل تطارده بوجودها، وباسمها وسمعتها كمتسولة حتى وفاتها.

يمثل النص المسرحي حالة حادة من الصراع الإنساني مع نفسه أولًا، وأهله ثانيًا، والمجتمع أخيرًا، فلا مفر من هذا الصراع حتى وأن سعى الإنسان للإنسلاخ من هويته وأصله، لأنه سيظل حبيساً لفكرة الانتماء، وتظل مطاردات المجتمع له ومواجهته بانتماءاته البيولوجية المتعلقة بالأب والأم،  دون جدوى من مواجهة ما هو شائع بين الناس أو طمسه لأنه سيعاود الظهور كلعنة، وكل هرب من الهوية مجزرةً ترتكب لإخفاء ملامح الهوية ولا مفر. وهنا يبرز النص كيف يمكن للآباء كتابة المصائر ورسمها بدقة لا تسمح لابن الجزار أن ينسلخ منها وإن صار طبيبًا ماهرًا، لأن ما كان متداولًا في المجتمع سيستمر بالتداول.

تبدو فكرة المجتمع وطبقاته حاضرة في نصوص محمد الحملي بدءًا من (الأحدب) وصولاً إلى (الجزار)، فثمة سلطة تمارسها طبقة اجتماعية معينة على المجتمع، إلا أنها لا تنفصل عن المجتمع العام في أوهامها وأقاويلها، بل تدافع عن تلك الأوهام وتقاتل لبقائها أو لإبطالها، وهذا ما حدث مع شخصية “معالي” زوجة نطاح، التي تشارك عوام المجتمع في تصديق الأوهام والخرافات حول شخصية الجزار عطا الله، بل ترمي عليه كل أسباب فشل حياتها الأسرية والاجتماعية. 



رغم حدة صراع النص المسرحي، واحتدام الشخصيات في صراعها مع نفسها والواقع المفروض، تنتهي المسرحية بصورة مبتورة، مفاجئة، حيث يموت عماد- زوج أم عبد الله – بين يدي ابن الجزار الدكتور عبد الله، دافعاً بذلك ثمن خطأ أمه نجيبة التي تسمم زوجها عماد دفاعاً عن سمعة ابنها ابن الجزار، وبدلاً من أن يتبرأ ابن الجزار عبدالله من اتهامات المجتمع له ولوالده قبله تلتصق به المزيد من التهم والأقاويل المتعلقة بغرابة الجزار وابنه ونحسهم المتراكم. رغم سرعة النهاية وغرابتها إلا أنها مناسبة -حسب رأيي- لثيممة نصوص الحملي المسرحية، بل أن انفتاح النهاية على الاحتمالات كافة سمح للمتلقي المشاركة في تكوين انطباعه الخاص بالجزار وابنه، وتحديد دوافع شخصيتهما بين الشر والخير، وبينما يستكين القرار في تصور المتلقي، كان الأب الجزار قد كتب قدراً إضافياً لابنه.. ولا مفر من المجزرة؛ مجزرة الأقدار.


★ناقد-الكويت.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى