مسرحمشاركات شبابية

(نوستالجيا) التأرجح بين الموت والحياة

آية الكحلاوي*

عن مسرحية “قصة دببة الباندا التي يرويها عازف السكسوفون الذي له خليلة بفرانكفورت” لميتيي فيسنيك ترجمة عبد المجيد الهواس، تمخضت مسرحية نوستالجيا الأمس على مسرح الفلكي بالجامعة الأمريكية ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، ليعيش الجمهور هذيانات البطل (بيلهول) في صراعه الأخير مع الموت والحياة.
دراما عبثية وجودية قدمها المخرج الجزائري لخضر منصوري في ديودراما ذكو أنثوية، لأن الحياة في عنفوانها لا تتمثل إلا بين ذكر وأنثى، ولكن هل الأنثى في العرض تحمل فلسفة الموت أم فلسفة الحياة؟!، هذا ما يواجهنا به العرض ضمن ثنائيات تحمل الشيء ونقيضه كالموت والحياة والضوء والظلام.
تدور المسرحية حول السيد بيلهول الإنسان المنعزل الوحيد عازف الجيتار الذي يستفيق في ليلة ليجد بجانبه امرأة لا يعلم من أين أتت!، فتشرع في تذكيره بالليلة السابقة التي قضياها معا وهو يعزف لها الجيتار ويقرأ لها نصوص بودلير، وينشأ بينهما حوار لا تواصلي شبيه بحوارات التيار العبثي، حيث يسألها عن إن كانا مارسا فعل الحب (رابط الحياة) وهي تسأله عن منبهها ذلك الذي لا يفارقها وكأنه (ناقوس الموت)، تريد المرأة الانصراف ولكنه لا يريد أن يضيع فرصته الأخيرة في التشبث بالحياة ويطلب منها البقاء لسبعة ليال وتنصرف وقد وعدته بذلك ونعيش معهما السبع ليال التي لم يظفر فيها الموسيقار في النهاية إلا بالموت.


المرأة=الموت؟
من مزايا المسرح التجريبي أنه يشعل على الخشبة أسئلة جمالية يستطيع المتلقي الإجابة عنها عبر عدة تفسيرات كلا منها صحيح، وفي رؤيتي أن المرأة لم تكن في النهاية سوى الموت ولكن السيد بيلهول ارادها الحياة في هذيانه الأخير( هذيان الموت) ، احتضار الموت الذي فجر فيه نوستالجيا محمومة تجاه الماضي والحياة التي انقطع عنها، فنعيش معه خلال سبع ليال صراعه مع الموت الذي تجسد له في صورة امرأة دخلت عليه شقته دون مفتاح وتتردد عليه في أي وقت وتدخل دونما يشعر بها، ظنها الحياة تداعبه فأراد أن يعيشها ويتمتع بها قبل أن يموت ولكن الحياة لا تدخل لأحد عزلته ولا تقتحم وحدة أحد بل تريد من يخرج إليها، أما الموت فأنه يفعل ذلك ويذهب للإنسان أينما وجد حتى في زنزانة صندوقية، هكذا التقى بيلهول بالموت الخادع منفرد محموما في غرفته وحيدا.
7 ليال.
برع أداء فتحي مباركي الجسدي في تجسيد هذه الحالة السابقة، من خلال توترات الجسد وتشنجه المستمر خلال العرض كمن تنتابه حمى الموت، ونجح من خلال الايماءات واللعب بالوجه أن يستخرج شحنة الحنين إلى الحياة والماضي، والرغبة العارمة في عيش هذه الحياة والاتصال بالماضي حتى ولو لمرة أخيرة قبل الموت، فهو لم يعش تلك الحياة أبدا نتيجة الحبس الاختياري الذي وضع نفسه فيه، أو ربما بسبب القيود والخطوط الحمراء التي كبل بها والتي حرمته من الاستمتاع بهذه الحياة، فها هو يحاول أن يعيش الحنين للماضي بمساعدة المرأة التي اقتحمت حياته، فهو يحن لأمه وأخواته الذين رحلوا والتي كانت والدتهم تزرع شجرة باسم كل واحد منهم وترعاهم، وها هو يعيش آخر سبع ورقات في شجرة التفاح الخاصة به يتساقطن واحدة تلو أخرى مستسلما للموت بعيدا ووحيدا عن عائلته.
تبدو الليالي السبع التي قضتها المرأة مع السيد بيلهول وكأنهم سبع جلسات سيكودراما تحاول من خلالها المرأة مساعدته في تفريغ المكبوت داخله من رغبة جنسية ورغبة للحياة ورغبة في الماضي، هي تساعده حتى في التفريغ عن نفسه بقول (آه) بشتى الطرق، ولكنها في لحظات ما تسحب منه روحه وكأنها ملك الموت حتى تظفر بتلك الروح في النهاية، فكانت المرأة التي أدت دورها أسماء الشيخ باقتدار رهيب حيث قدمت تناقضات الحياة والموت بإحساس عال، فشخصية المرأة التي قدمتها وهي المرأة المتحررة والمباغتة وغير المتوقعة والقوية المسيطرة والتي تمشي بمنبه وكأنه منبه الآجال، كل هذه صفات الحياة وصفات الموت كذلك.


قبل الفرجة.
عبرت الموسيقى عن هذا الحنين وهذه الرغبات المنبعثة من مكنون السيد بيلهول، فأعطت للعرض ثقلا كبيرا وأخرجت شحنات نوستالجيا أيضا من دواخل المتفرجين، ولا سيما تلك الموسيقى التي انبعثت قبل رفع الستار أثناء انتظار العرض مما ساهم في خلق استعداد نفسي وروحي للمتلقي قبل الفرجة.
السينوغرافيا التي وضعها لخضر منصوري بنفسه جاءت فلسفية في ديكورها، حتى في الاضاءة رغم بساطة عرضها، فالديكور جاء رمزيا تجريديا عبارة عن ستارتين شفافتين لم نتبين وظيفتهما غير أن أحداهما استخدمت كدش استحمام، ونافذة في الخلف رمزية عبارة عن إطار أحمر هي النافذة الوحيدة على الحياة، قد تكون دلالة على الخطوط الحمراء التي منعت بيلهول من النظر منها للحياة والاستمتاع بها، كما تم استخدام حوائط الكواليس كجزء من الديكور كالمطبخ والحمام، بجانب السرير المهمل الذي يدل على الرغبة الجنسية المفقودة عند بيلهول والتي هي منطلق الحياة، أما هو فلا يخرج من دائرته المؤطرة والتي تقتحمها المرأة وتشاركه فيها، هذه الدائرة هي الرمز الأول للعبثية حيث التكرار والرتابة والملل واللاجدوى، وفي العرض هي دائرة الحياة والموت المتصلة، ففي الموت حياة وفي الحياة موت كحالة بيلهول الذي التقى بالموت والحياة معا في لحظة واحدة تجسدا في المرأة.
أما الإضاءة فكانت عبارة عن إنارة عادية تضيء الركح وتنقطع فجأة فيظلم لتقدم ثنائية النور والظلام الملاصقة لثنائية الموت والحياة، وتقطع هذه الإنارة اضاءة صفراء كثيرا لتعبر عن حالة الحنين للماضي.


ملل أحيانا.
لم يستطع لخضر منصوري قطع رتابة الأحداث ومللها فكان العرض أحيانا يبعث على الملل قبل أن تلحق الموسيقى الموقف أو رقصة ما لتنتشل المتلقي من هذا الملل الذي كان مصدره التناول الفلسفي للعرض والحياة الكئيبة التي يحياها انسان منعزل عن الحياة، وكذلك السينوغرافيا المجردة.

تنسى كأنك لم تكن.
هكذا انتهى عرض نوستالجيا بموت بيلهول وتغطية جسده من قبل المرأة بعدما ساعدته في تفريغ مشاعره طوال سبع ليال ثم تركته وهبطت نحو الجمهور وهي تنظر إليهم وكأنها الموت الباحث عن ضحيته الجديدة، إن استدعاء محمود درويش في ختامية العرض مع هطول الصور بالاسقاط الضوئي في الخلفية أعطى للعرض جمالية أخرى وحنين آخر ونوستالجيا أخرى.

خلاصة ما سبق نحن أمام عرض فلسفي كما يحب رواد المسرح التجريبي، عبر فيه لخضر منصوري عن فلسفة الموت والحياة وعلاقتهما بالإنسان، فعبر عن حالة إنسانية لم تستطع معرفة فلسفة الوجود، ومات وحيدا في النهاية بعدما تلاعب به الموت والحياة.

نوستالجيا عن مسرحية قصة دببة الباندا ترجمة :عبد المجيد الهواس. إخراج وسينوغرافيا :لخضر منصوري. إضاءة :مختار موفق. موسيقى :أمين دهان. تمثيل: أسماء الشيخ ،فتحي مباركي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

★ كاتبة – مصر 

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى