قصة

محمد أسامة: قراءة في” دمى حزينة “الفائزة بجائزة ملتقى القصة القصيرة اليوم.

محمد أسامة ★

من قراءتي للمجموعات القصصية ، هناك بعض الأمور يعتقد أنها مفرغ منها بين الكتاب. وهي أن ترتكز القصص القصيرة- صاحبة العوالم المستقلة والهوية المميزة- على رؤية أو ملامح شخصية أو مجرد شعور. بدوره قادر على جمع القصص ببعضها وجعلها متآلفة. فتكوّن عنوانا واحدا أو تتجانس مع عنوان قصة آخر. يحمل من كل قصة ولو رشفة بسيطة.

إذن لم يكن غريبًا أن أرى في المجموعة القصصية (دمى حزينة) للكاتب الأستاذ سمير الفيل، والفائز اليوم6 مارس بجائزة الملتقى للقصة القصيرة ، أرى رابطًا تنتظم القصص من خلاله كحبات العقد. تشكل علامة خاصة للمجموعة. قوامها يبدأ من عنوانها: الشخصيات عبارة عن دمى، أمامهم حواجز على مد البصر للوصول لحياة آمنة. حياتهم مظللة بالحذر والتغريب، سحرتهم دنياهم بتتابعاتها الغريبة. غوتهم فاقتطعت من كيانهم، وباتوا أمام ابتسامات الدنيا الماسخة باكين، عاجزين-كما في قال بطل قصة تلك الحواجز: لا أملك عصا وأجهل لغة الذئاب-  في حضرة نقصهم، موسومين بخيانة العهد في المضي لمهماتهم. غلفهم النقص بقوقعة متهالكة، تحاول أن تحاكي دفاعات القنفذ. لكن في تلك القوقعة أعظم شيء لهم! فالنقص أحيانا يولد قوة تؤدي لحركات غير مألوفة تصل للفريد منها، وهو المخلد بين أسطر الكتاب فيما بعد.

وقد أجاد الكاتب في صوغ الرابط، بداية من تكرار اسم “الاستاذ عنبر” في قصتي “سبع تصورات لوردة، والسير في ممر معتم” أو تكرار الصلة بين الشخصيات كوجود ابن العم في قصتي “روبابيكيا، والسلسلة” أو صنع صورة للحالة النفسية للشخصيات وانعكاسها على رائيها كما رأينا في قياس البطل لنفسه طولا وعرضا في قصة “جرح النافذة” فشعر بالدونية، وقياس الطفل في قصة “الحزام الأسود” لطول وعرض الحزام بالنسبة لغريمه فهان في نظره. لتشعر وكأنها إحدى القصص تكمل نقص الأخرى، إلى الوصول لتكوين-أو التقاط- ظروف مجتمعية متقاربة ترسم شعور النقص. فنرى بقصص “بالسوط، روبابيكيا، ذهبت إلى البحر، القنفذ، اندحار مصطفى شيحة، يد المقشة، شرفة مليئة بالزهور، الداء والدواء، نجوم مضيئة، مآسي السيدة ب.” مصفوفة لأطر تكون صورة حية. يتضح فيها معاناة شخصياتها ورثاءها للوازمها المفقودة وكياناتها الممزقة، وانتقال ذلك الرثاء إلى فعل مفاجأ ينعكس على الشخصيات الأخرى بشعور ثابت على الأغلب “الدهشة والصدمة” يشبه تماما الأثر الذي أحدثه قول الفتاة الراقصة بقصة “على الكورنيش ” هو على الأغلب ما جعله الكاتب خاتمة القصة “كلكم بلا آباء غير أنهم يكتمون أسرار نسائهم” .

وفي حالة مكملة ومكتملة أيضًا تتجمع قصص “شرفة مليئة بالزهور، محاولة لرسم مشهد خيالي، مواسم، العجوز والبر، يوم الجمبري، الحزام الأسود، دمى حزينة (سمية المجموعة) ” في جسم واحد لتناصر تلك الدمى الحزينة، أو بشكل أوضح الشخصيات الحالمة. فيسلط الكاتب أمامنا رمز الفراشات وأجنحتها بقصة “الحزام الأسود ” أو الفتاة الوادعة التي هام بها العجوز بقصة “العجوز والبر” أو درجة لون الطلاء التي لم تتغير في قصة “روبابيكيا ” وغيرها من الموجود بالقصص المذكورة، ليركز على أصحابها المتعلقين بالفطرة. وأحلامهم التي قد تبدو بسيطة أو معتادة تناهز ما تقع عليه العين “كأجنحة الفراشة أو الزواج أو مشاركة الطعام بقصة دمى حزينة” ، لكن بالنسبة لواقعهم الضيق جدًا على أرواحهم الشفيفة الحرة -التي تمثلت في قصة ذلك الخشوع-، تعتبر أحلامهم نقطة ضوء متوهج مجاورة للنجوم في السماء، يتمنون أن يصلوا إليها.

 بينما على الجانب الآخر تأتي قصص “الزرقة المخيفة، شيء من السوسن، السلسلة، سطح يرى القمر بوضوح، مواسم، دمى حزينة” إسقاط على الواقع الثابت. العاري الذي لا حيلة فيه، فلا يقف لأحد. يتبلور بشكل أكبر في قصة “الزرقة المخيفة” بحديث مقتضب بين الممرضات والابنة الباكية على أبيها:
‫ قالت لهن: إنه أبي.‬‬
‫ قلن لها بهدوء مشوب بالحزن: كلنا لنا آباء.
ومنه تتفرق ردود الأفعال، التي في النهاية تؤدي لرد فعل فجائي كما ذكرنا، منها البكاء والرثاء كما قصتي “مواسم، وشيء من السوسن” أو الصراخ والإعراض عن مرارتها كما فعلت الفتاة مع الدمية التي احتضنها الثعبان في  “دمى حزينة” أو التدرع بالتيه كبطلة قصة “السلسلة” أو كرمز الكتب المصفوفة على الجدار المطلي بقصة “روبابيكيا”، أو حتى صحوة عقلانية، كما في قصة سطح يرى القمر بوضوح، حين مزقت الفتاة حلمها بيديها، لأن ثعبان الواقع احتضنه، فصارت ترى بوضوح عوار حلمها.

لكن إن تعمقنا أكثر بالقصص سنجد أن القاص -الحائز على جائزة الدولة التشجيعية في فرع القصة القصيرة عن المجموعة القصصية جبل النرجس عام 2016- انتقل إلى ما هو أكثر خصوصية في عقد الصلات بين العوالم المستقلة. حيث نجد في القصة الواحدة أبطالًا متعددين لحكايات مختلفة، يتجمعون في نهاية حكايتها على نقطة، تغلفها ما، تنبع منها الفكرة، أو يستقطر منها صورة وسيطة-أي تجمع بين بصمات تلك الحكايات- قابلة لوصف مجمل لحالتهم بعد تفصيلها.

 أتت البداية-ومن دون استغراب- في قصة “خمسة فناجين قهوة سادة” عن طريق نملة. أجل، فوظف الكاتب من مستهل القصة لقطة سريعة عن انحراف نملة من شق قديم، يُظن على الأغلب بأنه رمز لموقف الراوي المتكلم “كما يقول أيضًا: وكل كائن معرض للانحراف أو في تندر إحدى الشخصيات على الراوي (ستموت وأنت تسير بجانب الحائط) ” -أو شاهد الحكايات- الذي انحرف عن الوتيرة الثابتة للقص بتلك المجموعة. أي انتقل من تتبع حياة واحدة، بتقليص نفسه معظما روح المكان،  المستلهم لحكايات متداعية على ذهنه، تجمعها شيء وظيفي للمكان ذاته، وهو طلب “فنجان قهوة سادة” بالمقهى. فاستطعنا بسلاسة صاغها الكاتب رؤية دنيا مصغرة تحفها الفلسفة من أصغر شيء – مثل طرافة تفسير شخصية حسين الطويل لجملة  “نار يا حبيبي نار.. فول بالزيت الحار”. حين قال:  من لا يمر بتجربة حب لا يقبل تلك العلاقات الغامضة. – إلى أكبر المسائل، والذي يتضح بشخصية منير ومرض زوجته بمزجه لمقولة شكسبير الخالدة “أكون أو لا أكون، تلك هي المسألة ” ورؤية امرأته لفلسفة المرض والموت. التي تتشكل نهائيا بنظرته للعجلة الضخمة، للتلاحم مع الفكرة الأساسية. أي نظرة الدنيا للإنسان، بكونه نملة صغيرة جدًا ودور العجلة أن تسير به كما ستسير بغيره، من التوهج إلى الإظلام 

لذلك كانت هناك ضرورة لوجود شخصية “الحاج توفيق” الراحل، لاستجلاب الفكرة الأساسية بنهاية القصة. بصفته ناقلًا لحكمة الدنيا، لأنه علم حقيقتها حين تركها وتركته.

سمير الفيل

ومثلما كان الرابط لإيضاح رؤية الكاتب عن حقيقة الدنيا بواسطة نملة. ساق تصوره عن مزيجها الفريد للمشاعر والمواقف- الهزلي منها والتراجيدي- عن طريق وردة. فرأينا قصة “سبع تصورات لوردة ” وتشعبها لسبع قصص صغيرة “الكتمان، شقة للإيجار، صداع، أبو فصادة، مسافة، وردة تسقط، قبلة طياري” تحكي في كل منها شيئا عن الحياة. وترسم لمحة منها كلعبها على المشاعر غير التامة كما في تلهف بطرس لخطيبته بقصة شقة للإيجار، أو عم عثمان المتيم بالحب بقصة الكتمان، وإرسائها لمبدأ ذكرناه سلفا عن وجوب النقص لسكانها، إيمانًا بأنه منبع الحركة إما جسمانيا وذلك في تلهف طه العايق لحبيبته التي تضع له حدا لقربه بقصة “مسافة” وإما خياليا، فيمد فرغلي الجامد خيوط اللقيا لولده الراحل كل ليلة

بنهاية كل قصة حرص الكاتب-بطريقة أشد من القصة السابقة- أن يكون العنصر المجمع “وردة القرنفل” متلازما مع أبطال القصة. كأنه يقول أن الوردة الرحبة بالتصورات التي طرحها، ربما هي أصل الدنيا بتماثل في وجود الشوك”اللحظات الصعبة” ووجود الزهرة “الأمل واللحظات الطيبة” وأن ساكنيها الذين لا يدركون حقيقتها على طول الخط، دمى تتحرك بخيوط القدر دون فهم، حزينة لأنها واقعة إما في حذر من فوح الطيب أو في رثاء من عثرة الأشواك.


★ناقد-مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى