سميراء سليم: “البؤساء” ما بين الرواية الرومانسية، والمسرحية التجريبية.
سميراء سليم ★
بعض التجارب الأدبية عالقة على مَرِّ العصور، بروح إنسانية تتجاوز حدودها الجغرافية والتاريخية، مثل رواية البؤساء، لفيكتور هوجو، رائد المدرسة الرومانسية في الأدب في القرن التاسع عشر، ورغم ضخامتها لخمسة أجزاء، إلا أن ذلك لم يمنع ترجمتها لأغلب لغات العالم، وذلك لصدق طرحها الإنساني، الذي جعلها تُجَسَّد لمئات المرات، وبمختلِف اللهجات، والمعالجات، وتَنَوُّع الأشكال الفنية، التي تناولتها ما بين مسرح وسينما وتلفزيون.
وعن المدرسة الأدبية، التي ينتمي إليها نص العرض، تتمثل في اتجاه الرومانتيكية، أوالرومانسية، ويطلق عليها (الإبداعية) للتجديد الذي أحدثته، وكسرها قواعد الكلاسيكية وعقلانيتها، التي رسختهما لقرون في إحياء المسرح اليوناني، ومِنْ بعدِهِ المسرح الروماني، لذا يطلق عليها (الإتباعية)، واصطلحت اسمها من اللفظة، التي كانت تطلق على اللغات المحلية (رومانس)، التي استخدَمَتْها في الكتابة، بدلاً من اللاتينية السائدة في الأدب حينها، وأعطت الأولوية للتعبير الذاتي والاِنفعالي، مخاطبة الحواس والاِنكفاء على الذات، مما شكَّل نقطة تحوُّل في تكوين العقل الأوروبي، وإعادة النظرلأنماط الثقافة التقليدية، والاِستلهام من التقاليد المحلية، مما أعطى الأدب والفن طابعاً قومياً.
صاغ هوجو نظرة متكاملة للدراما الرومانسية، بمقدمة مسرحيته كروميل، وبها الفن يُغَطِّي مجالات عديدة، أخلاقية واجتماعية وتاريخية إنسانية، وهو ما سنجده في البؤساء بأبطالها، وشخصياتها المشوهين المنتمين لطبقات المجتمع الدنيا، ونجد بها أيضاً رفضه لفصل الأنواع، لأن الفن يجب أن يعطي صورة متكاملة للحياة بجانبيها المضحك والمأساوي، ورفضه لوحدتي الزمان والمكان، لأنهما يشكلان عائقاً أمام تصوير الواقع، والحفاظ فقط على وحدة الفعل، وتناولها أفكار الحرية والتحرر.
حين يميل ميزان العدالة؟
يرتكز ضمن فعاليات مهرجان الهيئة العربية للمسرح في دورته الـ (14)، التي أقيمت قبل أيام قليلة في العاصمة العراقية بغداد، تَمَّ تقديم العرض المصري (البؤساء) عن نص لفيكتور هوجو، ومن إخراج محمود حسن جراتسي.
ركز المخرج على عدة نقلات من الرواية، تخدم رؤيته المسرحية المتمثلة فلسفياً، في الإرادة الحرة للإنسان، التي تترتب عليها المسؤولية الأخلاقية لشكل خياره مع الآخر، وطبيعة فعله من خير أو شر، ليتحمل الثواب أو العقاب.
وانطلاقاً من رأي أرسطو، الذي يؤكد على حرية الإنسان في الاِختيار، لأن الفضيلة ليست موجودة بالطبيعة، وإنما هي عادة مكتسبة، وبالتالي الفعل الأخلاقي إرادياً، إلا إذا وقع نتيجة إكراه مادي أم معنوي، الأمر الذي تحدِّده العدالة، موضوع العرض، وتحويلها لبوق أجوف فارغ من معناه، يحدِّد مصائر البشر، رغم ظلم قوانينها لهم ، وإكراههم على المخالفة بحرمانهم غريزة الحياة، وشقائهم للحصول على كسرة خبز، تكفي أدنى احتياجات وجودهم، الذي يسبق تشكيل ماهيتهم للخير أم الشر، فيتناول العرض، الصراع لِشِقَّيْ العدالة بجوهرها، وظاهر تطبيقها ، متخذاً لتمثيل هذا الصراع التجريدي الرمزي، وأنسنته بصراع “جان فالجان”، المواطن / المجرم، الذي سرق رغيف خبز، لتَفَشِّي الفقر والجوع، و”خافيير” المواطن/ الشرطي، المسؤول عن تنفيذ العقاب، لتحقيق القانون، ليبدوَ من الخارج صراعاً بين شخصيتين(المجرم والشرطي)، لكنه في الداخل، صراع واحد (المواطن).
تأخذنا الأحداث للفترة ما بين سقوط نابليون في 1815 والثورة الفاشلة ضد الملك لويس فيليب في 1832، بعد الثورة الفرنسية عام 1789 وارتداداتها الأكثر تأثيراً، لِتصفَ لنا حياة عدد من الشخصيات، وبؤسها بسبب الغياب الحقيقي للعدالة، على طول القرن التاسع عشر، الذي يتضمن حروب نابليون.
الرقم 601؟!
“جان فالجان” للتو أُطْلِق سراحُهُ بعد تسعة عشر عاماً، قضاها مسجوناً في سجن طولون، يذوق شتّى أنواع الشقاء والحرمان من الطعام، والنظافة، والنوم، حيث لا يصنفهم مواطنين، بل حشرات لا بد من إبادتها، بإشراف الشرطي “خافيير” الحارس على حرمانه من كافة حقوقه الآدمية ، ومحو اسمه، واستبداله برقم (601)، لمجرد سرقته رغيف خبز، لأخته وأطفالها المتضورين جوعاً، والحكم عليه بخمس سنوات، وأربع عشرة سنة أخرى، لمحاولاته العديدة للهرب، ليس من تنفيذ العقوبة، وإنما من عذاب وظلم مباشرتها (عيناك في الأرض، أنت واقف فوق قبرك)، والتي لم يكفِها السنوات المهدرة من زهرة شبابه، وظرف التهمة غير العادلة، وكونها السابقة الأولى، بل تلحقه بجواز أصفر، تجعل الجميع يرفض عمله، أو مبيته، لينام على قارعة الطريق ، يملأه الغضب والمرارة.
إنسان حر
لننتقل لخط التحوَّل في صراع العرض، ودفعه بصبغة الدين في مباشرة سطحية، عندما كاد “جان” يفقد إيمانه بوجود رب، يجده الراهب، ويقوم بإطعامه وإيوائه، ثم سرقة “جان” للفضيات، والقبض عليه، لكن يُبَرِّئُهُ رجل الدين ، ويحثُّه على اختيار طريق الرب بإعطائه الصليب، فيؤنب “جان” نفسه، ويختار لها بداية جديدة قائلاً: (سأهرب من هذا العالم، سأهرب من عالم جان فالجان، فلم يعد له وجود، وقصة أخرى لابد لها أن تبدأ)، فيخلع دميته عنه، للدلالة على أنه صار إنساناً حراً باختياره.
النقلة الثالثة، يتحوَّل جان بعد أن أصبح عمدة مدينة، وصاحب مصنع تحت اسم العمدة “مادلين”، للدورالذي قام به “الراهب” معه، كرمز ليدي الرب المخلصة، بظهوره عند شك العاملة “فانتين” بوجود الرب، والتي طردت دون علمه بعد وشاية فتيات المصنع، بأن لها ابنة غير شرعية، واللاتي يحقدن عليها، لتفضيل ورغبة المدير، الذي يتحرش بها، ورفضها له، فيجدها “جان” وقد تدهورت صحتها، بعد أن باعت شعرها، وأسنانها، ونفسها، من أجل إرسال مال لمن عهدت لهم بتربية ابنتها، ولا يستطيع “جان” أن ينقذها فتموت، ولكن يعاهدها على إيجاد ابنتها “كوزيت”، في رمزية لإنقاذ المستقبل.
لكن يكشفه “خافيير”، الذي أصبح مسؤول الأمن الجديد للمدينة، الذي يتولى جان عمدتها، ويرفض إعطاءه مهلة، لإيجاد كوزيت، فيهرب جان منه.
لتكون النقلة الأخيرة بإيجاد “جان” لـ”كوزيت”، وتخليصها من سوء المعاملة، وتربيتها، وزواجها من “ماريوس”، الذي يشارك بالثورات للمطالبة بحقوق البؤساء، كما يقوم بدور المخلص لـ”خافيير”، الذي حاول أن يندَسَّ بين الثوار للإيقاع بهم، فينقذه “جان” منهم، ويتركه لنفسه، التي يراجعها، ويخلِّص روحه من قيود إشرافه على عدالة الصفوة الجائرة، ويعود لعدالة المواطن وإنسانيته، بخلع دمية الصقر من يده، وتَحَرُّرِه منها؛ وينتهي العرض بتوفير رغيف الخبز للبؤساء، بوساطة الدين.
وهذه النهاية مغايرة لنهاية الرواية، التي ينتحر فيها “خافيير” لعجزه عن فهم وتنفيذ واجبه، وظلم “ماريوس” و”كوزيت” لـ”جان” واتهامه بالفساد، والوشاية عن الثورة، ثم تتبين الحقيقة، ويعودا ليجداه يموت.
إيقاع العرض
ألغى المخرج خط “تينارديه”في العرض ، ومع ذلك أقحم مشاهد “ماريوس” و “كوزيت” و “إيبونين” وأمها مدام “تينارديه”، التي كانت “كوزيت” في عهدتها، ومشاهد حب”ماريوس” لـ”كوزيت”، وطلب زواجها من”جان ” بمعالجته الجديده لها، ليمثل الكبار أدوار الأطفال، باستخدام العرائس، والتي لم تُضِف للخط الدرامي في العرض؛ بل أخَلَّتْ به، وبالإيقاع، وبِحِسّ الفكاهة (والإفيه)، الذي شكَّل جزءاً من رؤية العرض، وامتلأت بالاستظراف والمط، مما أفسد إيقاع العرض، الذي امتد لساعة ونصف، والذي على أحسن تقدير مع خط الدراما المقدم، لا يزيد عن 45 دقيقة، أي نصف مدة العرض.
الرؤية البصرية
عرض البؤساء لمخرجه محمود حسن جراتسي، ينتمي في رؤيته البصرية وتشكيل فضائه المسرحي، ومعالجته للحدث الدرامي، للتجريد والتجريب، والسينوغرافيا الرمزية الفقيرة، والكاريكتورية العبثية.
التجريب بخلط الدُّمى بالآدميين، كمظهر وجوهر للشخصية، يقتسمان التمثيل، حيث تُشَكِّل الدُّمى وجه التشوه، الذي يحدثه العالم، ويُشَكِّل الآدمي وجه إنسانيته، التي يخلصها باختياره، فيخلع “جان” دميته، التي على شكل شخص قوي البنيان، ويخلع “خافيير” دمية الصقر، التي في يده، وتُحَرِّكُه، عندما يحرِّر كلٌ منهما إنسانيته، ويخلصها مما استعبدها، ودمية “فانتين”، التي رفضت ارتداءَها، لتمسكها بعدم مسخ إنسانيتها كبنات المصنع، وارتدائها لها عندما شوَّهها ظلم العالم والعدالة الضائعة ، ثم خَلْعِها لها عندما مَدَّ الرب يده لها، عن طريق “جان”.
والتجريد في تصوير البؤساء كدُمى من القش الهش، وحشرات يتم رشها بمبيد حشري، أثناء كفاحهم للحصول على رغيف خبز، والتجسيد لنفس جان، التي انقسمت إلى الخير والشر، في شكل دميتين كبيرتين من القماش، إحداهما بيضاء لطريق الجنة، والأخرى بالأحمر، لطريق جهنم ، وتصوير مشاهد الثورة بشكل عبثي كاريكتوري، واقتتالهم كمباراة، يتم التعليق عليها (بساركزم) لفريقين من علب عصير فارغة، يُحرِّكها مجموعة من المؤديين.
والرمزية في تصوير المخرج لفتيات المصنع، نسخ بدون رأس، وملامح بدون أحلام، أو طموح، ليرمز للتكالب الصناعي، واستهلاكه قيمة الإنسان، والظلم الاِقتصادي، الذي يخسف بجهده، فلا يكفي إطعامه ، بينما وضع حذاء لمدير المصنع بدلاً من رأسه، رمزاً لاِنحطاط أفكاره، وقذارة ما يحمله فيها، ورمز الصليب كأهم فضية قد أغفل “جان” عن أخذها، لتكون مرشده لطريق الرب.
لغة العرض دمجت الفصحى باللهجة العامية المصرية، وتعبيراتها المرحة، وبعض الأغاني، واللزمات المصرية، في مشاهد ولحظات الكوميديا، مما أعطاها حيوية واتساقاً، مع رؤيته التجريبة.
وسينوغرافيا العرض، تضافرت لتفسح المساحة الأكبر للتمثيل، واللعب، والانتقال بين الشخصيات والدُّمى بحرفية، والتحكم في تغيير طبقة الصوت بينهما ، خاصة فادي رأفت، الذي لعب دور “جان”، وأمتعنا بأداء منضبط بالشعرة، والتنقل بالدُّمية في خفّة، رغم تلاشي ملامحه خلفها، واستعارة طبقة صوت تماشيها ، كما تميزت لحظاته الدرامية دون أي مبالغة، مع حِس كوميدي دون استظراف، وإن كان الجزء الأخير درامياً، أضعف أداءه، وصار باهتاً بعض الشيء، خاصة مشهد إنقاذه لخافيير، بينما حافظ مينا مجدي، على أدائه، وبرع في التفرقة بين خافيير، ودميته الصقر، وإجادته لتعبيراته، ومشاعره في مشهد خلعه لدميته، أما الممثلة ميرنا أحمد، التي لعبت أكثر من شخصية بتنوع، كانت كتلة من الطاقة، والأداء، والحضور الطاغي، بينما هدير عاطف، التي لعبت دور فانتين، وابنتها كوزيت، لم تنتقل بالأداء مع شخصية فانتين، فبات واحداً بمشاعر خارجية، ولم تعكس تفاصيل الشخصية الفيزيائية، عكس روحها الطفولية، وبساطتها في دور كوزيت ، وقدَّم عمر فتحي، دورالراهب بخفة ظل، وسلاسة في الأداء، لكون الشخصية إنساناً، قبل أن يكون رجل دين.
أما نورا نبيل في دور إيبولين، وحسام إبراهيم في دور ماريوس لم تخدمهما معالجة المشهد، وتوظيفه درامياً، رغم محاولتهما التعامل معه، وتقصمهما دور الأطفال، وإحضار تفاصيلهم، وصوتهم، وحركاتهم باجتهاد.
الإضاءة لأحمد طارق، حدَّدت حالة الحدث الدرامي ، صاغت برودة وعزلة السجن، باللون الأزرق، وإشراقة الحرية خارج السجن، بالأصفر، وبشاعة المصنع ودموية روحه الصناعية، بالأحمر، كما كانت بديل الديكور- مثلما نادى السويسري أدولف أبيا، الذي استخدم الإضاءة كبديل عن الديكور، عندما قدَّم نموذجاً للإخراج الرمزي، في ثلاثية فاغنر الأوبرالية (خاتم نيبلونغن) – بإضاءة الحائط الموجود في خلفية البانوراما، والذي ينقلنا لمكان الحدث مثل إنارة شكل الصليب، لمكان الراهب، وساعد في ذلك موسيقى إسلام علي، التي تراوحت بين صوت البيانو، ليعطي الأمل في الغد، وموسيقى سريعة لاهثة الأنفس، بآلالات حادّة، تُجَسِّد عنف الاِقتتال في الثورة، كما كان مشهد البداية مع موسيقى حالمة بالحياة، وكسرها بموسيقى فزع، وسرينة الشرطة، مع تركيز الإضاءة على رغيف الخبز، في رمزية للقبض عليه، وليس على “جان”، وقد أعطى ذلك حالة بوليسية، بالتتبع مع استعارة موسيقى هاني شنودة، لفيلم المشبوه، للنجم عادل أمام، ومصاحبتها تتر البداية والنهاية في العرض، مع تقاطع الإضاءة على اسم المسرحية، والمخرج، ليكسر حالة الاِندماج لدى المتلقي، وتهيئته للاِستمتاع باللعب، مع لطافة التيمة الموسيقية المستخدمة، مع دمية المراقبة والوشاية.
لعبت ملابس هدير عاطف، لفتيات المصنع، واستعراضهم الغنائي، لاِتهام فانتين، والوشاية بابنتها حالة عودة لزمن الرواية ، مع تصميم ملابس ودُمى جان، وخافيير، كرموز تفيد الخطاب الدرامي، لصفة كلٍ منهما، واجتهاد وفهم رنا شامل، وتنوعها في تصميم الدُّمى المختلفة درامياً، لكن رسم حركتها وتنفيذها، الذي أشرف عليه مهند المسلماني، كان يحتاج لمزيد من التدريب، والدِّقَّة في معنى الحركة.
عرض البؤساء، تجربة فنية مبتكرة وجديدة، أحيت تراث فيكتور هوجو بشكل معاصر مليء بالمشاعر، رغم بعض المشاكل في الرؤية الدرامية، وصبغها بالدين برمز الصليب، الذي يجلب رغيف الخبز للبؤساء في النهاية، وبعض الركاكة في الدِّقَّة التنفيذية، لأساليب التجديد المستخدمة في التناول، وكل هذا لا ينفي عن العرض، تجربته الملهمة.
★ناقدة مسرحية-مصر.