علاء الجابر: أمل أحمد.. تخبئ الألم في قطع الشكولاته!
علاء الجابر★
كثيرة هي المعارض المتماثلة في الأسلوب والخامات، لا يميّزها عن بعضها البعض، إلا توقيع الفنان على منتجه، لذلك يسعد المتلقي حين يجد معرضاً فنياً مختلفاً على مستوى الفكرة، وآلية التناول.
هذا ما ورد إلى ذهني حالما وطأت قدماي معرض الفنانة (أمل أحمد مصطفى)، الذي أقيم في قاعة مركز الهناجر بدار أوبرا القاهرة مؤخراً، حيث الاختلاف على مستوى الطرح وطريقة العرض.
بعيداً عن النمطية
تُرَكِّز الفنانة في مجمل معروضاتها (اللوحات، المانيكانات، الفيلم التسجيلي) على ثيمة المرأة، في جميع صورها الأنثوية، حيث أرادت الفنانة أن تقدم المرأة بعيداً عن الصورة النمطية، المتمثلة في المرأة المنكسرة، التي تعاني من القمع، إلى صورة أخرى جميلة متباهية بأنوثتها وفتنتها، مركزة على تفاصيل جسدها، دون خجل من تقاطيعه.
اللون عند الفنانة (أمل) زاهٍ في لوحاتها، حيث استقت عالمها النسائي من الصّدَف بألوانه الفاتحة، خاصة البيضاء والصفراء، والروز، كما طَعَّمَت جميع اللوحات بتدرجات الأحمر والبرتقالي، حتى يكاد يكون سمة للمعرض، ليعكس البهجة والسعادة والفرح.
عالم تحكمه الأَزِرّة!
محور معرض الفنانة أمل أحمد مصطفى، الذي أطلقت عليه اسم (ومن أول السطر)، يدور في فلك (الأَزِرَّة)، التي تتراوح في الحجم بين القطع الصغيرة التي لا تكاد تُرى في اللوحة، إلى القطع الكبيرة البارزة إلى حد الهيمنة.
حاولت الفنانة تفسير الهدف من وراء استخدامها للأَزِرَّة في بروشور المعرض، عَبْرَ كلماتها المباشرة قائلة: “فالأَزْرَار كمقابض الأبواب، تفتح لي عالماً رحباً مضيئاً، تنير بقعاً أظلمت في القلب” وكم تمنيتُ أن تترك الفنانة مسؤولية تأويل ثيمة الأَزِرَّة للمتلقي، ليقدم قراءته الخاصة، دون أن يتأثر بكلمات الفنانة.
بعيداً عن ذلك، إن المتأمل في تلك الأَزِرَّة، بإمكانه أن يلمس حياة مستقرة، مكتملة كاكتمال دائرة الزِّرّ، حتى إن وجد بها ثقبين، فهي طبيعة الحياة، التي لا تخلو من بعض العراقيل، وإن كانت صغيرة في قياس محيط الزِّرّ.
في حين يبدو الزِّرّ ذو الأربعة ثقوب وأكثر، كحياة مليئة بالكثير من الصعاب، فتحول قلب صاحبها إلى غربال مليء بالثقوب.
ويشكل الزِّرّ، البوابة الأولى للجسد، فهو إما يسمح بالولوج إلى الجسد والالتحام به، وإما حاجزاً يمنع التواصل معه. لذلك فإن الأَزِرّة تحيط بأجساد النساء في كل اللوحات، وكأنها تُعَبِّر عن روح وطبيعة وأحاسيس المرأة، التي تستقبل من تحب، وفي الوقت ذاته قادرة بحركة زِرّ واحدة على قفل كل الأبواب أمام من لا يستطيع، أو لا يعرف كيف يتسلل إلى قلبها.
دوائر لا تنتهي؟!
من الجلي أن أمل لا تَميل إلى الشكل الهندسي المتساوي الأضلاع؛ لذلك تجد أغلب أطر لوحاتها، إما محددة بالشكل الدائري، أو هلامية بلا تحديد.
ويُوحي الشكل الدائري للأنوثة في لحظة تجليها، كالقمر في لحظة اكتماله، وهذا ما أدّى لتكرار الدوائر في المعرض، تلك التي تقبع داخلها المرأة، لتؤكد على حقيقتين؛ الأولى أن حياة المرأة، تظل واحدة مهما تعددت حالاتها، وأن نظرة الآخر لها تظل ذاتها، مهما اختلفت زاوية النظر إليها.
كما أن الدائرة تؤكد على دورة الحياة، منذ لحظة الولادة، وهذا ما ظهر في بعض اللوحات أيضاً، التي تركز على تكور البطن، وصولاً إلى النهاية، التي تعيدنا إلى الدائرة ذاتها. وطوال تلك الرحلة، تظل المرأة، محاطة بدوائر فرعية من العلاقات ما بين أهل، وأصدقاء، وأحبة ،وعلاقات عابرة، وأخرى لا تنسى، بعضها يحكمها الحب، وبعضها تحكمها الرغبة، وهذا ما نجده متكرراً في لوحات المعرض، حيث بدت المرأة كجسد بالنسبة للشخصيات داخل اللوحة، وللمتلقي أيضاً.
أما الشكل الهلامي غير المحدد هندسياً، الذي اختارته الفنانة لعرض حالاتها الفنية، فقد جاء ليعكس تشتت الحياة وعدم تماثلها، بالنسبة للإنسان عامة، والمرأة على وجه الخصوص.
أما الشكل المستطيل، الذي كان الأقل تمثيلاً في المعرض، فقد كان إما خالياً من وجود المرأة، مختصاً بالجمادات، أو أن المرأة تتوسطه بوجل وخوف، وحيدة بلا سند أو حبيب، محاطة بأضلاع متساوية تخنقها من كل صوب، وإن كانت الألوان المحيطة بها زاهية، فهي ألوان مخادعة، تعكس الشكل، الذي تبدو عليه المرأة أمام الآخرين، في حين أن واقعها كئيب وخانق!
نساء مكبلات؟!
النساء اللواتي شكلتهن الفنانة من خلال الدُّمى (المانيكان)، فكن مكبلات بالأصباغ، غارقات بالبهرجة المبالغ بها، مثقلات بالمظاهر، التي تخفي كيانهن الحقيقي.
كن نساء مكبلات بالقيود، يصنعن الحياة من جهة، بطاقة منهكة من جهة أخرى، يعشن في دوائر لا تنتهي، يشبهن حيناً لاعب التنورة، الذي يظل يدور بلا توقف، فيبدو للآخرين بصورة فنية جميلة، فيما هو يعاني من داخله، وهذا ما يُعَبِّر حقاً عن المرأة، التي تظل منذ ولادتها تعطي وتغرق في دوائر لا نهاية لها، إلا حين تودع هذا العالم القاسي، الذي لا يمنحها لحظة راحة أبداً، ويطالبها بالكثير دون توقف.
حتى تلك الفتاة، التي تبدو للمتلقي من بعيد، وكأنها عروس تزهو بالأبيض، ليست ببعيدة عن هذا الحِمْل الذي يحيط بها (فستان الزفاف الأبيض)، حيث الوجه ملطخ بكل قسمات الخوف والرعب من القادم، وهذا الحِمْل الثقيل، الذي يحيط برأسها كخيمة سوف تنقض عليها ما إن تنتهي من هذا الفرح البائس، إنها دمية تُعَبِّر بحق عن حال المرأة في أغلب مجتمعاتنا العربية، التي تنتظر هذا اليوم الذي تخرج فيه من شرنقة أهلها، فترتدي الأبيض ، لكنها لا تعلم أنها تنسج من جديد شرنقة أكبر، ستضم دوائر من المسؤوليات كما هي واضحة على الجسد ، وضغط لا ينتهي سوف يحيط بعقلها وتفكيرها، ويَهُدُّ كيانها، اِتضح ذلك من خلال اليدين، التي تقاربت دلالة على القيد القادم، لا حالة الطيران والانعتاق، التي تخيلَتها حين ارتدت الأبيض!
بل حتى الحلم الذي انتظرته، ليهل عليها مطراً وخيراً ونماءً (متمثلاً بالقطرات الزرقاء) سيكون محجوباً عنها بتلك الخيمة، أو المظلة، التي تشكل المجتمع بما فيه، وقد يشمل ذلك الفارس، الذي تمنته، والذي سيحجب عنها منذ لحظة زفافها، النور والمطر والخير على عكس ما تمنت واشتهت لحياتها القادمة.
معرض الفنانة أمل، معرض يحمل البهجة والفرح، عَبْرَ اللون والشكل، لكنه يخبئ داخل قطعة الشوكولاتة الزاهية تلك، الكثير من الألم والكبت والقيود، التي تحيط بالمرأة، وتخنقها حتى الموت.
_______________
★ رئيس التحرير