ريم ياسين: “بابا جه” حين يصبح الأب ليس له (لزمة) في البيت!
ريم ياسين★
بين عروض المسلسلات هنا وهناك، والتداول السريع للمَشاهد على مواقع التواصل الإجتماعي؛ للقضايا المختلفة لكل منها، كان “بابا جه” الأكثر بحثاً، وتصدراً بمجرد عرض أولى حلقاته، سواء على مجموعة قنوات دي إم سي، أو المنصات الإلكترونية، فأصبح من أفضل ١٠ مسلسلات على منصة شاهد، وساعد على ذلك مجيئه تحت قائمة المسلسلات القصيرة، وهو من بطولة أكرم حسني، ونسرين أمين، ومحمود البزاوي، ولافينيا نادر، ومن إخراج خالد مرعي، وتأليف محمد إسماعيل أمين، ووائل حمدي .
تبرع بالأب!
تدور أحداث المسلسل حول الأب “هشام”؛ الذي يفقد عمله كمدير فندق، بسبب أحداث كورونا، ليصبح قعيد المنزل، وتتحمل زوجته “ولاء” وحدها شؤون البيت، على الطرفين ، كأم وأب في نفس الوقت، ليسلط المسلسل الضوء هنا، على وقوع الأبناء ضحية العلاقات الأسرية، وهذا التأثير النفسي والذهني؛ الذي يتعرضون له ، من أقل كلمة، فتمثل الطفلة “جودي” نقطة تحول في الحياه العاطلة لهشام، بعد تبرعها، أمام حشد من الناس ، في حفلة المدرسة، بأبيها كشيء ( مالوش لزمة) في حياتها، وهو ما يقلب حياته رأساً على عقب، وبمجرد اندفاع الطفل “زياد”، نحوه، ورغبته في أخذه؛ تبدأ مسيرة “بابا جه”.
إشكالية مختلفة
من المتعارف عليه في المسلسلات ذات القالب الاجتماعي، أنها تعرض المشاكل تركيزاً على التشاجر بين الزوجين، وهو ما ينتج عنه العقد النفسية للأبناء، ولكن قام المسلسل بالتركيز على زاوية مهمة، وهي العُقَد الأبوية، خاصة للزوج، وهو المحور الرئيسي في رسم شخصية “هشام”، وكيف أثرت على حياته بشكل عام، وعلاقته بابنته، بشكل خاص، وعرض تلك القضية في كل حلقة، بشكل مختلف، ولكنه يصب في نفس المنبع النفسي، فمن يمارس السلطة على أبنائه؛ ليدخل صراعاً، ويثبت كفاءته مع والدتهم، ومن يملأ حياته حب العمل؛ ليصل إلى اللامبالاة في مراعاه أبنائه المراهقين، فيصل بهم الحال إلى القضاء، وأيضاً من يصل به الحال إلى استغلال طفله؛ لابتزاز طليقته، وأكثر من قضية طرحها المسلسل في إطار كوميدي، ولكن باستخدام وسيلة التوعية غير المباشرة، في سبيل الحفاظ على هذه البذور الناشئة.
مكنونات نفسية غير مباشرة
في ظل هذا الإطار الساخر، يتخلله عددٌ من الإشارات النفسية، التي توضح رسم شخصية “هشام” ، سواء في حواره مع الشخصيات الأخرى، أو في مظهره العام، فظهر في أغلب المشاهد بأزياء طفولية، مثل ظهوره في مشهده الأول بزي الديناصور، ثم تنوعت ملابسه بعد ذلك، بين الازياء التي تحمل الرسومات، والأزياء الشبابية، فلم يرتدي الملابس الرسمية، إلا بعد عمله كأب للإيجار ، فضلاً عن ارتدائه طوال الحلقات، الحذاء الرياضي، أو أحذية منتزع منها الرباط عمداً ، وهو ما نتبينه من لجوء ابنته للفيديوهات الإلكترونية، لتعلُّم ربطة حذائها، ورده عليها في كل مرة ” أنا جزمي كلها من غير رباط”؛ ليوضح إشارات، أن والده لم يشاركه تلك التفاصيل الأبوية الصغيرة في تعليمه أبسط الأشياء، وتأثير ذلك عليه لاحقاً، بالإضافة إلى هوسه بالألعاب الإلكترونية، التي تصل للحد الذي يؤثر على سيارته التي تمثل مصدر عيشه، بعد كونه عاطلاً، وانبهاره بلعبة المرتفعات في مدينة الملاهي بقوله ( أنا طول عمري نفسي أجرب اللعبة دي ) ، كلها مكنونات عن عُقَد صنعت منه شخصاً لديه نوعٌ من الطفولة المتأخرة، تلك التي لم ينعم بها طوال فترة صغره، فلم تكن طفولته إلا مزيجاً بين القسوة، والتربية السلطوية، التي تضعه في ظروف أكبر من عمره، ويتضح ذلك في مشهد طلب ابنته منه اللعب، فيجاوبها أنه بمجرد رؤية والده كان يختبئ ليس لأنه يلعب “الاستغماية”، ولكن هرباً من (الخرزانة) ، وتأتي شخصية أحمد أمين؛ لتكشف لنا السر وراء كرهه ( للكشري) ، بالتحاور بينهما يتضح أنه كان يقف ٣ ساعات في مطعم والده أمام إناء الطعام الكبير، لا يقدر أن يتفوه بكلمة تعرب عن تعبه ، فيصبح عديم الرجولة في نظر أبيه، وهو مازال صاحب التسع سنوات من عمره، وبمرور المَشاهد يأتي هذا اللوم لعمته، بعدم إنقاذه من العقاب من أبيه، وطلب عمته منه نسيان هذه الأشياء، التي تُعد بالنسبة لها تربية، ليصبح رجلاً شديداً، تبعاً للتفكير النابع من المجتمعات الشرقية ، ليبرز هذا الطفل المسجون بجسده، بقيود من الذكريات الأبوية القاسية، التي منعت نضجه في بيئة نفسية سوية، ووصفه لها في كلمة ” الحاجات ديه مبتتنسيش “.
شخصيات المسلسل
تنوعت الشخصيات بين الرئيسية، والمحورية بشكل يتلاءم مع الخطوط الدرامية المعروضة، فظهرت شخصية “ولاء” بشكل يميل إلى الشخصية القيادية، تلك الزوجة التي تتحمل المسؤولية بجانب كونها أماً وربة منزل، وظهر ذلك من شكل ملابسها، التي تعتمد بشكل كبير على الرسمية، والألوان المتناسقة، مما يضفي على الشخصية، صفة السيطرة، والإمساك بزمام الأمور عامة، وعلى النقيض، كانت تتخلص من هذه الشخصية؛ لتظهر بملابس المرأة المصرية، التي ترعى شئون منزلها، وتهتم بأمور طفلتها، ولكن تتغير هذه المظاهر بعد حصول زوجها على عمل؛ لتظهر في منزلها بملابس منسقة، وشكل يوحي بالراحة، نتيجة لنزول هذا الحمل من على كتفيها، وأيضاً يوجد بها هذا الجانب العاطفي، الذي يتمسك بقصة الحب الناشئة بينها، وبين “هشام” إلى أن وصلت عش الزوجية، فحتى بعد معرفتها بعدد الأكاذيب، التي صنعها “هشام” في عمله، تسامحه للحفاظ على هذا الترابط بينهما، فضلاً عن الترابط الأسري، الذي يجمعهما، وهو طفلتهما، تلك الطفلة التي تظهر في دور المفتقد للوجود الأبوي طيلة الوقت، وظهر ذلك حتى في نظرات اللوم لأبيها، لعدم قدرتها على التصريح بذلك الشعور، الذي يدفعها إلى إحراجه، لرؤيتها أنه لا يعود عليها بفائدة، ولكن أكاذيب والدها تصبح السبيل لها، فتشعر أنها ذات أولوية في حياته، واستخدام تلك الأسرار في تقوية الصلة بينهما، مثل تحضير الطعام الشهي لها ، أو زيادة في مصروفها اليومي، ولكن أكثر ما كان يسعدها مكالمته الهاتفية لها، أو قضاء معظم الوقت معه في غرفتها، وظهر ذلك بشكل يوضح براءة الطفلة عند غَفو أبيها بجانبها، فشعرت بنوع من الحنان الذي تفتقده باحتضانها له، ولكن تنقلب الأحداث مرة أخرى ضدها، بعد معرفة الجميع حقيقة عمل “هشام”؛ ليعود على الطفلة بخسارة مصدر التواصل الوحيد مع “هشام”، مما يوقعها في وسط المشاكل الأسرية، التي تتسبب في التشتت اليومي لها، وبالطبع التأثير النفسي عليها، خصوصاً في مقارنتها مع معاملة خالها “أشرف”، لابنته، ذلك الأب الثري الذي يسعى دائماً، للإمساك بأي خيط ليوقع بـ “هشام”، ويحرض عليه زوجته، وهو شخصية محورية، ساعد على تغيير مسار الأحداث، وإزالة الغطاء عن عيون أخته “ولاء”، ولكن بطريقة يبث بها الشك، ويجعلها تعتقد أن زوجها على علاقة بسيدة أخرى، ودافعُ كل ذلك، هو تفضيل والده لـ”هشام” أكثر منه، وأثر ذلك حتى على طريقة حياته؛ ليظهر في شكل رجال الأعمال، ذوي الأزياء الراقية، والمنزل الممتلئ بالفخامة، اِتضح ذلك بشكل كبير في حفلة عيد ميلاد ابنته، على الرغم من كونها طفلة، ولكن الحفلة كان يطغى عليها مظاهر البذخ والإسراف، ولكن كان أكثر ما يميزه، اِرتباطه بطفلته، وتلبية رغباتها، لذلك كانت على النقيض مع شخصية “جودي”، وهذه المقارنة التي زادت من نوع الخلل في علاقة “هشام”، وابنته.
إخراج واقعي
أحداث المسلسل تميل إلى مظاهر اليوم العادي، فالديكور وظف بطريقة تتناسب مع حالة كل شخصية، فمنزل “هشام” كان يميل إلى كونه منزلاً عصرياً، تبعاً للثروة التي كان يجمعها من عمله سابقاً، بينما منزل “رقية”، يميل إلى الشكل التقليدي للبيت المصري من حيث شكل الأثاث والكراسي، واتضح ذلك بشكل كبير، في احتفاظها بالمفاتيح في علبة قديمة، وهي من عادات الأمهات المصرية، وأكثر ما دل على الواقعية في مشهد رجوع رقية من المشفى، بتصوير كوبٍ من الحليب في مكانه على المنضدة، وأيضاً ظهور ملابس المنزل تحت عباءتها، للإيحاء حقاً أنها مرضت فجأه، ونقلت للمشفى، بينما كان منزل “ياسر”، يدل على شخصيته من حيث الاتساع الكبير، ومظاهر الحياة المرفهة، فكان الأثاث مصمماً من الجلد الفاخر، والزخارف، واللوحات الراقية، وهو ما أبرزته اللقطات العامة، خاصة في مشاهد الديكور، واللقطات القريبة، والقريبة جداً؛ لتوضيح تعابير الوجه للممثلين؛ لإيصال الحالة الدرامية لهم، وأيضا تنوعت الإضاءة بين الليل الخارجي، والإضاءة الطبيعية داخل المنازل، وهذا ما أضفى نوعاً من الترابط الواقع المعاش.
الرسالة الاخيرة
يصبح اهتمامنا الأول والأخير، حول الأجيال الناشئة، وتربيتها في بيئة صحية وسوية، بالإضافة إلي تجنبه للمشاكل العائلية، ومراعاة الأبوين لهذه البذرة التي أوجدوها، وبدلاً من بث هذه السلبيات القديمة فيها، محاولة احتوائهم، وصب الاهتمام حول شئونهم؛ حيث إن الأبناء ليسوا أشياء تُمتلك، أوخاضعين لذكرياتنا السوداوية، فبدلاً من تقيديهم بهذه الأغلال من العادات والتقاليد، يمكن أن نخلق لهم مساحة يبدعون ويفكرون بها، ويحاولون استبدال هذه الحواجز من الخوف والكره تحت مسمى التربية، بصلة من الأمان والرحمة، وأخيراً كل هذه الآراء تقودنا إلى هل كلمة “بابا جه” تدعو إلى شعور الطمأنينة عند الجميع؟
★طالبة بقسم الدراما والنقد المسرحي -جامعة عين شمس -مصر.