رأيمسرح

د.سعداء الدعاس: رانا أبو العلا.. أربعون يوماً من الصمت!


د. سعداء الدعاس★

من يصدق، أن من كان يُعد الموضوعات للنشر، بات هو ذاته موضوعاً للنشر!؟.. سؤال سيطر على ذهني منذ اللحظة الأولى، التي قرأتُ فيها مقال علاء (إلى ابنتي الحبيبة رانا أبو العلا)، وذلك أثناء وجودها في العناية المركزة، باعتبار ذلك المقال، أول مادة صحفية تُكتب عنها،بعد ساعات من الحادث الأليم.
​اِستمرت تلك الفكرة، تنهش رأسي بأنيابها الحادة، كلما توالت المقالات المؤثرة، من أحبة رانا وزملائها، والتي كنت أقرأها بإيعاز من علاء، بعد أن انقطعتُ عن الِاطلاع على مجلتنا الحبيبة (نقدXنقد) لأيام طويلة.
كنت كلما أقرر فتح الموقع، أتساءل: كيف لي أن أدخل منزلاً،غابت صاحبته عنه!؟ فأدركتُ ضرورة الِابتعاد عن المجلة في تلك المرحلة؛ لم يكن من السهل رؤية اسمها، الذي يتصدر الصفحة الرئيسة، والذي قررنا – علاء وأنا – أن نُبقي عليه، تخليداً لذكراها.. وتقديراً لإخلاصها وتفانيها.
كانت رانا بالنسبة لنا أكثر من مجرد سكرتير تحرير، فرغم لقاءاتي المعدودة، معها، وعلاقتي القصيرة بها، والتي بدأت مع تأسيس المجلة، إلا أن شخصيتها العفوية، وأخلاقها العالية، وروحها المؤثرة، عبر رسائلها اليومية، جعلت منها الِابنة، والصديقة، وشريكة الحلم.. التي لا تنفك تُخطط للمجلة، أكثر مما كنا نفعل نحن، تُرسل إلينا أفكارها، بصورة شبه يومية عبر رسائل بصوتها الطفولي البريء، وبحماس (فتيات القوة)، تضع المقترحات، وتُحدد الأسماء، وتُجدول الفعاليات، وتظل تُبحر في أحلامها، كأي شابة طموحة نشيطة، ترسم مستقبلها البهي…
هكذا كانت معضلتي في الكتابة عنها أيضاً، فكلما دنوتُ من جهاز اللابتوب، لأحكي علاقتي بها، أو أصبحت محبتي لها، عاد السؤال، ليسيطر عليّ من جديد؛ هل أصحبت رانا مادة للنشر!؟ الأمر الذي جعلني أهجر النشر مذ حينها.. ليكون هذا مقالي الأول، منذ ذلك اليوم الذي وقعت فيه رانا، رهينة سرير العناية المركزة، بعد أيام قليلة من مقالها المميز عن مسرحية “الرجل الذي أكله الورق”، على صفحات المجلة، ومن ثم اللقاء الرائع، الذي أجرته مع الإنسان الفنان د. حازم شبل.
لا أعرف إن كانت تلك الفكرة، التي سيطرت على ذهني، السبب الوحيد الذي جعلني أهجر النشر، أم أن ذكرى إعداد آخر مقال لي – قبل الحادث مباشرة – كانت سبباً في ذلك أيضاً!؟
كان المقال عبارة عن (بانوراما للمهرجان القومي -2)، نشرته رانا بأناملها في يوم 24 أغسطس، فقضينا سوية عدة ساعات، أنا وهي نجهز الصور المرفقة لكثرتها وتشعبها؛ حيث قامت بمراسلة المصورين، ثم عملت على دمج الصور، عبر برنامج خاص بذلك، أما أنا، فكنت أبحث عن الصور المتبقية في الإنترنت، أو أستعين بالاصدقاء، لإمدادي بها، إلى أن جاءت لحظة النشر، تلك التي تظل فيها رانا في حالة تأهب، تحسباً لأي تغيير، وكثيراً ما كان يحدث… وهو أمر مرهق بحد ذاته، ولا أعتقد أن هناك شخصاً قد يحتمل الدِّقَّة، التي أعامل بها مقالاتي، كما كانت تفعل هي، بكل حب ولطف.
خلال تلك الخطوات، كنا نضحك أكثر مما نشتغل، نعلق على كل صورة، نكبرها مرة، ونصغرها مرة أخرى، ونستبدلها مرة ثالثة، ونتجادل حول تعليمات علاء، الذي كنا نطلق عليه فيما بيننا الـ (Boss)، فنضطر لتنفيذ وجهة نظره أحياناً، ونحتال عليه أحياناً أخرى، بل إننا كنا نستمتع، ونحن نخطط سوية لتنفيذ ما يريد، دون أن نخسر ما نريد، أما حين يكتشف حيلتنا- وكثيراً ما يفعل- نظل نضحك، ونرسل التعليقات لبعضنا البعض، حتى نجعله يشاركنا الضحك… ظللنا هكذا منذ أن أسَّسنا المجلة، قبل عدة أشهر، إلى أن أغمضت رانا عينيها في 29 أغسطس 2023، فذابت ضحكتها المُبهجة إلى الأبد!

الأميرة النائمة!
إحدى إشكاليات شخصيتي، العاطفية جداً، أنني أقع –وبسهولة – رهينة المقارنة في مثل تلك المواقف، حيث يظل عقلي يرصد الصور، ويقارن ما بين (قبل وبعد)، وأعتقد أن الإشكالية تفاقمت، حين قررتُ في لحظة غير محسوبة العواقب، أن أدخل إلى غرفة العناية المركزة لمرتين متتاليتين.
كان قراراً جمعياً، كذلك الذي يُتخذ في التجمعات والمسيرات، حيث الحماس، يجرف البشر، دون دراسة أو تخطيط، هذا ما فعلته بالضبط.. كنت أخطو دون تفكير، أفعل ما يفعله الآخرون بانسيابية، فوجدتني فجأة أسير كالنائم، رفقة الأجساد التي انتقلت بسرعة البرق إلى العناية المركزة، وأثناء الانتظار عند الباب، نطق عقلي أخيراً، همس لي: “لا يمكنك تحمل ذلك المشهد، الصورة الأخيرة لن تفارق مخيلتك”، لكني تجاهلته، وانصعت إلى الجمع الغفير، الذي كان يتجمهر أمام الباب.. كنا أعداداً كبيرة، فحاول المسؤول عن العناية المركزة، تقسيمنا إلى مجموعات، لِنُطِلَّ عليها في مدة لا تتجاوز الدقيقتين، حتى يتسنى للجميع رؤيتها، نعم.. كان الكل يريد رؤية وجهها، رغم يقينهم من أنها في غيبوبة تامة، ربما لأنهم جميعاً أدركوا في قرارة أنفسهم، بأنها ستكون اللقطة الأخيرة!
في المرة الأولى، وما إن رأيتها ممددة على ذلك السرير، محاطة بالأجهزة، لم أستطع السيطرة على دموعي، التي تغدر بي دائماً، في مثل هذه المواقف، فانهرت تماماً، وكرهتُ ضعفي كثيراً.. كم تمنيت أن أكون قوية، كم حاولت أن أكون قوية، أمام عائلتها على أقل تقدير، لكني عجزت عن ذلك مع الأسف.
ظلت صورتها البشوشة، مسيطرة على خلاياي العصبية والحسية، أتذكرها تبتسم هنا، وتضحك هناك، وأقع فريسة التساؤلات من جديد: كيف لإنسان كان بكل تلك الحيوية أن ينام في سبات عميق، رغم أنه محاط بكل هؤلاء البشر.
حين نظرتُ لوجهها الساكن، لا أعرف لماذا تذكرت (الأميرة النائمة)، هل لأن ملامحها، كانت جميلة جداً، نقية جداً؟! كرسوم قصص الأطفال، أم لأني كنت بانتظار نهاية سعيدة، كنهايات قصص الأطفال؟!
في المرة الثانية، حاولت أن أكون أكثر تماسكاً، وتحدثتُ إليها، كما أوصاني علاء؛ طلبتُ منها أن تصمد، لتعود إلى والدتها وأخواتها، إلينا جميعاً، ذكّرتها بأن الله معها، وبأنها في حمايته، وقبل أن أغادر لمحتُ طرف أسنانها، فتذكرت رحلتها مع طبيب الأسنان، وفرحتها بانتهاء التجربة، والنتيجة الرائعة التي وصلت إليها، وخرجتُ من الغرفة رهينة للمقارنات، بين اللحظة التي كانت تسعى فيها شابة بعمرها، لتحقيق أحد أحلامها الصغيرة، واللحظة التي قرر فيها القدر- لحكمة إلهية – أن تغادر تلك الشابة الدنيا، قبل أن تستمتع بتحقيق ذلك الحلم الصغير… فغادرتنا رانا، محفوفة بدموع الأحبة، تاركة منجزاً نقدياً يفوق سنها، ومحبة تليق بقلبها، ودعاءً صادقاً بالرحمة والمغفرة، سيظل يسكن قلوب محبيها إلى الأبد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

★مدير التحرير 

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى