أخبار ومتابعات

الأنقياء يرحلون دائما يا رانا.

* علاء الجابر

ها نحن نعود من المقابر الموحشة… بعد أن تركناكِ وحيدة بين يدي الله. كنتِ منذ أيام قليلة تشاركيننا الأحلام والطموحات، تطرحين الأفكار، ترسمين خطة العمل باحتراف ومهنية، واليوم تغادريننا بلا تمهيد.

يا لوجعنا يا رانيتنا الجميلة، أصبحتُ على خبر رحيلك فشعرتُ أن الدنيا توقفت تحت قدمي، لا أدري كيف نقلت الخبر لسعداء التي ظلت تردد بألم وبكاء: “علاء لا تقول”!

نعم يا سعداء رحلت رانا….لأن هكذا هم الأنقياء، يرحلون عنا سريعا، وكأنهم يرفضون هذه الدنيا التي لا تتسع لقلوبهم الطاهرة البريئة، هذه الدنيا المزيفة التي يزداد فيها الكثيرون توحشا على كل شيء حتى توافه الأمور، متناسين أن الحياة كالومضة، لقطة سريعة، وهكذا أنتِ يا رانا حكاية  جميلة لم تكتمل، فالحكايات الجميلة، لا تكتمل إلا في الأفلام والقصص فقط.

ترحلين فجأة يا بنيّتي الحبيبة ..وتتركين قلوب محبيكِ مثخنة بالجراح والحزن والألم .

تغادرين سريعا طاوية ملفات كثيرة خططنا لفتحها، أحلام شرعنا بنسجها، ومشاريع رتبناها سوية.

آخر صورة للراحلة معنا
آخر صورة للراحلة معنا

منذ أول يوم قبل ٨ سنوات التقيتكُ في ورشة الكتابة التي أقمتها في جامعة عين شمس ..كنتِ تخطين أولى خطواتك في مشوار النقد، هادئة، صامتة من بين جميع الموجودين الذين كانوا منطلقين يعلقون ويضحكون إلا أنتِ، كنتِ في غاية الهدوء ، وابتسامة شفيفة لا تفارق وجهك الملائكي الجميل.

حينها كنت أفكر كيف أجعلك تنطلقين مثل بقية زملائك، فناديتك بلا قصد “رنا”، وبالفعل وجدتك توضحين: حضرتك، اسمي رانا من فضلك.. رانا مش رنا.

سألتك: ومالفرق!؟

فجاء ردك بابتسامة، وأدب جم: حرف الألف حضرتك، وأنا بحب اسمي بحرف الألف، وبتضايق جداً لما حد يناديني رنا.

مع فريق عمل مجلة نقد x نقد
مع فريق عمل مجلة نقد x نقد

عرفت أخيراً كيف أستفزك.. وأحرك الناقدة في داخلك.. يكفي أن ألغي حرف الألف لتعترضي بكل ذوق، ومن هنا بدأ النقاش، وبالفعل بدأتِ منذ تلك السنة بالدخول إلى دائرة الأبناء المقربين مني.

أصبح ارتباطنا كبيراً بعدها، ما من ورشة أقيمها إلا وأجدك أول المشاركين، مرددة بصوت  أحفظه جيداً : “مع حضرتك في كل حاجة تعملها”!

وهذا ما حصل، حتى في فترة انقطاع كل الناس عن التواصل في جائحة كورونا، وحين قررتُ أن أقيم ورشة تدريبية لكتابة السيناريو التلفزيوني، عن طريق (زوم) كنت من أوائل المشاركين، صحبة زملائك وزميلاتك، وقضينا فيها ٦ شهور، بشكل يومي متواصل ولساعات طويلة، فكنت سريعة العمل دون أي ضجة أو اعتراض. لا شيء على لسانك إلا حاضر، وحضرتك .

جلسة محبة ذات مساء لن يتكرر مع الغالية رانا
جلسة محبة ذات مساء لن يتكرر مع الغالية رانا

وحين فكرنا بتأسيس مجلة (نقد X نقد) كنت الخيار الأمثل، علماً، ومعرفة، وقدرة على تحمل طبيعة عمل مغايرة لمجلة إلكترونية سريعة،وشخصية خلوقة، يُجمع الكل على محبتها والالتفاف حولها، وهذا ما حدث بالفعل، إلى آخر يوم في حياتك.

استطعتِ وفي فترة قصيرة منذ توليك سكرتارية تحرير المجلة، أن تجمعي كل القلوب حولك سواء من كبار الكتاب أو من زملائك الشباب، فانتشرت المجلة في أشهر قليلة، بنجاح لم نكن نحن نتوقعه، وكان لك فيه الفضل الأكبر بكل الإخلاص والحب والروح الشفافة، وكلمة حاضر لا تفارق كلماتك.

كنتِ ومن التأدب تكررين كلمة (حضرتك) لعدة مرات في الجملة الواحدة، رغم أنني قلت لك مرات عديدة بأن تلغيها في تعاملك معي ومع سعداء، وأكدتُ لك بأنك تقضين معنا على الهاتف في كل يوم ساعات طويلة لتجهيز مواضيع المجلة، و أصبحتِ بكل اقتدار زميلة لنا، وابنة مقربة منا قبل كل شيء، لكنك تبتسمين كملاك وتجيبي: حاضر حضرتك.

لم أرك يوما غاضبة، لم أرك يوما حانقة، أو تتحدثين عن شخص بسوء مهما كان سيئاً، حتى السفلة من البشر كنت تتعاملين معهم بكل ذوق، أستغربه، وأغبطك عليه.

رانا …ابنتي الغالية … لا  أدري ماذا أقول، فلساني اليوم عاجز عن التعبير عن حزني، غير مدرك أنك لن تعودي بيننا، ولن نبصر إشراقة وجهك بعد اليوم .

كل الكلمات خاوية، ومنكسرة أمام محبتك وبراءتك يا رانا .

ها نحن جميعنا اليوم نواريك التراب، يحاول كل منا أن يستمد القوة من الآخر، فيجده أضعف منه. لو رأيتِ الحزن والدموع التي سالت على فراقك لما صدقتِ، فمحبيك تابعوا بألم وبكاء رحلة نعشك القصيرة على مستوى المكان، والطويلة جدا والشاقة على مستوى الزمن، من مستشفى مصر للطيران وصولاً لمسجد الشرطة ومن ثم مقابر البساتين التي احتضنت رفاتك .

نسيت أن أقول أنني ورغم انكساري وعظم فقدي وقلة حيلتي ، استطعتُ قبل الصلاة عليكِ في المسجد، أن اقترب من نعشكِ، وألمس تلك الخشبة الصماء التي تحيط بجسدك لأدعو لك وأحادثكِ وأطمنكِ، من أنك ذاهبة لله عز وجل، فلا بد أنك محبوبة عند الله كثيراً وإلا ما اختارك أن تغادري الحياة شهيدة، وما جمع كل تلك القلوب التي لظمها خيط محبتك.

منذ البداية ومنذ أول يوم عرفتك شككتُ أن يكون في الدنيا ملاك مثلك، وأصبح وصفنا أنا وسعداء لكِ (الملاك)، واليوم بعد أن اختارك الله شهيدة بجواره تيقنتُ من أنك بالفعل ملاك، جاء ليقضي أجمل أيام بيننا، ويعلمنا أن نستقبل الدنيا بابتسامة ومحبة ولطف.. .

رانا الحبيبة، لا تقلقي يا ابنتي فسيظل اسمك معنا، وستظل صورتك بيننا وسنظل نتواصل مع والدتك الغالية الحنون، وأخواتك الطيبات ولن ننساك أبداً.

وداعا رانا ابنتي الغالية.. عودي إلى مكانك في صفوف الأنقياء البررة، فهذه الأرض الملوثة بالصراعات والتوحش والمصالح، لا تشبهك أبداً.

ولله الأمر من قبل ومن بعد .

* رئيس التحرير

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى