د. سعد عبد الصاحب: أبي الذي هزم السرطان بالمسرح؟!
د. سعد عزيز عبد الصاحب★
في شتاء عام 2001، كنا نتهيأ أنا وأبي الفنان الراحل عزيز عبد الصاحب رحمه الله، لإنتاج مسرحية (العقد)، وهي من تأليفه وإخراجه.
أسند لي والدي دوراً رئيسياً فيها، هو شخصية اللص، وتم اختيار ممثلي الشخصيات الأخرى.
كنا نبحث عن ممثل، يقوم بدور الملك العادل في ذلك العمل، وطال البحث، ومرت الأيام، دون العثور على ممثل لهذا الدور؛ لذا كان الوالد يقوم بدور الملك، لحين اختيار الممثل المطلوب للدور.
في كل يوم، بعد أن ينهي البروفات، كان الوالد يخرج سريعاً، ولا يخبر أحداً بوجهته.
اِستمر الحال هكذا لعدة أيام، دون أن نعرف شيئاً عن خروجه المتكرر.
ذات يوم جاءنا أبي مسروراً، وهو يمسك بيده رجلاً مسناً، ضعيف البنية، بالكاد يصلب طوله، هو الممثل (فلاح البياتي).
صاح الوالد بكل فرح: جئتكم بمن يمثل دور الملك.!
أصابتني حينها خيبة أمل كبيرة، لهذا الاختيار المتسرع.. وأردت ان تنقضي البروفة بأسرع وقت، كي اسأل الوالد عن سبب اختياره لهذا الممثل تحديداً، على هذا الوضع، والحالة التي كان بها، ونحن نريد نجاح المسرحية، ونرنو الى اختيار أفضل الممثلين، ليلعبوا أدواراً، تؤكد فرص نجاح العرض …! لكنني أجلت أسئلتي، ولذت بالصمت حين رأيت والدي يتهرب من الإجابة.. وإن كنت أتمزق في داخلي حنقاً أثناء البروفات، وأنا أرى وأسمع، من ضعف في أداء الرجل لدوره المركب الصعب.
وبينما نحن في البيت، في مساء أحد الأيام، بادرت والدي بالسؤال، الذي كان يؤرقني، ويجول في نفسي منذ أيام.
ردَّ والدي بكل هدوء: علمت بأن صديقي الممثل فلاح البياتي، يرقد في مستشفى مدينة الطب في بغداد، وبعد أن علمت بمرضه، قررت زيارته، هناك أخبرني الأطباء أن صديقي مصاب بالسرطان، وأن أيامه معدودة، حينها مباشرة لمعت في ذهني فكرة، قلت لفلاح إنني اخترته لأداء دور الملك في مسرحيتي الجديدة، فرفض فلاح هذا الاقتراح، متحججاً بصعوبة حالته الصحية.. هنا أصررت على ذلك، واقترحت على فلاح أن أمرنه على النص في شرفة الغرفة داخل المستشفى، وبالفعل بدأنا البروفات الثنائية يومياً، وكانت أصواتنا، ونحن نردد مقاطع المسرحية، تطغى على المكان، فتوقعنا أن تفزع الطيور، التي كانت تحط على سياج الشرفة، لكن الغريب في الأمر أن الطيور لم تهرب، بل كان عددها يزداد كل يوم، وكأنها تريد أن تسمع وتتابع، تلك البروفات الدائرة بيننا.
اِستغربت جداً ما قام به والدي، وأكبرت هذا العمل الإنساني العظيم، وقدَّرته تماماً، خصوصاً حينما علمت أن والدي استأذن الأطباء، بأن يخرج صديقه، الممثل المريض إلى مسرح الرشيد، ليكمل بروفاته مع بقية طاقم العمل، فوافق الأطباء، كون الفنان يعيش آخر أيامه في الحياة، ومن هنا تكرر مجيء وذهاب فلاح البياتي إلى البروفات، ومن ثم يقوم والدي، بإعادته إلى غرفته في المستشفى.
بعد أيام عديدة، قام الأطباء المتابعون لحالة البياتي، بإخبار والدي، بأنهم استغربوا جداً من تحسن حالته الصحية، وأنه بدأ يستجيب للعلاج بشكل كبير، وأخذت أوردته بالتفتح، وامتلأت عروقه بالدم، في حين كانوا قبل ذلك لا يستطيعون إيجاد وريد مناسب، لإمرار أي محلول في جسمه.
بعد أيام أخرى، أخبر الأطباء والدي، وهم في غاية الاستغراب، بأنه لم يعد هناك حاجة، لبقاء فلاح البياتي في المستشفى.. بعد تحسن حالته بشكل ملحوظ.
يومها كان فلاح فرحاً، وهو يستعيد صحته، وعافيته، وحيويته، ويعيد صعوده على خشبة المسرح، مشاركاً مع طاقم العمل نجاح مسرحية العقد، ذلك العقد الفريد من المحبة، الذي جمع صديقين، بمسعى إنساني وأخلاقي نبيل، واستطاع أن يغير بفضل ما قام به والدي، وما أراده الله عز وجَلّ، حياة رجل كان موشكاً على الموت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
★مخرج وناقد وباحث مسرحي _ العراق