د. سيد علي إسماعيل: كيف تعامل د. محسن مصيلحي كرقيب مع مسرحية مسافر ليل؟!
د. سيد علي إسماعيل★
في مثل هذا الشهر (شهر يوليو) من عام 1969، وفي العدد (64) من مجلة ” المسرح”، نشر «صلاح عبد الصبور» ولأول مرة مسرحيته «مسافر ليل» التي كان قد كتبها بعد «هزيمة/نكسة» يونية 1967، وظلت الأقلام تتناول نص المسرحية بالنقد والتحليل طوال عشر سنوات؛ بوصفه نصاً إبداعياً خرج من رحم الهزيمة! وبعد هذه السنوات العشر، قررت الدولة عرض المسرحية على إحدى مسارحها، وبالفعل أرسل مسرح الطليعة النص إلى الرقابة من أجل الحصول على التصريح بتمثيله في «قاعة 79»، وأخذ النص رقم «224» في ترتيب المسرحيات الواردة في سجل الرقابة.
د. مصيلحي … رقيبا!
حسب نظام الرقابة المعروف والمتبع في هذه الفترة، أن يكتب ثلاثة رقباء ثلاثة تقارير من أجل التصريح بتمثيل المسرحية. وللأسف الشديد وجدت تقريراً واحداً فقط للرقيب – حينذاك – «محسن مصيلحي» مرفقاً بنص المسرحية! وهذا يعني احتمالين: الأول أن التقريرين الآخرين مفقودان، والاحتمال الآخر أن الرقابة اكتفت بتقرير واحد فقط! وهذا التصرف كان معمولاً به في الرقابة في بعض الأحيان عندما يكون الكاتب مشهوراً مثل «صلاح عبد الصبور»، أو أن يكون المسرح هو أحد مسارح الدولة الحريص على النظم والقوانين، بما لديه من لجنة لقراءة النصوص ومتابعتها واختيارها.. إلخ، وهذا أمر متوفر في مسرح الطليعة، أو أن يكون النص تمت مراقبته من قبل وأخذ تصريحاً سابقاً، فلا داعٍ لمراقبته مرة أخرى بثلاثة رقباء، وهذا الأمر تحديداً لم يتحقق في نص «مسافر ليل»؛ حيث إن الإجراءات الرقابية، كانت الإجراءات الأولى، مما يعني أنه سيُمثل لأول مرة!
ما موضوع المسرحية؟
وبناء على ذلك، يجب أن نتعامل مع الواقع، وهو وجود تقرير واحد للرقيب «محسن مصيلحي»، كتبه يوم 4/8/1979، وفيه يقول الآتي: “«الموضوع»: رجل مسافر في أحد القطارات الليلية وبدافع الملل يحاول أن يرى ما حوله من أشياء، ثم يعرج إلى التاريخ يرى فيه جبابرته أو من كُتب أسماؤهم بحروف بارزة سوداء كالإسكندر وهانيبال وتيمورلنك وهتلر. وحين ينطق الراكب باسم الإسكندر يظهر عامل التذاكر ومتلبساً لشخصية الإسكندر الأكبر. وفي وسط العامل وفي جيبه خناجر وأسواط وغدارات.. إنه يملك كل أسلحة الدمار ويفترض الراكب أن العامل مجنون وبحكم ملكيته لوسائل الدمار يرضخ الراكب لأي أوامر من الإسكندر ولكن لا يقتله. ويصحو الراكب فزعاً على كلمة القتل ولكن الإسكندر يعود إلى شخصيته العادية إذ لا يطلب فقط سوى تذكرة الراكب. وحين يتحادث الراكب نجد العامل يلتهم تذكرة الراكب وينكر أنه استلمها منه ثم تتعدد أسماؤه ثم يحاول محادثة الراكب بشكل بعيد عن الرسميات فيخلع سترته الرسمية ولكنه يكرر معه التهام بطاقته الشخصية ولا يجد مفراً من معاملته معاملة رسمية متذكراً حكمة رئيسه «عشري السترة»: “حقق في رحمة واضرب في عنف”. ثم يتهم الراكب أنه سرق هذه الأوراق البيضاء فيرتدي نجمة مأمور أمريكي ويبدأ في التحقيق مع الراكب وتكون التهمة هي أنه قتل الله وسرق بطاقته الشخصية. ويحاول الراكب عبثاً أن يدافع عن نفسه، وحين يستنجد الراكب بعشري السترة نرى أن العامل نفسه هو «عشري السترة»، الذي يحاول بالحسنى مرة أخرى أن يصل إلى حقيقة الراكب أو إلباسه تهمه عالقة بالعامل نفسه ويهدده أعداؤه بها، وسيقول لأعدائه أنه وجد السارق [أي الراكب] ويحاول أن يختار له ميتته؛ ولكن الراكب يتهرب منه إلى أن يطعنه بالخنجر”.
مصيلحي موافق
ويختتم الرقيب «محسن مصيلحي» تقريره قائلاً: “«الرأي»: هي رحلة رمزية داخل سرداب مظلم نرى فيها عبداً عادياً من عباد الله وقد راح ينظر إلى تاريخ الحروب وتاريخ الدماء فيرى فيهما أشياء بشعة وهي أقرب إلى رحلة تحقيق لا يراعي فيها المحقق [العامل] أي قانون وإنما يريد الوصول إلى غايته مهما كانت الوسيلة.. الخداع.. القتل.. إلخ، بل يصل الأمر إلى حد الاتهام بالإلحاد، والرجل يدافع عن نفسه ولكن ضد من، وهو لا يملك إزاء أسلحة عامل التذاكر بدرجاته المتعددة وسيلة تحميه من بطشه وعلينا نحن [إذ يدعونا راوي المسرحية] ألا نسمح بمثل هذا الانتهاك لحقوق الإنسان وحريته. لهذا أوافق على إتمام العرض العام للمسرح التجريبي فقط وهو مسرح الطليعة“.
الرقيب الناقد
من المعروف أن الرقيب «محسن مصيلحي» لم يكن رقيباً موظفاً، بقدر ما كان رقيباً ناقداً، لذلك قام بمراقبة نص مسرحية «مسافر ليل» بوصفه ناقداً مسرحياً، قبل أن يكون رقيباً موظفاً! ففي تقريره ذكر وبكل شجاعة أن التهمة الموجهة إلى الراكب هي إنه «قتل الله وسرق بطاقته الشخصية»! وهذه العبارة بنصها الصريح هذا – والتي تكررت كثيراً في المسرحية – كفيلة بعدم التصريح بعرض المسرحية أمام أي جمهور، لأنها عبارة تتعرض للذات الإلهية وبصورة مباشرة! ولأن الرقيب ناقد – في الأساس – فقد خفف من وطأة هذه المباشرة، بأنه ألمح إلى أن المسرحية «رحلة رمزية»، مما يعني أن أية مباشرة في النص؛ تُعدّ رمزاً في صورة مباشرة غير مقصودة لذاتها! وحتى يؤكد الرقيب الناقد على هذه الرمزية، قال صراحة: “أوافق على إتمام العرض العام للمسرح التجريبي فقط وهو مسرح الطليعة“! أي أن الرقيب الناقد وافق على عرض هذه المسرحية في «قاعة 79»؛ لأنها قاعة مخصصة للأعمال التجريبية، وهي القاعة المناسبة لعرض هذه المسرحية الرمزية.
وبناء على تقرير الرقيب الناقد «محسن مصيلحي»، وافقت الرقابة يوم 21/8/1979 على عرض المسرحية، ونصت في تصريحها على الآتي: “لا مانع من الترخيص بأداء هذه المسرحية «مسافر ليل» لمسرح الطليعة، على أن يراعى الآتي: حفظ الآداب العامة في الأداء والحركات والملابس. وإخطار الرقابة بموعد التجربة النهائية والعرض الأول لهذه المسرحية حتى يتسنى بعد مشاهدتهما الترخيص بصفة نهائية. [توقيع] «المدير العام»”.
وهكذا تمّ عرض مسرحية «مسافر ليل» عام 1980 في «قاعة 79» بمسرح الطليعة من إخراج «فاروق زكي»، وقام بدور الراكب «محمود مسعود»، وبدور عامل التذاكر – أي الكمساري – «صبري عبد المنعم»، وبدور الراوي «رشوان سعيد». وحسب تقرير الرقيب، والتصريح المبني على التقرير، لم نلحظ أية ملاحظات على النص، أو أي مطالبة بالحذف أو التغيير، مما يعني أن عبارة «أنت قتلت الله وسرقت بطاقته الشخصية» لم تُحذف ومن المؤكد أنها ذُكرت أمام الجمهور، وأكثر من مرة أثناء العرض، هكذا تقول الوثائق الرقابية!
وحاولت عبثاً أن أصل إلى إجابة مؤكدة بأن هذه العبارة قيلت بنصها أم لا، ولكني فشلت! فمجلة المسرح مثلاً، نشرت كلمة عن العرض في العدد رقم «6» بتاريخ ديسمبر 1980، تحت عنوان «المسرح المصري في شهر»، كتبها «أسامة أبو طالب» دون أية إشارة إلى عبارة «أنت قتلت الله وسرقت بطاقته الشخصية»! ومنذ أيام شاهدت نسخة من العرض الأول للمسرحية والذي تمّ في «قاعة 79» في موقع اليوتيوب بالإنترنت – من خلال نسخة قديمة مهداة من الشاعر حسن توفيق – فوجدت أن العبارة ألقيت ولكن بدون ذكر كلمة «الله»، فقد كانت تُقال هكذا: «أنت قتلت الـ … وسرقت بطاقته الشخصية»! وكلما تكررت العبارة كانت تُقال بالصيغة ذاتها دون ذكر كلمة «الله». وهكذا تأكدت أن العبارة لم تُذكر، مما يعني أن الرقابة – ربما – ألغتها، عندما شاهدت البروفة الأخيرة «الجنرال»، لأن هذه الملاحظة غير منصوص عليها في نص التصريح! أو أن المخرج – أو المسرح – نفذ الرقابة الذاتية، وحذف الكلمة وأوحى برمزها أو معناها عن طريق الإيماء والإلقاء عندما كان الممثل يقول: «أنت قتلت الـ …»!!
وبناء على ذلك، نستطيع أن نقول، بناء على المستندات والوثائق الرقابية: إن الرقابة لم تعترض على أية لفظة أو عبارة في نص مسرحية «مسافر ليل»، رغم أن العرض لم يُذكر فيه كلمة «الله»، إلا إنه حافظ على إلقاء نص المسرحية بأكمله.
المنع الرقابي
بعد ست سنوات من عرض مسرحية «مسافر ليل»، قرر «المسرح المتجول» – ومقره كان في مبنى معهد الموسيقي بشارع رمسيس، والتابع لقطاع المسرح بوزارة الثقافة – عرض المسرحية، فكتب مدير عام المسرح المتجول «عبد الغفار عودة» خطاباً يوم 21/6/1986 إلى مدير عام الرقابة على المصنفات الفنية، قال فيه: “خالص التحية، مرفق طيه عدد 3 نسخ من مسرحية «مسافر ليل» تأليف صلاح عبد الصبور رجاء التكرم بالموافقة عليها رقابياً – علماً بأن لجنة القراءة قد وافقت عليها شكلاً وموضوعياً مع الإحاطة بأن المسرح المتجول سيقدمها خلال الموسم الحالي. مع خالص شكري وتقديري”.
وهذا النص أخذ رقم «138» وارد مسرحيات بتاريخ 25/6/1986، وهو نسخة من المسرحية في طبعتها الرابعة بتاريخ 1986 من منشورات «دار الشروق». وقد وجدت التقارير الرقابية الثلاثة مرفقة بهذا النص، وأول تقرير كتبه الرقيب «شوقي شحاتة»، وذكر فيه ملخصاً سريعاً للنص، قال فيه: “في عربة قطار بعد منتصف الليل يجلس المسافر مغالب النوم، ويأتي عامل التذاكر قائلاً: من الذي يصرخ باسمي؟ من يدعوني؟ فيرد عليه الراكب الذي فوجئ به: معذرة من أنت، فيقول عامل التذاكر: أنا الإسكندر، وما اسمك: فيقول الراكب: عبده، فيقول عامل التذاكر قف واسمع التهمة الموجهة إليك: أنت قتلت الله وسرقت بطاقته الشخصية! ويروي الراوي الحوار الذي دار بين الراكب وعامل التذاكر، فيستخرج سوطاً يهدد به الراكب، ثم غدارة قائلاً: هذا مات به أغلى أصحابي فيسيطر الرعب الراكب، ويطلب أن يفعل أي شيء في سبيل حياته ولكن عامل التذاكر يطعن الراكب بالخنجر بعد جدال وحوار فلسفي بعد أن اتهمه بقتل الله وسرقة بطاقته الشخصية”.
وفي نهاية التقرير، رفض الرقيب التصريح بتمثيل المسرحية، وكتب مبرراته بصورة تفصيلية، قائلاً، تحت عنوان «الرأي»: “المسرحية كوميديا سوداء، تقوم على التناقض الواضح بين شخصيات المسرحية: الراكب، وعامل التذاكر، والراوي. وتعتمد كما يقول المؤلف على الحيل الشعرية والاستعارات والكتابات وبلاغة استحثاث الخيال واستثارته بالإيجاز، وهو نموذج من الفن المسرحي يعتمد على التجريد أساساً لها، ولما كانت المسرحية تقوم على شخصيتين هما عامل التذاكر والراكب ويدور الحوار بينهما على أساس التهمة الذي يوجهها عامل التذاكر للراكب وهو “أنت قتلت الله وسرقت بطاقته الشخصية” كما في صفحة 31، وكذلك “رجل من أهل الوادي قد قتل الله” في صفحة 40، “أنت قتلت الله.. إن الله تخلى عن هذا الجزء من الكون.. لا يعطينا شيئاً قط.. لا ينظر في هذه الناحية أحدهم.. قد قتل الله هنا” صفحة 42، “ما زال الله يخاصمنا” صفحة 44، “هل تدري من قتل الله وسرق بطاقته الشخصية” صفحة 49.. وهذه لا تجوز على الذات الإلهية، لذا أرى عدم الموافقة ورفض الترخيص بالنص لتعارضه مع القيم والنظام العام. [توقيع] «شوقي شحاتة»”!!
ووفقاً لنظام الرقابة، فإن هذه الأقوال المذكورة في النص كفيلة بمنعه وعدم التصريح بعرض مسرحية «مسافر ليل» على خشبة المسرح؛ حيث إن الرقيب «شوقي شحاتة» رقيب موظف قام بعمله وراقب نصاً حمل هذه العبارات، والتي تُعدّ غير لائقة بالذات الإلهية.. هكذا هي النظم الرقابية!! ولكن منع عرض المسرحية، سيوقع الرقابة في تناقض كبير؛ لأن الرقابة وافقت على النص نفسه عام 1980، وصرحت بعرضه لمسرح الطليعة أي مسرح الدولة!! فكيف ترفضه الآن بعد ست سنوات، والنص المطلوب رفضه، هو النص نفسه الموافق عليه من قبل، ومسرح الطليعة يتساوى مع المسرح المتجول كونهما من مسارح الدولة!! لذلك كتب مدير الرقابة المسرحية تأشيرة – على تقرير الرقيب «شوقي شحاتة» الرافض للنص – قال فيها: “سبق الترخيص بهذه المسرحية وعرضت على مسرح الطليعة ولا مانع من الترخيص”!! وهذه التأشيرة تحمل إحدى وسائل الرقابة في المراوغة والهروب من مواجهة الحقيقة والواقع؛ وكأن مدير عام الرقابة عام 1986 يعتمد على خطأ المدير العام الذي كان موجوداً عام 1980، والذي صرح بالنص وقتها، ولم يرفضه!!
هذا هو التقرير الأول! أما التقرير الثاني، فكتبه الرقيب «سمير رشدي عطا» يوم 7/7/1986، وبدأه بملخص لموضوع المسرحية، قال فيه: “تدور أحداث القصة أن عربة قطار تحوي مسافرا وعامل تذاكر، والراوي يوضح الانفعالات والعوامل النفسية، ويدور حديث طويل بين الراكب وعامل التذاكر في كلام متناقض بأسلوب مجنون، ويدعي عامل التذاكر أن فيه شخصا قتل الله وسرق بطاقته ولا بد من قتل هذا الشخص. وفي النهاية يقتل عامل التذاكر الراكب وينتهي الفصل الهمجي بأسلوبه المرفوض موضوعاً”. وهكذا وجدنا الرقيب يُبين عن نيته برفض النص من خلال ملخص المسرحية، قبل أن يسوق أدلته ويقول رأيه الأخير!!
بعد ذلك وجدناه يكتب في تقريره عبارات من المسرحية – تحت عنوان «ملاحظات» – قال فيها: “ص23 “ورابية الفخذين”، ص31 “أنت قتلت الله”، ص40 “رجل من أهل الوادي قد قتل الله وسرق بطاقته”، ص42 “أنت قتلت الله.. إن الله تخلى عن هذا الجزء من الكون.. لا يعطينا شيئاً قط.. لا ينظر في هذه الناحية كما كان أحدهم قد قتل الله هنا.. ولهذا هو يخاصمنا.. أعني طبعاً أحدهم قد سرق بطاقته الشخصية وانتحل وجوده.. قلنا نبحث لكن في السر.. وبحثنا.. راجعنا كل ملف.. سجلنا كل مكالمة تليفونية”. ص44 “مازال الله يخاصمنا”، ص49 “هل تدري من قتل الله وسرق بطاقته الشخصية”.
هذه هي العبارات التي سجلها الرقيب في تقريره، لتكون أدلة على تكوين رأيه بالرفض؛ لأنه اختتم تقريره قائلاً: “«الرأي»: إن هذه المسرحية مرفوضة للأسباب الآتية: (1) – إنه يدعي أن فيه شخص قتل الله وسرق بطاقته وأن الله يخاصمنا. هذا موضوعاً وأسلوباً [هكذا] ينتفي مع الدين وعبودية الله والكفر بالله. [توقيع] «الرقيب سمير رشدي عطا»”!!
وهذا الرأي يعني أن الرقيب طبق القواعد الرقابية، ورفض النص لما فيه من أمور دينية غير لائقة، تصل إلى درجة الكفر – من وجهة نظره – ورغم ذلك، وجدنا تأشيرة من المدير العام – أسفل هذا التقرير – قال فيها: “سبق الترخيص بهذه المسرحية وعرضت على مسرح الطليعة ولا مانع من الترخيص”! أي التأشيرة نفسها التي كتبها المدير على التقرير السابق، ولا داع لمناقشتها هنا، لأن المناقشة ستكون نقل المناقشة السابقة بنصها، فلا داع للتكرار!
الرقيب العبقري
من خلال قراءة التقريرين السابقين، لاحظنا أن كل رقيب رفض التصريح بعرض مسرحية «مسافر ليل» بناءً على أدلة منطقية! ولم يبق إلا الرقيب الثالث، الذي لو رفض المسرحية لأصبح هناك إجماع على الرفض، وهنا لا يملك المدير العام إلا رفض المسرحية نهائياً! ولكن الحقيقة أن الرقيب الثالث «فتحي عمران» لم يرفض النص، ولم يقبله كما هو؛ وبذلك كان عبقرياً في كتابة تقريره المؤرخ في 20/7/1986، والذي بدأه بملخص – غلّفه برؤية نقدية تحليلية هادئة – قال فيه:
“مسرحية شعرية تنتمي للمسرح التجريبي، تصور مسافر في قطار الليل يصطدم بعامل التذاكر، الذي يتحول فجأة إلى قاض وجلاد في الوقت نفسه، ليجد المسافر نفسه مدان بما لم يفعله. وهذه المسرحية رمزية فالراكب هو أي مواطن في أي مكان يحس بالقهر والظلم والضياع. وعامل التذاكر ما هو إلا رمز للسلطة الغاشمة التي لا يهمها سوى تكميم الأفواه وإلقاء التبعية – تبعية أي شيء – على عائق الضعيف – فالراكب يستعرض شخصيات من التاريخ – كانت مثالاً للظلم والطغيان – ويتمثل له إحدى هذه الشخصيات ولكن بشكل عصري، ويتهمه بأنه قتل الله وسرق بطاقته الشخصية، ويعني أنه قتل «المثال» أي تناسى وجوده جلّ شأنه، فهو يحاكمه بالكفر، ويلقي بشرور البشرية في وعاء هذا المسكين الذي ساقته الأقدار لهذا المصير التعس”.
والجدير بالذكر إن عبقرية الرقيب تمثلت في وضع عبارات وكلمات في صياغة هذا الملخص، تجعل المدير العام يتعاطف مع النص ويقبله ولا يرفضه! مثال على ذلك وصفه للمسرحية بأنها شعرية تنتمي للمسرح التجريبي! والمعروف أن الشعر لا يقصد بذاته ولا بمباشرته بل برموزه وبما يوحي به!! ناهيك عن التجريب في المسرح، مما يعني أن الرقيب حكم على النص بأنه تجريبي، أي يحمل تجربة في الكتابة، والتجربة لا يؤخذ بها وكأنها شيء مكتمل، بل هو شيء تجريبي!!
هذه الصياغة العبقرية في ملخص المسرحية، كانت أبلغ تمهيد لرأي الرقيب النهائي، والذي اختتم به تقريره قائلاً: “«الرأي» المسرحية رمزية تعتمد المواقف فيها على الحوار المباشر بين شخصيتي الرواية. وموسيقى الشعر لا تنبع من القافية التي لا يلتزم بها المؤلف بل من «دراما الحوار» بين المسافر وعامل التذاكر. ولا مانع من التصريح بها للعرض على مسرح الطليعة بعد استبدال لفظ «الله» في جملة «أنت قتلت الله»، وليكن «قتلت المثل وسرقت بطاقته الشخصية»، فهذه المسرحية إضافة للمسرح الشعري الذي نفتقده”.
وهكذا وافق الرقيب على عرض المسرحية، وهذه الموافقة أبطلت الإجماع على رفض المسرحية!! وآخر وجه لعبقرية هذا الرقيب، اقتراحه باستبدال كلمة «الله» بكلمة أخرى، مما يعني أن الرقيب فتح المجال واسعاً أمام المخرج ليضع مكان الكلمة أية كلمة أخرى أو أي مثال آخر!! لذلك أشرّ المدير العام بالتأشيرة نفسها، التي كتبها على التقريرين السابقين! وبفضل هذا التقرير – الذي أوقف الإجماع على رفض المسرحية – نالت المسرحية الترخص بتمثيلها تحت رقم «152»، ونصّ على الآتي: “سبق الترخيص بهذه المسرحية «مسافر ليل» لمسرح الطليعة ولا مانع من الترخيص بها لمسرح الطليعة [المسرح المتجول] على أن يراعى الآتي: (1) – الحذف في الصفحات 23، 31، 40، 42، 44، 49. (2) – حفظ الآداب العامة في الأدوار والحركات والملابس. (3) – إخطار الرقابة بموعدي التجربة النهائية والعرض الأول لهذه المسرحية حتى يتسنى بعد مشاهدتها الترخيص بصفة نهائية. [توقيع] المدير العام”.
لكل مخرج طريقته!
بناءً على هذا التصريح بتمثيل مسرحية «مسافر ليل» – وفقاً للرؤية الجديدة – استطاع المخرجون فيما بعد إيجاد تفاسير وتبريرات وحلول فنية وإخراجية لتخطي هذه العقبة، شريطة أن يكون الحل في صالح العرض!! فعلى سبيل المثال قام «خالد العيسوي» بإعداد جديد للمسرحية، وقام بإخراجها وتمثيل أحد أدوارها، واشترك بها في «مهرجان زكي طليمات المسرحي» عام 1992، وقدمها في شكل اللامعقول، حيث حذف شخصية الراوي التي أفقدت الجمهور ميزة التأمل؛ حيث إن الراوي كان يقطع الأحداث ويعلق عليها! أما مسألة قتل الله، فقد أصبحت قتل الإله!! أي إله دون تحديد لكلمة «الله».. هكذا قالت مجلة «المسرح» بتاريخ فبراير 1992.
وفي عام 1993، قدم نادي البدرشين عرضاً آخر لمسرحية «مسافر ليل»، وتم إعدادها على أنها معالجة لقضية فلسطين؛ حيث إن المسافر هو الجُرح الناتج عن احتلال أرض فلسطين. وعامل التذاكر كان يتشكل ويتبدل ويتغير؛ لأنه يملك خطوط اللعبة كلها، وقد يكون حاخاماً يهودياً أو بطلاً أمريكياً.. إلخ، ومهما تشكل وتغير فهو في النهاية سفاح واحد!! وتأكيداً على هذه المعاني كانت التذكرة التي قدمها الراكب إلى عامل التذاكر تحمل ألوان العلم الفلسطيني. أما البطاقة الشخصية فكانت الشال الفلسطيني!! وقام بدور عامل التذاكر «شكري غباشي»، وبدور الراكب «سلامة عشماوي»، والمسرحية أخرجها «حمدي حسين».. هكذا علمنا من مجلة «المسرح» بتاريخ مارس 1993.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
★ باحث وناقد وأستاذ أكاديمي ــ مصــر