إذاعة وتليفزيونرأي

طارق بن هاني: دراما الشباب الخليجية… إبداع وتجديد أم اعتباطية؟!

طارق بن هاني ★
بينما ينفصل الإبداع عن صاحبه، يصير مسخًا بلا هُويَّة، ولا أعني الهُويّة الجُغرافيّة والأيديولوجيّة، بل هوية المُنجَز ذاته، والتي تلتبس بهُويَّة المبدع، فيصدر عنهما ما لا يمكن أن يكون إذا انتفيا. ذلك النوع من الإبداع الذي يصفه الناقد د. محمد مندور (الأدب ومذاهبه ص:17) فيقول: “…[إن] أي أدب سواء أكان ذاتيًّا أم موضوعيًّا لا يمكن أن يخلو من شخصية الأديب ومن طابعه الخاص الذي تتميَّز به عبقريته […] تتركز شخصية الأديب وعبقريته المميزة فيما يسميه الأوربيّون بالأسلوب عندما نراهم يقولون “إن أسلوب الرجل هو الرجل نفسه”.”، وإن كانت مقولته مخصوصة بالأدب، فإنها تنطبق على الإبداعِ كلّه من جهةِ العلاقة الشَّرطيّة بين المبدع، ومنجزه، ليكون أحدهما شاهدًا على الآخر، لاسيَّما وإن الإبداع على تنوع طرائقه كثيرًا ما يتماسّ مع بعضه، إلى الحدّ الذي يوقع دعاة نقاء النوع في حرج.
وقد يُلاحَظ في الدراما الخليجية إنْ على مستوى المسرح، أو التلفزيون، أو السينما، حرص المبدعين الشباب على التجديد، وهو أمر يفرضه توق الشباب إلى الجديد من ناحية، ومن ناحية أخرى الفطرة التطورية للفنون المحلّية لحظة انفتاحها على الآخر (الكونيّ) إذ سرعان ما تحتذي ما عنده، لكنه يظلُّ تقليدًا صِرفًا، أو تجديدًا شكليًّا سطحيًّا حتّى يتأصَّل تأصُّلا يُكسبه هويته وماهيته الخاصَّة، فيكون كونيَّا من حيث أصله، محليًّا من حيث ما انتهى إليه، بالقدر الذي يرتبط فيه بمبدعيه ومبتكريه.
ولكن أنَّى لنا ذلك؟ فالتجديد الذي عمَد إليه المسرحيَّون الجدد – في مسرح المهرجانات تحديدًا – هو الإيغالُ في الترميز، وتشظيَة المعنى، والإغراب. وتجديد التلفزيونيين والسينمائيين يُكثر هو الآخر أحيانًا من التشظية ذاتها، والنهايات المفتوحة، والليالي الحمراء، والافتعال، والحوارات الساذجة، بالإضافةِ إلى قصص الجرائم الأمريكية إلى غير ذلك من الأمثلةِ… وليس الإشكال في الاستعارة والتجريب، لكنَّه في مدى وعي المبدع بخياراته أولاً، وفي مدى اتّقائه لركوب الموجة، لأنّ الأمرين معا يعنيان أننا لسنا في صدد خلق إبداعيّ خاص ولا تجديد، وأننا إزاء اعتباطية قد تكرّسها مآرب ركوب الموجة، وركوب الأمواج – عبر التاريخ – لم يصنع مبدعًا، ولا إبداعًا ولا تجديدًا، وهو ما قد ينتج عنه في نهاية المطاف انتفاء احتمالات أن تكون لنا دراما موازية لأخواتها في العالم وهي الدراما التي تنطلق من فضائها شديد الخصوصية، ولكنها تعود إليه وإلى العالم (الكوني) في حينٍ واحد، فبمجرد أن نلقيَ نظرة على الدراما السوريَّة، والسينما الإيرانيَّة مثلًا، سنشعر بحالة سورية فريدة، وأخرى إيرانيّة، ولا يمكن أن يكونا إلا كذلك. ولا يعني هذا، أن الدراما الخليجية، صفر من كلّ إبداعٍ أصيلٍ، بل ثمَّة إبداعات نوعيّة، ولكنها دائمًا ما تأوي إلى جبل يعصمها.
إذن فالتجديد الذي نلاحظه في الدراما لا يتجاوز – غالبًا – التقليد أو التجديد الشَكليّ، لكونه لا يقوم على أساسٍ جماليّ / فنيّ متين، لا لسوءٍ، أو لضعف في إمكانات المبدعين، بل لأنَّ التجربة – في مجملها – جديدة؛ فالتجديد وإن كان على مستوى الأشكال أو الهياكل العامة جُرأة تحسب لأصحابها، لا عليهم، إلا أنه لا يكفي، ولا يلغي ولا ينبغي أن يلغي أهمَّية التجديد على مستوى الموضوعات / المضامين، ومن الخطأ ألا نعترف بذلك!
إنني أزعم أن أكثرَ الأعمال عبثيَّة، وتسييلًا للمعنى، وتشظية له (في انتظار جودو- صمويل بيكيت، مثلًا)، تؤسس هُويَّتها، من خلال ارتباطها بما يريد أن يقوله المبدع من ناحيةٍ، والدوافع التي حدت به إلى قول ما يقوله. فنحن إذن إزاء موضوع، وموجِّه – واضح – لذلك الموضوع. أزعم أيضًا أن معظم الإبداع الرصين لم يغفل هذه المعادلة، إن بوعيٍ ذاتي عند المبدع، أو بوعي جمعيّ فرضته الساحات الإبداعية الناضجة… ومع غياب الوعيين عن ساحتنا – على ما يبدو -، فإننا كثيرًا ما نقف على تجارب معاصرة جديدة شكليًّا، فيما تظل المضامين سطحية، ولا تستوفي الحدّ الأدنى مما يجمل بالدراما أنْ تنهضَ به.
إننا في الغالب، لا نبذل لتجويد النصوص والأفكار والموضوعات والشخصيات، ما نبذله من أجل تأنيق الصورة، ولا نتساءَل عمَّا إذا كان الشكل الذي سنقول بواسطته سيعبِّر عن وعينا بمضمون ما سنقول أم لا؟ فنحن إذن لم نصل إلى وعي يمهّد لتجديد تامّ، بل تجديد جزئيّ، شكليّ، ولذك فإن المبدع المجدّدْ حتى يكوِّن هويته، ويخلق هويّات ما يبدعه، لا مناص له من مناخٍ يقوم على القراءة الواعية، والنقد الواعي، والدراسة الواعية، والاعتراف بالأخطاء، وهذه شروط لا تشغل كثيرا من المبدعين ولا تقع ضمن أولوياتهم. هذه إذن بعض ملامح أزمة التجديد، إننا ننادي بتجديدٍ، يفقدُ كثيرًا من أسبابه.


★طالب في كلية اللغة والدراسات الإنسانية-الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى