مسرح

حيدر الجعيفري: “لعنة بيضاء”..حين يتحول المخرج إلى متفرج على لعنته!

حيدر محمد الجعيفري★

تُعرض على مسرح الرشيد في بغداد، في الأيام القليلة القادمة، مسرحية (لعنة بيضاء)، والتي سبق أن عُرضت في محافظة بابل قبل فترة قصيرة، وسجلت حضوراً جماهيرياً كبيراً ، إضافة إلى الكثير من التناول النقدي للعرض .

قراءة في العنوان:

(اللعنة) تعني الوباء،  البلاء،  سخط الإلهة…إلخ،  تجسدت بأفعال الشخصيات، أما(بيضاء) فهي النقاء،  الصفاء،  العدل،  الإرشاد،  الإصلاح… إلخ، الخير كله، تجسدت بشخصية (أحمد عباس)؛ لتمثل تلك المفاهيم، الخير والشر في كل زمان ومكان، وبالتالي، فالعنوان عند(محمد فكري الجزار) في كتابه (سيموطيقا الاتصال الأدبي) يجب الاهتمام بهِ من خلال المطابقة بين التنظيروالمنهجية،  كي يستقل العنوان بمقاصد نوعية، اِتصالاً أولياً نوعياً بين المرسل والمتلقي، فإن على المنهج الذي ينصب أساساً على العمل، أن يفرد إجراءات خاصة ومتميزة؛ لتحليل العنوان على مستويين:
الأول : مستوى ينظر فيه إلى العنوان باعتباره بنية مستقلة لها اشتغالها الدلائلي الخاص.
الثاني،  مستوى تتخذ فيه الإنتاجية الدلالية لهذه البنية حدودها متجهة إلى العمل، ومشتبكة مع دلائليته، دافعة ومحفزة إنتاجيتها الخاصة بها، هنا المنطوق في غير ما حاجة إلى عنوان يسمه، وهذا الفارق بين المكتوب والمنطوق،  يعود إلى طبيعة الاتصال المختلفة في كل منهما،  ففي المنطوق يحدث الاتصال في زمكانية واحدة، حيث يتواجه(المرسِل/  المتكلم، المستقبِل/ المستمع) في ظل مجموعة من الشروط الخارجية الواحدة، يطلق عليها سياق الموقف، وبالرغم من خارجيته، فإنه قادرعلى وسم المرسلة اللغوية وسماً مائزاً لها من مرسلات أخرى؛  لذا فإن اقتدى بتعريف العنوان سمة المنطوق، فيقوم له بالوظيفة، التي يقوم بها العنوان للمكتوب، وحسب ما تسمح به شفاهية المرسلة.


كأننا في نقطة تفتيش!

  أول خطوة للدخول ومشاهدة العرض، نرى عبارة (دخول المدينة) عنواناً، وضعت أعلى بوابة القاعة الرياضية ومن ثَمَّ الدخول إلى داخل المدينة المظلمة، وسط زحام الداخلين للوصول إلى المكان المخصص للجلوس، نتفاجأ بتسليط أضواء مستقيمة على وجوه الحاضرين من داخل المدينة، وكأننا في نقطة تفتيش، وبحث عن غرباء دخلوا للمدينة،  ومن ثَمَّ صوت يتحدث عن الجمع بين الشيء ونقيضه، والكل خاضع للاختبار، كائن من تكون،  فإنك ستلاقي قدرك،  بالرغم من أنك لا تسير على نهج تلك المدينة ما حييت؛ لتبدأ النغمات والغناء والموسيقى الصوفية الروحانية، وتوجه عرفاني،  بمصاحبة لرقصات الكيروكراف للممثلين، وتشكيل كتل جسدية متنوعة متناغمة مع كل إيقاع؛ لتعطي رقصات بدائية، وطقوساً تحت تساقط لأضواء ذات ألوان مختلفة، لها دلالتها الشاعرية، مع قطع ديكورية على جانبي فضاء مكان العرض، على شكل أعمدة مستطيلة الشكل.

  أول خطوة للدخول ومشاهدة العرض، نرى عبارة (دخول المدينة) عنواناً، وضعت أعلى بوابة القاعة الرياضية ومن ثَمَّ الدخول إلى داخل المدينة المظلمة، وسط زحام الداخلين للوصول إلى المكان المخصص للجلوس، نتفاجأ بتسليط أضواء مستقيمة على وجوه الحاضرين من داخل المدينة، وكأننا في نقطة تفتيش، وبحث عن غرباء دخلوا للمدينة،  ومن ثَمَّ صوت يتحدث عن الجمع بين الشيء ونقيضه، والكل خاضع للاختبار، كائن من تكون،  فإنك ستلاقي قدرك،  بالرغم من أنك لا تسير على نهج تلك المدينة ما حييت؛ لتبدأ النغمات والغناء والموسيقى الصوفية الروحانية، وتوجه عرفاني، بمصاحبة لرقصات الكيروكراف للممثلين، وتشكيل كتل جسدية متنوعة متناغمة مع كل إيقاع؛ لتعطي رقصات بدائية، وطقوساً تحت تساقط لأضواء ذات ألوان مختلفة، لها دلالتها الشاعرية، مع قطع ديكورية على جانبي فضاء مكان العرض، على شكل أعمدة مستطيلة الشكل.

كيف تم توظيفها؟

جاء منزل الجار الطيب النقي، ذا حجم قصير؛ ليعطي المخرج دلالة رمزية بأن قيمة الانسان، تكمن في العقل والحكمة، لا بما يملك من أشياء للتباهي والعلو، والتي وظفها المخرج(محمد حسين حبيب) بأشكال رموز دلالية متعددة، حسب الحدث الدرامي، جعل منها بيوتات المدينة، حملت مفاتيح لكل بيت منها، ومساطب في سوق شعبي، وجدارعازل، وسجن وقاعة محكمة وسلاح،  بينما تم وضع جسرأعلى وسط العرض؛ ليكون في نهاية المسرحية حاملاً للوشاح الأبيض للرجل الأمين، بعدما حاول عبور الجسر للاتجاه الآخر؛ حيث الخلاص من دنس المدينة وأهلها، ولكن لم يتحقق العبور، فتم حرقه؛ ليختفي ذلك العنوان الإصلاحي من الوجود؛ ليكشف لنا المخرج، وبصراحة عن مشاكل الواقع وأثرها النفسي، والفكري، في فشل وانهيار الكثير من منظومات الأخلاق، والعادات والتقاليد والأعراف، والتعليم، وانتشار الفساد الأخلاق،ي والإداري، والمهني، مما أنتج خراب مجتمع كامل.

بيئة سوداوية!

يعلن  المخرج (حبيب) عن رزمة كبيرة من السلوكيات السيئة، والمخالفة للقانون، والتي سادت المجتمع، من خلال فرض قانون تم تشريعه حسب أهوائهم، ورغباتهم، وأفكارهم المريضة؛ ليمثل لهم هويتهم الجمعية، وانتماءهم لهذه البيئة السوداوية، وتعارضها مع مفهوم الهوية الثقافية،  حتى إن عملية التوازن حسب شريعتهم، يجب أن يكون جميع السُّرَاق أغنياء، فقد ضربوا جميع الأنظمة الإلهية، والقوانين الوضعية.


كيف جسَّد الممثلون العرض؟

العرض المسرحي كان قريباً نفسياً، وروحياً من المتلقي، من خلال استخدام تقنية الأداء التمثيلي الجسدي، والتحولات الأدائية في الحركة، والصوت، والانفعالات النفسية، وتبادل الأدوار بين الممثلين في كثير من المشاهد، ومنها مشهد السوق، ومشهد الطبيب، ومشهد سرقة البيوتات، حيث جسّد شخصية المختار الممثل(مخلد جايد)، والذي أجاد الدور بتلك الملابس الدينية، والخلق الفضيل، وقد قام الممثل (فقدان طاهر)، بدور الطبيب، الذي وصل به الحد إلى استغلال المريض إلى أبعد مدى، واستنزاف أمواله، بشتى الطرائق، مما يوحي للمتلقي بأن بعض المهن الإنسانية، فقدت إنسانيتها، وعلمتيها، وشخصيتها، على حساب المصالح الخاصة، وقد أجاد بقية الممثلين أدوارهم ببراعة وإتقان، مع عقدة الحدث الدرامي، المتناغم مع الحركة، والصوت، والأداء، وفي مشاهد أخرى أعطت صبغة جمالية، كما في استخدام المخرج(حبيب) الداداشو في مشهد الحريق المتوافق، مع المشاعل الإلكترونية، والحركة المنضبطة مع الحدث، والتي أحالت بها تفكير المتلقي إلى الأحداث التاريخية، وما جرى على الرجل الأمين المصلح عبر التاريخ، من سقراط، وجيفارا، وهاملت، وكل ثورات الإصلاح،  بينما هناك أدائية كوميدية مرحة، تجلت بالسخرية والاستهزاء، واستخدام الحيلة والخديعة، في عمل الغش والتزوير،  وبالتالي أعطت حرفية في عملية حفظ الأدوار، وتبادل الأماكن، واختزال الزمان، والتناغم، والانسجام والألفة، فيما بين الممثلين والتفاعل مع مكونات العرض.

لماذا استخدم الحصى؟

بالرغم من أن بداية العرض اتسمت بالسعادة، ولكن النهاية اتسمت بالفاجعة والكارثة؛ لأن الذي لا يدوم ويعود على صاحبه بالدمار، هو المال الحرام،  كما جسّده لنا المخرج(محمد حسين حبيب) باستخدام(الحصى) داخل السلال بدلاً من استخدام التراب؛ لأن الحصى مع تلك الأصوات الخارجة، من عملية التعبئة والتفريغ، تأتي متناغمة مع الحدث المتصاعد بجوار المؤثرات الصوتية الصاخبة، عند حلول المساء المظلم، والذي يكون ستراً للسُّرّاق والمحتالين، وصوت الديك عند طلوع الفجر، والذي يرمز إلى الكشف عن حقيقة أهل المدينة،  فالتنوع الزمكاني، جاء مختلفاً في المساء والصباح، وما يحويه من أحداث، ودوافع نفسية، ومكبوتات ذاتية.


مسرح بيئي!

قد نقول بأن المخرج (حبيب) قد استمد تجربته هذه من المسرح البيئي، الذي أسسهُ (ريتشارد شيشنر)؛ لأن الأماكن المتحركة هنا، هي أماكن غير مسرحية أصلاً، يوظَّف فضاؤها المسرحي للعرض، أي إنها تشيد مؤقتاً، كأن تكون في الأزقة، أو الكراجات، أو الحانات، أو الملاعب، أو المحلات التجارية، أو مرائب السيارات، كما عند ريتشارد شيشنر؛  لذا يعتمد المسرح البيئي وفق أسلوب (شيشنر)، خارج إطار خشبة المسرح التقليدية، واعتماد بنية الحدث، كما أكد المخرج المسرحي (ريتشارد شيشنر) في فلسفته الإخراجية على آلية مسرحة المكان، واكتشاف أماكن جديدة لم يُنقب عليها؛ لتقديم عروضهِ المسرحية،  فقد تركز عمل (شيشنر) على المكان، وكيفية تحويلهِ إلى مكان مناسب للعرض المسرحي، وهو لهذا يحتاج أماكن غير تقليدية، من أجل أن تستوعب عروضه المسرحية،  من أغانٍ وطقوس روحانية شعبية، وكانت البيئة المصممة، لاحتواء هذا التجمع الواسع عبارة عن بناء خشبي، يتكون من منصات، وسلالم، وفتحات في الجدران للهرب، ومنصة مرتفعة، هنا تكمن فلسفته على آلية مسرحة المكان، كأماكن جديدة،  في الحياة العادية والطقسية.

التعددية الثقافية والبيئة الموجودة في مسرحية (لعنة بيضاء) نجدها ايضاً عند (بيتر سيلارز)، والذي يقول إن مهمتنا كفنانين هي أن نستجيب، ونسجل ما يحدث، ونضع شيئاً ما على خشبة المسرح، التي تعكس المجتمع بالفعل ، وعند سيلارز فإن المسرح هو كندوة للنقاش المفتوح والمناظرة، ودوره الأساسي الديمقراطي،  ويدافع بقوله:  إن المسرح يوفر بعض الأماكن  العامة الأخيرة المتروكة،  في هذا البلد، والخطاب المدني يجعل الديمقراطية ممكنة؛ لأنه يوفر مكاناً، لا تضطر أن تكون فيه مؤدباً.

بساطة!

قام المخرج (حبيب) بتصميم فضاءات إيقاعية، تمتزج فيها أشكال مقاربة بالإضاءة المتغيرة؛ للتعبيرعن العواطف، وتطورت هذه الفضاءات إلى مناظر غاية في البساطة، وذات منصات، ودرجات وأعمدة، كما فعل (والكروز).


 كما استخدم المخرج(حبيب) الرمزية، كأساليب في مسرحياتهم، تمثلت في محاولاتهم إيجاد أشكال من التوافق الرمزي، بين الألوان، والأصوات، وتداعي الحواس، والتأكيد على النغمات، والنبرات المعبرة أثناء الحديث، بدلاً من التأكيد على معنى الكلام، وكذلك تطوير الأداء الإيمائي؛ بحيث يصور الحالات السيكولوجية بشكل مادي ومباشر، بدلاً من توصيفها بالحوار، والولوج إلى مستوى الواقع بشكل أعمق، مما يعكسه الظاهر السطحي المخادع، وتجسيد الطبيعة الداخلية للنمط الإنساني الأصلي، في رموز محسوسة، كما فعل( ألفريد جاري )

متفرج مثالي!

من الأفعال المميزة التي تحتسب للمخرج (محمد حسين حبيب) في مسرحية (لعنة بيضاء)، هو ما فعله، وتطرّق اليه (زيجمونت هبنر) عن نوع علاقة المخرج بالمتفرجين،  حينما يجلس المخرج في صالة المتفرجين، وبمنظور المتفرج للعمل المسرحي،  فيكون المخرج هو المتفرج المثالي لعرضه، وبالتالي، اِستطاع المخرج أن ينصت إلى مشاهديه عبر طريقتين:
الأولى: هي الاقتراب من المتفرج.
الثانية: فرض السيطرة على المتفرج.


يذكر هبنر بنصيحته للمخرج المسرحي، بأن عليه أن يكون على علم، ووعي بأحاسيس، واتجاهات متفرجيه، حتى لا يقع في استفزاز ردود أفعال المتفرجين غير المتوقعة؛ لذلك يجب أن يجلس المخرج في صالة المتفرجين؛ ليرى ما يحدث، وهذا ما فعله المخرج(محمد حسين حبيب) بينما يطرح (هبنر) بين طيات قضيته الإخراجية، الوفاء للمؤلف، ويتحدث عن الإخراج فيقول: لا جريمة ولا سرقة إذا عمد المخرج، لتغيير فكرة المؤلف،  حتى وإن جاء بفكرة إلباس النص ثوباً عصرياً، فهذه إعادة بناء العمل الفني، لا أكثر، أو هي إعادة صياغة من وجهة نظر المخرج،  ومن خلال اللاوعي، الذي اجترحه فرويد، والذي تتلخص فكرته في أن   المرء يبني واقعه في علاقة أساسية، مع رغباته المكبوتة، ومخاوفه؛ ولهذا فان كل تعبير، سلوكاً أو لغزاً أو خيالاً، هو مجموعة علاقات معقدة تتوسط،  وتتدخل،  في كل ما يحيطها،  وهذا ما تجلّى واضحاً في شخصيات (لعنة بيضاء) .


دلالات:

بينما يحدد (سوسور) العلامة الدالة، أو الرمز الدال بارتباطهما بالمدلول والدال معاً، فاللغة تعتبر نموذجاً للسيميولوجيا؛ إذ هي التي تمدنا بالمعاني والمدلولات، أي أن نموذج المعاني في السيميولوجيا، نموذج لساني، واللغة مكون للسيميولوجيا؛ إذ يستحيل بناؤها ما لم تكن اللغة عنصراً بنائياً فيها، وترجع أهمية اللغة في تشكيل النص، إلى أنها الحاملة للأفكار، والمعبرة عن دلالاته، إنها الشكل الذي يغلف المعنى؛ فهي فك ألغاز النص الأدبي، وهذا ما بدا واضحاً في لغة عرض مسرحية (لعنة بيضاء)، أما لون وتصميم الأزياء، فقد تشابهت فيما بينها؛ للدلالة على عدم التمييز بين الكبير أو الصغير، أو السارق والبريء،  بل سادت سمة الأفكار الضالة، وتطابق الآراء على فعل الشر،  بدلالة عدم الاعتراف بالسلطة السماوية، والتوكل على غير الله،  فهذه واحدة من ثيمات العمل المهمة، التي كانت سبباً في نهاية العرض المأساوية.


★باحث مسرحي-العراق.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى