مشاركات شبابية

عبد الملك الذويب: حكاية أبي والفن الهادف

عبد الملك الذويب

هناك الكثير من الشخصيات الدينية المعروفة، التي ارتبطت بالفن بشكل أو بآخر، مثل ارتباط اسم الشيخ سيد النقشبندي، بأسماء العديد من الملحنين، من أشهرهم الفنان سيد مكاوي، والفنان بليغ حمدي، للخروج بابتهالات دينية، لاتزال تعرض إلى يومنا هذا، وشارك الشيخ الأزهري أحمد الشرباصي مع عبد العزيز سلام وحسين حلمي المهندس وحسين صدقي في الإعداد التاريخي لفيلم خالد بن الوليد، كما شارك الشيخ الشرباصي في إعداد وكتابة مجموعة من الأعمال السينمائية، منها مسيلمة الكذاب، وهجرة الرسول، علاوة على كتابته عدة مسرحيات دينية، منها مؤمنة مجاهدة، ومولد الرسول، ومشرق النور، والحاكم العادل عمر بن عبد العزيز”.

الشيخ سيد النقشبندي

حين أقرأ عن تلك النماذج المتدينة المحبة للفن الهادف، أتذكر والدي رحمه الله، الذي  كان من تلك الفئة المتدينة المحبة للفن الهادف، الذي يسعى إلى الرقي، وإلى توصيل الرسائل الفاضلة، أتذكر كم كان يحب أن يشاركنا البرامج الوثائقية، والمسلسلات، والمسرحيات المسلية، التي تَبُثُّ الأفكار بطريقة تساعد على إنشاء جيل واعٍ محب للفن بشكله المتميز، فكان محباً للمطالعة المختلفة، فقد كان من أوائل الناس، الذين  يقتنون التلفاز، وكان ذلك بداية سبعينيات القرن الماضي، لم يكن يمتنع عن مشاهدة التلفاز، بل كان يتابعه دائماً، وينصحنا بمتابعة كل شيء مفيد فيه.. وظل هكذا إلى أن غاب جسده عن حياتنا في ذلك اليوم.

محمد الذويب في عام ٢٠١٣

لم أكن أعلم بأن خروجه من البيت، ودخوله للمستشفى في ذلك اليوم؛ سيكون لآخر مرة، حتى أنني أذكر ملامحه جيداً عند الخروج من بوابة المنزل، كان مبتسماً خجولاً، مودعاً، كالضيف الراحل… غادرنا بعد أن غرس حكايته في ذاكرتنا، والتي سأسردها اليوم بما أن مرت ذكرى وفاته السنوية في شهر يوليو الماضي.

الشيخ أحمد الشرباصي

 بدأت القصة، عندما كان يمر ذلك الفتى مع والده وشقيقه التوأم؛ بالقرب من بستان العنب، الذي تتدلى منه قطوف العنب الشهية، فيقطف له والده قطف عنبٍ صغيرٍ، فيخبر الفتى والده، بأنه لا يجوز لهم أكل ذلك العنب، لأنه ليس من حقهم، اِندهش الأب من أمانة ذلك الفتى، الذي لم يتجاوز السنوات الخمس فقط، لا يعلم الأب بأن هذا الفتى، سيصبح له شأن بعد كبره.

 تتوالى السنوات على الفتى، فيقترب من الصفوف الثانوية في المدرسة، ومن عادات أغلب أقرانه، أنهم لا يُكملون الدراسة، إلا أنه أصَرّ على إكمالها، على عكس شقيقه التوأم، وأغلب أبناء جيله، يذهب الفتى المجتهد إلى المدرسة، التي لا تتعدى كونها بيت شعر – خيمة – ساعياً لتحصيل المعرفة، محباً للعلم ونور البصيرة، يهاجر والده وشقيقه إلى الكويت، طلباً للرزق، ويبقى هو يرعى عائلته، ويكمل دراسته، فكان يعود إلى البيت البسيط المظلم الضيق بمساحته، الواسع بود وتسامح أهله، مثقلاً من أعباء الدراسة والطريق، منهكاً من الاختبارات، والدراسة المتواصلة، ليلاً نهاراً.

 في موقف طريف حصل معه ذات يوم؛ عندما عاد من أحد الاختبارات، طلب من شقيقته الصغرى – التي لم يكن في البيت سواها- تجهيز طعام ليتناوله،  فلم تجد تلك الأخت الصغرى التي لم تتجاوز السادسة من عمرها،  سوى بيضة واحدة، فحاولت قليها له، وشقيقها ينتظر، ليأكل، وليستعيد طاقته، لإكمال يومه وللدراسة، فلما فرغت وقعت المقلاة، ووقعت منها البيضة، فلم يأكل شيئاً وأكمل يومه بلا طعام.

اِنتهى صديقنا أخيراً من الاختبارات، وانتهت رحلته مع المدرسة، فكانت درجته مبهرة جداً، وكان من أوائل طلاب الأردن، تعرض عليه  بعثة للولايات المتحدة الأمريكية، لإكمال دراسة البكالوريوس، إلا أنه يرفض بسبب الاغتراب والمفسدة – حسب اعتقاده-، وفي نفس تلك الفترة، تعرض عليه وظيفة مرموقة، بحكم درجته المرتفعة في الثانوية العامة، وبحكم أن ذلك الزمن كان قليلاً ما تجد شخصاً في عمره، يكمل الدراسة، أو ينتهي منها بنفس تلك الدرجات، عارض تلك الوظيفة، كونها ستلهيه عن الصلاة في وقتها.

يهاجر ذلك الشاب إلى الكويت، ويلتحق بوالده وشقيقه، فيعمل في البداية على عربانه تشابه (التكتك)، ينقل أغراض مختلفة ليكسب قوت يومه، ولينفق على عائلته، كان ذلك الشاب محباً للقراءة والاطلاع، فبدأ باقتناء الكتب، وحفظ القرآن الكريم، حتى سمع عن خبر افتتاح دار القرآن، وقد أنشأت وزارة الأوقاف أول دار، لحفظ لقرآن الكريم في الكويت للرجال عام (1971)، وكان المقر الأول في العاصمة، وتحديداً (دروازة عبد الرزاق)، ينتسب لذلك المركز عدد لا بأس به من الرجال، ويكون هو الشخص الأول في الكويت، الذي ينتسب لذلك المركز، يستمر فيه 8 سنوات، ويكمل حفظ كتاب الله، ثم يعمل مؤذناً في وزارة الأوقاف، وعند اجتيازه لاختبار القبول، واختياره لمهنة المؤذن، وليس الإمام، أخبره الموظف المسؤول بأن إمكانياته تناسب الإمامة أكثر، إلا أنه أصَرّ على اختيار المؤذن، عله بذلك أن يكون ضمن من ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم  في حديثه (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة).

محمد الذويب في شبابه

تتوالى الأيام عليه في المسجد ملتزماً في إتمام عمله، وعدم التغيب عنه إطلاقاً، حتى جاء الغزو العراقي على الكويت، فكان خروجه للمسجد خطراً على حياته، لكنه  لم يتغيب عن أي يوم خلال السبعة أشهر، حتى عندما كان يتم حظر التجول من قبل الجيش العراقي، فكانت الاشتباكات بين المقاومين والجيش العراقي الغاشم، تحصل قريبة منه، لكنه كان متوكلاً على ربه، راضياً بقضائه وقدره.

مع نهاية الغزو على الكويت، جاء اسمه من قبل وزارة الأوقاف، ضمن 50 مؤذناً وإماماً، يتم منحهم إقامة خاصة له ولعائلته رغم أي ظرف، وذلك لمدى تفانيه وإخلاصه بالعمل طيلة ال11 سنة الفائتة،  وطيلة السبعة أشهر الماضية، فاستمر في العمل بعد ذلك، ولم يتغيب عن المسجد إلا أياماً معدودة، بسبب ظرف طارئ، في آخر أربع سنوات في حياته،  كان يدخل المستشفى باستمرار، حيث إنه كان يعارض ذلك بشدة،  بسبب أنه سيتغيب عن الصلاة بالمسجد، وكانت السنة الرابعة والأخيرة، مغايرة تماماً، فكان يعاني من المرض، لكنه كان يصر على الكتمان والشدة على نفسه،  لكي يحافظ على إقامة الصلاة في مسجده.

 كان في آخر الأيام يفضل الجلوس لوحده كثيراً، كنت لا أعلم سبب ذلك، هل هو بسبب التعب،  أم أنه يعد أيامه الأخيرة، في ذلك اليوم أحس بالتعب الشديد، فدخل المستشفى وهو مستاء، لكنني لم أنسَ كلماته، وهو يقول للمسعف، (إني اشعر أن قدمَيَّ مكسورتان من كثرة الضرب عليهما)، في البداية تم ربط يديه لتصارعه مع الممرضين، لكي يتركوه يذهب لصلاة الجمعة، لكن حالته كانت تسوء، كل يوم، حتى تم إدخاله للعناية المركزة،  فكانت زيارته تصعب علينا، إلا أن أخي الكبير دخل عنده قبل وفاته بساعات، فكان يصحو من غيبوبته، يذكر الله كثيراً، ثم يعاوده الإغماء.

 أخبر الممرض المسؤول، أخي الكبير بأن حالته تصعب، ولا يمكن أن يكمل حتى صباح اليوم التالي، لا أنسى أبداً صوت أخي الكبير، وهو يخبرني بالهاتف بخبر وفاته، فكانت تلك الصدمة، كالصاعقة التي نزلت علي، فحمدت الله على كل حال، راضياً بقضائه وقدره، عالماً بمدى صدقه مع ربه، راجياً بأن يرحمه ويعفو عنه.

أعلن المسجد الذي كان يعمل به خبر وفاته، بعد ذلك بسويعات وتحديداً في صلاة الظهر، فعج المسجد بالبكاء، وأذكر جيداً عندما دخلت لأصلي فيه بعد يوم تقريباً من وفاته، كيف كان يعم الحزن وجوه المصلين.

ومن عاداته اليومية رحمه الله، أنه كان ينام باكراً، ويصحو قبيل الفجر، ليصلي القيام ويقرأ القرآن، ويذهب ليفتح المسجد بنفسه، فكان يختتم القرآن أسبوعياً، فهو يحفظه ويحفظ تفسيره كاملاً، ولقد كان يذهب للمسجد على أقدامه دائماً، حتى عند مرضه وتعبه، حتى أنني لا أعلم إلى هذا اليوم أي يوم، هو يوم عطلته، فهو لا يعترف بهذه العطلة الأسبوعية كبقية زملائه المؤذنين والأئمة، قرأ في حياته ما يزيد عن 5000 كتاب، حيث إنه ترك مكتبة قيمة، تتكَوَّن من أكثر من 4300 كتاب متنوع، من بينها الكتب الدينية والطبية، والقصصية، وغيرها الكثير، كان محباً للقراءة والاطلاع،  وكان أول كتاب اقتناه في عام 1969، كان يحب متابعة التلفاز والاطلاع على جميع ما يقدمه، وخاصة البرامج الوثائقية، والأخبار العالمية، والبرامج الهادفة بأنواعها.

ـــــــــــــــــــــــــ

★خريج قسم النقد والأدب المسرحي ــ الكويــت

 

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى