تشكيل

أسماء الدعاس: حين تكون الغابة الملاذ الوحيد للإنسانية

أسماء الدعاس★

التشكيلي الجزائري عبد الحليم كبيش من ولاية جيجل الجزائرية، وجيجل أرض تزخر بالمناظر الطبيعية الخلابة، سكنت وجدان الفنان، وأثْرت مسيرته الفنية، وألهمته بعدد كبير من الأعمال.

ولوحة (الغابة) عمل تجريدي وتعبيري تصور كائناً حياً، هو (الشجرة) العنصر الوحيد الذي يتمركز في وسط اللوحة بوضوح، بينما جذورها المتشابكة، تحتل الجزء الأسفل من اللوحة، وفي الخلفية البعيدة، نلمح أشجاراً  بأغصانها  العالية  في مشهد صامت للطبيعة.

الفنان التشكيلي عبد الحليم كبيش

اللون الأزرق بتدرجاته، هو اللون العام للعمل، فتداخل الألوان الباردة، وتمازجها، وتجانسها مع العنصر الوحيد،  وخلفية اللوحة، تعكس لنا مشاعر الفنان وأحاسيسه الدفينة، وكيف يرى الشجرة بشكل مغاير عن الواقع، بما لها من إسقاطات، وأبعاد نفسية وإنسانية وتاريخية، عبَّر فيها عن التصاقه بالطبيعة، وتصالحه معها، وخوفه عليها.

الغابة في الواقع وألوانها الطبيعية، عادة ما تكون مكاناً مخيفاً وموحشاً، إلا أن كبيش جعل من تفاصيلها دلالات مختلفة، لقد صوَّر لنا الشجرة من أعلى، ولم يُظْهِرْ لنا الجزء العلوي منها، بل جزءاً من جذعها، وجذورها التي بدت ضخمة وقريبة ومتشابكة.

كبيش أثناء رسم لوحة الغابة

وهنا أراد كبيش أن يؤكد على أهمية الانتماء، ودفء التواصل الإنساني، ولم  يُظْهِرْ لنا صورة الأرض، التي تحتضن جذور هذه الشجرة، لكأن الانتماء المعني به، هو الوطن أو الأم!، فالغابة هي لوحة سماوية مفعمة بالحياة، والشجرة رمز للمعرفة والاختبار الصعب ومنبع للحكمة، ثمارها الحب والخير والظل والسكن، وجذورها امتداد للإنسانية، مكسَوة باللون الأزرق، لتوحي بدورة  الحياة، التي ترجع إلى بدايات الخلق والكون ولون السماء والماء والعودة لأحضان الطبيعة، فالأزرق بتدرجاته  مدمجاً بالأخضر، يجعل المشاهد يستشعر القوة والهدوء، ألوان محفزة على صفاء الذهن والاسترخاء والإلهام، ولكن ضبابية المشهد، وتداخله مع تدرجات اللون الأزرق، أوحت لنا بحالة الفنان النفسية، حيث الحزن والوحدة والاكتئاب! مشاعر ارتقت إلى مستوى الألوان، وهذا ما نستشفه من زوايا العمل، فلو كانت الشجرة كاملة بلونها الطبيعي، وألوانها الزاهية، لكان مدلولها إيجابياً، بينما الفنان رسم جذع الشجرة بأجواء ضبابية، ليسترجع شجرة الذكريات المليئة بالفرح، لتعكس  إنسانيتنا، التي باتت في معزل عن الطبيعة، فالجذور تنزف لونها الأحمر، إشارة إلى  الصراعات والحروب والفتن والتلوث، الذي بات ينخر في شجرة عملاقة،  كانت رمزاً للظل والأمان  والانتماء والعطاء، لذا غَيَّبَ الضوءَ الدالَّ على  التغيير الايجابي، ولم يترك إلا  ضوءً خافتاً جداً من اللون الأبيض، حبيس الخلفية في انتظار الأمل والإشراق والنور،  ليذكرنا بالنقاء والبراءة والبساطة، وكأنه يريد  لشجرة الإنسانية أن تنمو في أعماق كل واحد منا، وفرعها في السماء، لتعزز كثيراً من القيم التي فقدناها، وإن نحافظ على نعم الله تعالى علينا المتمثلة في الطبيعة الخلَّابة، ونلجأ إليها بعدما ضيقت علينا المدن سبل التواصل الحقيقي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

 ★ كاتبة ــ الكويــت

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى