مسرح

د. حاتم مرعوب: مايراوش…سيمفونية التوتر الخلاق بين الممثل والعروسة

د. حاتم مرعوب★

توطئة

إن النظر في مواقع القلق في عمل مسرحي، أمر صعب وجاد ومحفوف بالمخاطر، لأنه بداية علينا أن ندرك أن فعل القلق الذي نسعى إلى إبرازه، هو فعل خلاّق، أي أنه فعل يؤدي إلى الإبداع، من خلال طرح السؤال، ورفض المعتاد، ومحاولة إيجاد قنوات أخرى للفعل الإبداعي، وليس فعل القلق بما هو متعارف عليه.

فالحفر في ثنايا القلق وارتباطها بالنتاج الإبداعي، مسألة تستدعي الكثير من التأنّي، وذلك لأن القلق في ظاهره صفة سلبية وجب الِابتعاد عنها، والنظر في أسبابها، من أجل تجاوزها والحدّ منها، لأنها تتحوّل تدريجياً إلى حالة مرضية، وذلك ما أقرّته المجالات، التي نظرت في هذه الظاهرة ـ كعلم النفس- أما أن يكون هذا القلق مولداً أساسياً لتشكيل وإنتاج الخطاب الفني، فإنّ ذلك أمر مهم وجب التوقف عنده، وتفكيكه، ومحاولة إبرازه.

ففعل القلق كان ولا يزال، في علاقة وطيدة بتطور الفن وثوراته، والمتتبّع لمسارات تاريخ الفن، يرى هذه العلاقة القائمة بين الفن والقلق (وهنا لابدّ من الإشارة إلى الملتقى، الذي سينظمه المعهد العالي للموسيقى والمسرح بالكاف، حول هذا الموضوع “قلق الفن” والذي كان حافزاً لي لمساءلة فعل القلق، وعلاقته  بالفنّ المسرحي).

وإني على يقين تام، بأن القلق بما هو صراع خصب وتوتر خلاق، قادر على الإنشاء والتوليد وبث الحيرة، فمجمل هذه العوامل كانت أرضية أدت إلى نشأة الفن المسرحي، في جذوره الإغريقية الأولى.

انّ متأمّل الفنّ المسرحي في جوهره، يرى أنه نتاج لهذا القلق في توجّهاته، وتمظهراته الكبرى، والأساسية.

وانطلاقاً من المفاهيم الكبرى المؤسسة للفن المسرحي، اِبتداء من مفهوم المحاكاة بما هو إعادة خلق وإنشاء، ومروراً بمفهوم الحكاية وقيامها على مبدأ الصراع، بما هو أيضاً توتر وقلق من أجل دفع الأحداث، وتعريجاً على ثنايا التحوّل والتعرف بما هي قلق التحول من السعادة إلى الشقاء، وأيضاً بما هي ترقب للتعرف، وتوجس منه وصولاً إلى مفهوم التطهير، بما هو إثارة لمشاعر الخوف والرحمة، بماهي المصدر الأساسي للقلق.

 اِنطلاقاً من كل هذه المؤشرات، نقف على مدى حضور فعل القلق في تشكيل الفن المسرحي، وكذلك في علاقته بمختلف الفنون وتطورها.

وإن مشاهدتنا للعمل المسرحي “ما يراوش” للمخرج منير العرقي عن نص “العميان” لموريس ميترلنك، أثارت فينا هذا السؤال، وجعلتنا نلتمس هذا القلق، بما هو أولاً، تيمة من تيمات العرض، وثانياً، بما هو مولّد للخطاب الجمالي، في كيفية تشكيل المدى الفرجوي.

فهذه النداءات المغرية المنبعثة من تعاريج مسرحية “ما يراوش”، دفعتنا إلى إقامة حفريات، من أجل تتبع توبولوجيا القلق في كيفية إنشاء هذا الأثر الفني.

فكيف تجلَّى القلق في مسرحية “ما يراوش”، وكيف تَمَكَّنَ من إنشاء خطاب جمالي، لا يستكين للمتداول والمتعارف عليه، وذلك بالاعتماد على تقنيات وأساليب مبتكرة، في تركيب العرض المسرحي؟

  1. في مسار التشكل:
*العلاقة بين فعل القلق والفن المسرحي ، مسألة شائكة ونحن بصدد إعداد قراءة في هذا السياق ، للوقوف عند كل عنصر من عناصر الجهاز المفاهيمي للتراجيديا في علاقته بفعل القلق وسنكتفي بهذه الإشارات التي أوردناها لأن مجال هذه القراءة لا يسمح بذلك.

 

إننا سنتحدّث عن هذا القلق في البداية، من خلال النظر في مسار تشكل هذا العرض المسرحي، الذي كان نتاجاً لمختبر، والمختبر في أصله وجوهره، فعل قائم على القلق المعرفي والجمالي، إنه ذلك القلق، الذي لا يطمئن للمتعارف والمتداول من الآليات والأساليب، وإنه بحث وحفر في ثنايا الجديد والممكن ومحاولة، لإيجاد قنوات أخرى، للفعل الإبداعي شكلاً ومضموناً.

هكذا هو مسار تشكل هذا النتاج الابداعي “ما يراوش” لمنير العرقي، فهو أرضية لفعل قلق، لا يستكين للمتعارف والمتداول، وإنما هو لحظة من أجل الإضافة، في مساءلة مستمرة للممثل.

المحرك و العروسة

إننا في مسارات المكاشفة والمداعبة، والاستنطاق للممثل وجسده ووجدانه، وعلاقته بهذه العروسة/ الشخصية، وكيفية تحريكها والتفاعل معها، وإيصال الأحاسيس لها ومن خلالها، وإضفاء المعنى من خلال تضاريسها وملامحها.

من البداية نحن أمام فعل ينهل من هذا القلق، بما هو مولد للإبداع، وبما هو مسار للبحث والتجريب.

القلق بما هو صراع خصب، يجعل الجميع (كل المشاركين في المختبر، وصناع العرض في مسرحية “ما يراوش”) في تساؤل دائم وبحث مستمر، لكيفية تشكيل هذا النتاج، والوصول به إلى لحظة الفرجة، بما هي لحظة آنية، قابلة للتحويل والتغير والتطوير، وبذلك يكون هذا العرض “ما يراوش” حصيلة مسار مختبري، غايته الأولى، مساءلة لممكنات الفعل المسرحي كتابة وتمثيلاً وفرجة.

فلم يكن عمل “ما يراوش” نتيجة مسارات عادية، ولم يكن هاجسه الأول، تشكيل فرجة من أجل العرض، بل إنّ الأرضية التي تحرك هذا الأثر، وطريقة الوصول إلى اكتماله، لم تكن إلاّ وليدة صراع خصب وتوتر خلاق، رسم ملامحه الكبرى، المخرج منير العرفي.

فكيف تجلَّت ملامح القلق المشكلة للحظات المتعة الفكرية والجمالية،  في هذا العرض المسرحي؟

*لمزيد الِاستفادة يمكن العودة إلى غاستون باتي 1885 – 1952 ومخبره العرائسي ، الذي دام ثلاث سنوات ، من أجل مزيد فهم خصوصيات هذه التجربة والإضافة التي يقدمها مسار المختبر.

 

  1. في ثنايا العنوان

قبل بداية تتبع توبولوجيا القلق، في ثنايا هذا العرض للمخرج منير العرقي، وبعد أن توقّفنا عند مسار انتاجه، من خلال النظر في المختبر وغاياته، بدا لنا من الضروري ملامسة ثنايا العنوان، بما يحمله من معان ودلالات، وما يبثه من نداءات وإغراءات، “فالعنوان وحده اتصال ممتاز ومفتاح دلالي مهم، فهو من جهة، وحدة معرفية مستقلة، لها كيانها الخاص ودلائلها التي تعبر عنها، ومن جهة أخرى، سمة وظيفية مرتبطة بأدائها لعملها، تجاه النص الذي تتعالق معه”.[1]

“ما يراوش”، حالة قلقة تدعونا في آن واحد، إلى الحيرة والاطمئنان، إلى الحيرة أولاً من خلال أن فعل الإبصار، غير متوفر، وبذلك يكون الضياع والتيه والخوف، من القادم في كل مستوياته.

وإلى الاطمئنان ثانياً، حيث إنه لا وجود لعين تراقبنا، أو تنظر إلينا، وبإمكانها محاسبتنا، أو اعتراض سبيلنا، وهي بذلك يمكن أن تكون لنا مطواعة، تنفذ أوامرنا ومطالبنا.

إننا أمام ثنائية لا ندرك كيفية التعامل معها، فالعنوان رغم وصفه لحالة، إلاّ أنه لا يقدم لنا يقيناً كيفية التعامل مع هذه الحالة، وتبقى كل الِاحتمالات جائزة، ولكن العنوان أيضاً، يداعب فينا الفضول لمعرفة الحكاية، وفهم مدارات فعل الإبصار، وهل أنّ فقدانه يؤدي إلى توقف ونظر ومساءلة، “ومن هنا تنشأ ضرورة العنوان كوظيفة اتصالية، تؤسس ناصيته الجمالية أولاً، والإغوائية ثانياً، والرمزية ثالثاً، فيتشكل تجاذب بين وحدات العمل المختلفة، ويكون رقيباً، وشاهداً على القوى الفنية والفكرية الفاعلة، في عملية الإنتاج والخلق”[2]

لقد تمكن عنوان العمل المسرحي “ما يراوش” من أن يكون أرضية لبث الحيرة فينا، ولمداعبة فضولنا، وإلى دعوتنا إلى تتبع مسار هذا المقترح الفكري والجمالي، من أجل استنطاق هذه الحالة، وهذه الصفة التي تأخذنا في مدارات الحكم الأخلاقي، لكلمة “ما يراوش” التي تبقى عالقة في فضاء غير محدد، تنتظر الإجابة، فمن المقصود بهذه الصفة؟

 هل هم الشخصيات؟ أم هم المتفرّجون، أم الساسة والمسؤولون؟ أم الشعب بأكمله أصابته هذه الحالة، وأصبح لا يبصر.

“ما يراوش” عنوان له من الجاذبية والإغراء، ما يستدعي التوقف والنظر، لأنه جاء محملاً ومكتنزاً بإمكانيات التأويل، ودعوة لإدراك معنى المعنى، بما أنه يحمل في ثناياه فعل القلق، المعبر أولاً عن قلق هذه الجماعة التي لا ترى ولا تبصر،  وثانياً عن قلق المتفرج إزاء حالة هؤلاء، وبداية تلمس فعل التطهير، بما هو إثارة للخوف والرحمة، حتى لا نكون نحن حاملين لهذه الصفة في نهاية هذا العرض؟

من خلال هذا العنوان “ما يراوش” حاولنا تلمس بعض مظاهر إثارة القلق: فكيف تجلَّى هذا القلق في بقية المكونات، لتشكّل انساقا، وعلاقات تستدعي القراءة والتأمل، وليكون كلٌ يؤسس لوحدة العرض، “إن نصوص العرض تتكوّن من مجموعة أنساق، تشكل أنظمة، تفرض كينونتها، وقد تتزاحم تلك النصوص فيما بينها، بتخصصاتها المختلفة لغوية، وبصرية، وسمعية، وأدائية، وانفعالية، وبالتالي تتفاعل دينامياً، ليتشكل خطاب العرض”[3]، فكيف كان خطاب العرقي؟ وكيف تحول فعل القلق، إلى فعل إبداعي مسرحي لرسم ملامح تجربة قصوى، في متنها الدرامي من خلال فعل الِاقتباس والتحويل، لنص “العميان” لموريس ميترلانك، وفي متنها الجمالي؟

  1. في مدارات الحكاية

“ما يراوش” عرض يتشكل (الآن وهنا) من فراغ، ينطلق بدخان كثيف يحدّ خطوطه الأولى، ويسعى لإيجاد مشروعية التجلي، والظهور داخل حدود هذه المساحة، ينطلق العرض في نحت صوّر بتمهل، ودراية، يجعل من فضائه مساحة للكتابة والرسم، حيث تنطلق الرحلة بكشف حدود هذا الفضاء، “فالسياقات والأنساق المتولدة عبر الأداء التمثيلي، والتكوين البصري، الذي تدخل فيه كل عناصر العرض المسرحي، تحيل مفردات المكان، من مفردات طبيعية، إلى علامات دلالية مسرحية، وتمنحها القدرة على الإيحاء والإحالة إلى واقع مفارق لها، فتكون عندها موضوعاً جمالياً، يسهم المتلقي في إعادة إنتاجه، عبر إدراكه وتحليله”[4]

إننا أمام غابة تجلَّت من خلال أوراق الأشجار المتساقطة، والمتناثرة هنا وهناك طوال العرض، ومن خلال هذا الديكور السمعي، لخرير المياه وأصوات الحيوانات، إضافة إلى بث صورة خلفية، لأشجار مترامية الأطراف.

إننا أمام تأثيث يحدث أمام عيني المتفرج، ويدعوه تدريجياً للإقامة فيه، من خلال وصول الممثل/ المحرك، وهو يستعد للقيام بعرض شخصية لنا، إننا أمام مفهوم المسرحة بامتياز “إن المسرحة بمعناها الدقيق، هي كل ما يحمل طابع الفرجة « spectaculaire » وكل ما يحمل طابعاً مصطنعاً، بمعنى اختلافه، عما يوجد في الحياة العادية في النص والعرض، وكل ما يفترض الِازدواجية، الممثل والشخصية، التي يؤديها- الديكور- المكان الذي يوحي به”.[5]

لقد تمكن العرض من خلال تقديم فضائه الركحي، وكذلك الدرامي من أن يشكل لوحة تمازجت فيها الألوان والأضواء، وتداخلت فيها الأصوات وتجلَّت فيها الأجساد (المحركين والعرائس)، لينطلق الفعل الدرامي في تبيان خصائصه من خلال فضائه المشتغل عليه، “ويخضع المكان المسرحي بوصفه تكويناً فنياً للمعايير السائدة في دراسة جماليات الفن التشكيلي، وعناصره الأولية، كالخط، والنقطة، والكتلة، والفراغ، والحركة، واللون، والضوء، كذلك اشتراطاته الجمالية، مثل الوحدة، والتنوع، والتناسق، والتوازن، والتناغم، والإيقاع، والسيادة أو التمركز”[6].

لقد تمكن منير العرقي من بداية العرض، من تشكيل لوحة فنية، رسمت الأجساد فيها ملامحها الكبرى، في جدل بين أجساد الممثلين وأجساد العرائس، ومن خلال لعبة متميّزة لتلك العصي البيضاء، التي ساهمت في إعلان الضياع، وتيه للشخصيات، وهي في حالة انتظار، انتظار ذلك القادم المنقذ، على أمل العودة بهم إلى مكانهم القادمين منه، وتمكّنت تلك العصي على امتداد العرض، من نسج إيقاع ساهم في خلق أجواء من توتر الِانتظار، ومن قلق الخوف والتوجّس.

لقد تناغم التصوّر السينوغرافي بمكونات فضائه، وبمصادر إضاءته، وتنوعها، وقوتها، وتناسقها، وبتظافرها مع الأجواء الموسيقية، ومميزات الشريط الصوتي المتجلي في دعوات النسوة العجائز، وتسبيحاتهن، التي أضفت مسحة دينية روحية، تتماشى مع العوالم الرمزية، التي بنى من خلالها العرقي متنه الدرامي، كما في نصوص ميترلنك المسرحية الأخرى “وتصور هذه المسرحيات في مجموعها رؤية خاصة، تقترب من الصوفية لوحدة الإنسان، وانعزاله، وخوفه الدائم من المجهول والقوى الغيبية، التي تتحكم في مصيره”[7]

من خلال هذه العوالم الموغلة في الترقب والريبة، وفي مدارات الخوف من المستقبل، تتجلى لنا حكاية “ما يراوش” بعد أن تمكّن العرقي من رسم فضائها الركحي، محيلاً إلى فضائها الدرامي من خلال استدعاء شخصياتها، التي تنطلق في البوح والِاعتراف، ونقل الأحاسيس والعواطف، لتأخذنا معها لفهم تعاريج الحكاية، في مكان ما، وفي زمن ما، مجموعة من الرجال والنساء، فاقدو البصر، في حالة انتظار لرجل دين تركهم هناك طالباً منهم انتظار عودته، للعودة بهم، ولكنه لا يأتي، وتشرع أبواب الخوف أمامهم، وتفتح بوابات للتوجس والتخمينات، وتتشكل ثنايا الحالات النفسية وتداعياتها.

إننا أمام فضاء عام تلتقي فيه الشخصيات باختلافاتها، ليتحول إلى فضاء للجدل والحوار، وكأننا أمام مفهوم (لاغور) الإغريقية، تلك الساحة العامة بما هي، اِلتفاء وصراع خصب، وتوتر خلَّاق للأفكار، والرؤى، والمواقف، والمواقع، وحديث في الشأن العام (ألم يكن المسرح من الإغريق إلى الآن حديثاً في الشأن العام؟) خاصة وأن المسرحية تفتح بحوار أول، يحمل من المعاني الكثير، وبه كذلك تختم “اِنتهى زمن حكم الشيوخ”.

إن المتأمل في نص ميترلنك، يرى أن الوضعية التي اختارها، هي درامية بامتياز، أناس لا يبصرون في مكان مبهم- لا يعلمون إلى أين سيمضون ــ وما الأخطار التي يحملها قادم الساعات والأيام، إننا أمام حالة انتظار مفعمة بالخوف والتوجس، من هذا القادم الذي لا تتجلى ملامحه، فيتولد القلق كمولد أساسي للتداعيات، ويتداخل الواقعي بالغيبي، واليومي بالديني، والفكري بالروحي “وتعتبر مسرحيات ميترلنك، والمسرحيات الرمزية عموماً من أصعب المسرحيات إخراجاً، فهي تعتمد اعتماداً كبيراً على الإيقاع والإضاءة، لإبراز لحظات الصمت البليغة، والظلال الموحية، التي تساعد على تجسيد المعاني”[8].

لقد تمكّن منير العرقي من أن يشتغل بآليات عارفة وعليمة، لإبراز محوري الفضاء والزمن.

إننا أمام تشكل لصوّر متتالية، في إيقاع قادر على شدّ انتباه المتلقي، وفي توليد مستمر لرموز ودلالات، تنطلق من سياق تاريخي واقعي، وتتعالى لفضاءات لا تاريخية، فتولد دلالات جديدة، لا تنسخ الدلالات القديمة، وإنما تمكنها من دلالات أخرى، تتراكب فوق الدلالات السابقة “ولذلك فللرمز في صلب الخطاب سمتان اثنتان هما: التاريخية، بمعنى التجذر في التاريخ، لأن الخطاب يتنزل في مقام وسياق تاريخي، وسمة اللاتاريخية، أي اختراق للتاريخ”[9]

  1. قلق الانتظار وتشكل الأسئلة

إن الاشتغال على اليومي في تفاصيله الدقيقة، وجعلها تحت المجهر من أجل تكبيرها وإبرازها، وجعلها مادة درامية، قادرة على شدّ انتباه المتفرج، ومخاطبة وجدانه، وبث الوعي فيه من أجل التفكير والتأمل، من الهواجس الكبرى التي سعى هذا العرض إلى إدراكها، وذلك من خلال هذه التداعيات التي باحت بها كل شخصية في “مايراوش” تقول شخصية (القصير):

“كيف تبدى ضرير عايش في الظلام تستانس وتنسى ما عادش تتفجع كيف تبدى تمشى على حافة هفهوف، ما عادش تخاف من عينين الكلب المكلوب الحمراء وإلاّ لفعة واقفة على ذيلها وعينيها شاعلة مرشوقة في عينيك تقحرلك”.

هكذا تنطلق تداعيات الشخصيات، وهي ترسم ملامح هذه الوجيعة الدائمة، وجيعة عدم الإبصار والاستئناس بالظلام، إننا أمام رسم دقيق لهذه الحالات والوضعيات، التي من خلالها تتشكل الشخصيات، في هذا الزخم الهائل من وجع أبدي، تواصل شخصية (القصير) رسم ملامح هذه الوجيعة وتقول:

“كيف تكون أعمى كيفي، مولود في الظلام  ترتاح ما الألوان ماعادش يعنولك شيء، السحاب القرى الغامق والوردة حمراء دم”.

اِنطلاقاً من هذه الحوارات الباطنية، والمتشكلة من لغة بسيطة ومعبرة، عن حالة وجدانية تصور هذا القلق الداخلي الدفين، لكل شخصية من شخصيات مسرحية “مايراوش”، هذه الشخصيات التي تعيش وحدة وعزلة في ظلامها الأبدي والدائم، تضاف إلى حالة الانتظار، وهذا التيه والخوف من القادم المجهول، تتحدث الشخصيات في بداية العرض.

القصير: مازال ما رجعش؟

الفكرون: ما رجعش

الحنش: فيقني من نومي

لكوع: حتى أنا كنت راقد

القصير: مارجعش؟

الحنش: ما نسمع في حتى شيء جاي

 لكوع: وقيت باش نروحو

الفكرون: يلزمنا نعرفو أحنا وين؟

الحنش: ماللي ذهب بردت

القصير: شكون يعرف أحنا وين؟

العزوزة: مشينا برشة لازم رانا بعدنا برشة.

من خلال هذا الحوار الدائر بين الشخصيات، تنطلق معالم الانتظار، وتتشرع أمامنا هذه الحالات وهي بصدد التشكل، لتتراءى لنا جماعة من العميان، في منتصف الطريق غير قادرة على الفعل، عاجزة عن إيجاد الحل وإتيان الموقف، مغتربة ومسلوبة الإرادة والقدرة، نظراً لفقدانها البصر والرؤية، وغياب دليلها ومرشدها.

إننا أمام تتبع وصفي، ودقيق لما تعيشه هذه المجموعة، اِنطلاقاً من معالجة أقامها العرقي، لتحويل هذه الأعمال والأفعال العادية، لمادة درامية مكتنزة بممكنات التأويل.

مساءلة الإنسان  تنطلق من هذا التيه، أو الضياع من حالة القلق القادرة على إرباك الكل، من خلال فعل الِانتظار اللانهائي.

من خلال إبراز هذه العواطف، وجعلها أمامنا مرئية.

 “المسرح فيض عواطف، نقلة مرعبة للقوى من الجسد إلى الجسد، هذه النقلة لا يمكن أن تحدث مرتين[10]

هذا ما يقره أنطونان أرطو في كتاباته عن المسرح، وهذا ما تحمله شخصيات مسرحية “ما يراوش” من عواطف، ومن مشاعر، ومن شحنات وجدانية طوال العرض.

ترسم وتشكل الصّور، وتنتظر، إننا أمام عرض جسدي حسي من خلال العرائس والممثلين، إننا أمام هذه الآهات المتواصلة دون هدى، تبحث عن ذلك الخلاص، وعن ذلك المنقذ.

ألم تكن الإنسانية في تاريخها الطويل، في رحلة بحث وانتظار لمنقذها (المهدي المنتظر)، أليست إلى الآن في انتظار ذلك القادم القادر على انتشالها، والخروج بها من هذه الوضعية المأساوية والتراجيدية، التي وجدت نفسها فيها، ألسنا دائما نكرر “سيأتي الفرج حتماً”.

هكذا هي مساءلة هذا الإنسان في مسرحية “ما يراوش”، تتم عن طريق فعل الانتظار، وفي حالة عمى دائمة ـ لا رؤية ولا إبصار- اِنتظاراً  لهذا القادم الذي لم يأت مع بيكيت في مسرحية “في انتظار غودو”، والذي مات نهائياً في عرض “مايراوش”، ولم يعد بالإمكان الاعتماد عليه، لإخراج هذه المجموعة من تلك الوضعية، على هذه المجموعة أن تعتمد على نفسها لإنقاذ مصيرها، ولكنها من جديد تعتمد على طفل صغير مبصر، ربما هو الأمل الوحيد لديها، إنها تنظر إلى المستقبل عله يكون أفقاً آخر، يخرج الإنسانية من هذا العمى، ومن هذا الظلام السائد.

إنّ عرض “ما يراوش”، يفتح لنا ممكنات أخرى في انتظار هذه المجموعة، وإن كنا لا نطمئن كثيراً  الى هذا الحلّ الجديد، ولكنه في النهاية هو الأمل المتبقي، عله يُمَكِّنُ هذه الجوقة من العودة إلى ديارها، وذلك من خلال حوارها الأخير.

حيث تتحدد ملامح هذا الترقّب وهذا الاعتقاد، بأن الطفل هو المنجي من هذه الوضعية.

“العزوزة: الخطاوي من هنا اسمعوا

الشايب: صوت روبة تمسح على الأوراق الشايحة

الأعمش: مرى؟

الشايب: خطاوي

الصغيرة: أشنوى تشوف؟

القصير: منين يشوف؟

الصغيرة: يتبع في حس الخطاوي لازم يشوف في حاجة غريبة.

الحنين: هزوا الفوق خلي يشوف من بعيد”

لقد تحول الطفل إلى أمل للمجموعة في الخروج من هذه الوضعية، ولعله يكون المنقذ والدليل للعودة بهم إلى الديار، وانهاء حالة الانتظار، وقلق الخوف من القادم.

فلقد تمكّن “العرقي ” من خلال عمل “ما يراوش” من أن يجعل التداخل قائماً بين هذه المجموعة وما تعيشها من حالات، وبين هذا الواقع المَعيش الذي تمرّ به البلاد من أزمات اقتصادية، واجتماعية، وسياسية، وفكرية، إننا أمام هذا التدافع بين تصريح وتلميح، لينتهي بكلام “الصغيرة” وهو يدوي في الفضاء “حكم الشياب عادك بيه باش يوفي”، هذه الجملة التي ظلت عالقة في أذهاننا، وكأنها مقولة ترنو إلى الحكمة، وتتشكل وكأنها حقيقة، اِنطلق بها العرض، وبها غلق في حركة دائرية، هذه الحركة الدائرية، التي كانت متكرّرة في لعب الممثلين طوال ردهات العرض، وما تحمل الدوائر من رموز دينية وأسطورية، تبحث عن الأزل والسرمد.

لقد تمكّن منير العرقي من تركيب عرض، ينهل من الواقع، ويحيل إلى الرمز في تماسك متين، وبقدرات تنم عن ذكاء في دمج مفردات العرض في وحدة تامة، وباستغلال فطن لكل مقومات الفرجة المسرحية من تصور سينوغرافي، ولعب للممثل مع العروسة، وبنص عرض سلس وبسيط ومعبر، ينقل الحالات والعواطف، ويفجر الوضعيات الدرامية، لتشد المتفرج إليها “إن التركيب يسمح بإدماج المتلقي في بناء مضمون حكاية النص، والإمساك ببنيته الكبرى، كما أنه يسمح بخلق إيقاعية متنامية انطلاقاً من الِانتقالات الدينامية، بين اللحظات الدرامية، والبنيات الصراعية دون مراعاة التوالي والتسلسل.

وانطلاقاً من القفزات بين تجزيئات النص، التي تبدو ظاهرياً مفكّكة، لكنّها تلتقي في التركيب النهائي، الذي يراهن على مشاركة المتلقي في تجميع عناصر الحكاية، وتركيب البنيات، وإعادة توليف متتاليات النص، وهي مشاركة تضع المتلقي بين لحظات الاسترخاء والتوتر، حسب إيقاع العرض، وتجعله على مسافة متحركة بين الاقتراب والابتعاد، من أجواء الحكاية”[11]

هكذا كان عرض “ما يراوش”، تجربة قصوى، ومتميّزة في متنها الدرامي، وفي مداها الفرجوي.

  1. في جدل الواقعي والرمزي

إن معالجة تيمة العمى وانعدام الرؤية، من التيمات صعبة المِراس، وذات الخصوصية في آن واحد؛ إذ تحملنا إلى الأساطير، وبدايات تشكل الكون عند الإغريق (الكاوس)، وتحملنا أيضاً إلى عوالم الدين، حيث التركيز على البصيرة، وإهمال الإبصار، وكأنّ انعدام الرؤية يتحول إلى رديف، أو قرين الحكمة، وصوت من أصوات الحق، وأصوات الإله.

ولكن هذه التيمة في مسرحية “ما يراوش”، كانت تتأرجح بين مشارف الدين، وحدود الواقع.

فالحكاية تأخذنا إلى حضور هذا الشيخ، الذي يقود جوقة العميان من أجل الإحساس بأشعة الشمس وتمثلها، وهو بذلك يحقق حلماً من أحلام هذه المجموعة، ورغبة من رغباتها في معانقة أشعة الشمس ونورها، من خلال الإحساس والتخيل، ولكن هذا الشيخ يتركهم في هذا الخلاء الموحش،  طالباً منهم الِانتظار حتى عودته، ولم تتردد جوقة العميان في تتبع هذا المسار، وفي الِاعتقاد في هذا الِاختيار، واطمأنت له، بل جعلته خِيارها الأوحد، وأقرّت وأجمعت، بأن هذا الشيخ هو منقذها وسبيلها الوحيد، وبقيت تنتظر، وطال الانتظار، وتبدد الِاطمئنان، وتحول إلى حيرة، وأضحى السكون والهدوء، توتراً وصراعاً، وبدأ الخوف من مصير غير معلوم.

إننا أمام مسألة لهذا الوضع الإنساني، في علاقته بخطاب الدين وسلطته، وهذه القناعة المرعبة في ممكناته، والاعتقاد في أنه المنقذ والمخلص، فيتحول تدريجياً إلى كابوس، يحمل إلى عوالم مرعبة، ويؤدي إلى قلق وريبة، بطريقة رمزية، وفي مسار انسيابي، ومن خلال تتبع وضعية المجموعة، ارتسمت ملامح الدين أمامنا في تاريخه الطويل، لنجدد السؤال في علاقتنا به، وفي كيفية تعاملنا معه.

هل يمكن للدين أن يكون هو السبيل الوحيد لإنقاذ الإنسان؟

لم تعالج مسرحية “ما يراوش” لمنير العرقي، حضور الإنسان في ذاته، بل جعلته ذاتاً جماعية، تحيل على الإنسان في المطلق.

إننا أمام عرض يجمع الإنسان الفردي، وانفعالاته، وهواجسه، وأحلامه، وطموحاته، وأمام الإنسان الِاجتماعي وتاريخه، وأمام الإنسان الكوني وعلاقته بالمقدس، من خلال انتظاره لرجل دين، وعد ولم يف بوعوده، وترك المجموعة تنتظر.

من خلال هذه المعالجة لهذا الإنساني والكوني، يتمكن منير العرقي من أن يجذر نص “العميان” لموريس ميترلانك في تربة، وفي أرضية تونسية من خلال الشخصيات، وكيفية تركيبها وملفوظها، والمواضيع المعالجة، وقد تبيّن ذلك بوضوح من خلال الحوارات الباطنية لبعض الشخصيات، والتي لم تكن في النص الأًصلي لميترلنك، وهذه الإضافات كانت تتماشى وتتناغم مع هذا التنزيل للنص في سياقة التونسي، وفي علاقة مع المعطى الِاجتماعي، والسياسي، الذي ميز هذه العشرية الأخيرة من تاريخ تونس بعد الثورة “زمن استقرار الفواجع في فضائنا العمومي، وهي فواجع خيمت علينا بظلام الِاغتيالات، والعمليات الإرهابية، وسياسات الخراب الممنهج،  وتخصيب التجويع، وانهيار الحكومات، وانعقاد أكبر مؤتمر لأكبر حزب ظلامي، شرع لهستيريا الرصاص، وتفنن في التنكيل بخصومه”[12]

إننا أمام نص كان قادراً على استيعاب التصورات الجديدة، وأرضية مثلى لقراءات ورؤى جديدة، تمكنت من ملء فراغاته، وإزاحة المسكوت عنه، وتفجير طاقاته الدلالية “ولعل النص المسرحي، يظل أكبر أجناس الكتابة الإبداعية توفراً على هذا النوع من الفضاءات والفراغات ومواطئ البياض، لأن كاتبه وهو شاعر عصره وضميره، يراهن على ديمومته واستمراريته من أجل بلوغ سدرة الخلود، والتي لا تعني غير قابلية النص المسرحي بعلاماته الكبرى، وما يرشح به من معان جوهرية في الِانخراط في أزمنة أخرى، وفضاءات متعددة، بفضل انصياعه الدائم للقراءة، بصيغة التعدد والاختلاف”[13].

  1. في تدافع الممثل والعروسة

“نحن مدينون للعرائس، لأنها تعوض الممثلين الأحياء، فأنا أحبّ العرائس، فالذين يصنعوها فنانون، والذين يحركونها شعراء، عندما تقدم لنا دراما شكسبير، أو أرسطوفان، فإنني أخالني أشاهد فكرة الشاعر تمرّ أمامي بحروف قدسية على حائط معبد”.

من خلال هذه المقولة لأناتول فرانس، تتجلى لنا مميزات هذا الِاختيار الذي قام به منير العرقي، لإخراج نص موريس ماترلنك “العميان”، وهو التعويل على ممكنات العرائس المحمولة، ومدى قدرتها على رسم ملامح الشخصيات وتركيبتها، شخصيات طريفة وظريفة ماثلة أمامنا، تبحث عن شرعية حضورها، وتلقي بحواراتها وملفوظها، وتترأى لنا حالاتها ومشاعرها، من خلال شخصية “الفكرون، والصغرونة، والأعمش، والحنين، والعجائز الثلاثة” وغيرها، تتوضح لنا مجمل الشخصيات العرائسية، التي ستؤثث لنا هذا الفضاء، وستروي لنا تفاصيل الحكاية، من خلال ذلك الممثل الذي يحركها، ويتجلى لنا في مسرحية “ما يراوش” هذا الصراع بين الممثل وبين العروسة، على كامل ردهات العرض، فالممثل يعايش العروسة، ويُمَكِّنُها من أدق التعابير، للإفصاح عن وجدانها، وعن الحالات التي تعيشها، ولكنه في الوقت ذاته، يُسائلها، ويتحاور معها ويذكرنا بأنه هو أيضاً له حضور، وله إضافة، ويشكل بذلك هذا الصراع القائم بين الممثل وبين العروسة “الذي يهمني في عملي، هو إظهار الإنسان في صراعه مع ذاته، والمواجهة بين الخامة المحركة ومحركها، عندما تكون الشخصية هي امرأة، وتعكس الصراع، أو تكون هدف الصراع، فهي تعبر عن الإمكانيات الداخلية والخارجية عند الممثل، إنه سحري ومحير أيضاً، لأنه عملية ترتبط بالحيوية، التي توجد داخل المحرك والمشاهد على حدّ سواء، فهي تقلب مسلمات الوعي الإنساني، وتحث فعل التخييل بنفس الدرجة عند صراع الإنسان والعروسة، وفي نفس الرابطة السحرية”[14]

من خلال هذا الِاختيار الجمالي لممكنات العرائس، يترأى لنا هذا القلق المعرفي والجمالي، لكيفية التعامل مع العروسة، فالعرقي من خلال مسرحية “ما يراوش” يسأل هذه العروسة، ويسأل أيضاً طريقة تحريكها، وكيفية تفاعل الممثل معها، ويفتح لها أفقاَ آخر، وجديداً في جدلها مع هذا الممثل المحرك، أو الممثل العرائسي، لتتجلّى لنا هذه الثنائية بامتياز طوال عرض “ما يراوش” نحن أمام ممثل وعروسة، يتداول الغياب والحضور بينهما، وكل منهما يبحث عن شرعية حضوره، وتأثيره في المتلقى،  “إن الدمية تستطيع استيعاب أدق مشاعر الممثل المؤدي، التي تنساب من خلال تقنيات التحريك في حالة التمكن،  لتبهر، وتتفاعل، وتُؤَثر في المتلقي”[15]

ولقد تمكن ممثلو عرض “ما يراوش” من نحت تجربة قصوى في معايشة العروسة وكيفية تحريكها، مكنت من الإقناع والتأثير، ورسمت ملامح مسار متميّز، قادر على الإضافة، ومزيد تطوير استغلال ممكنات العرائس، وتشكيلها للفرجة المسرحية، ولقد كان الِاشتغال في مسرحية “ما يراوش” ينقسم إلى صنفين:

اشتغال داخلي يتسنى من خلال معايشة للوضعيات الدرامية، التي تكون فيها الشخصية العروسة، واشتغال خارجي يتمثل في كيفية تجسيد ردود فعل هذه العروسة، من خلال حركتها وحضورها المادي.

 إننا أمام قلق جمالي، يتمثل في كيفية انصهار هذا الِاشتغال الداخلي والخارجي، بين الممثل والعروسة.

إنها مواجهة بين الممثل والعروسة، تُفضي إلى صراع خصب قادر على تشكيل مشهديه متميزة، وجذابة مكتنزة بالمعاني، إنه رسم يوازي الإحساس، أو بشكل أدق إحساس، ينبع من ممثل، وينتقل إلى رسم، وتشكيل عن طريق العروسة بدعامة حركة متقنة، لتفتح أبواب الخيال.

إن هذا الاختيار الذي أقدم عليه منير العرقي، إخراج نص “العميان” لموريس ميترلنك” عن طريق العرائس، إنما هو في حدّ ذاته أرضية للتجريب والبحث، وهو تعبير عن هذا القلق المعرفي والجمالي، القادر على صياغة الأسئلة، ومسارات بحث عن قدرة العرائس، ومدى استجابتها، لتشكيل مشهديه فنية متميزة، وفتح آفاق أخرى أمام الفن المسرحي، “لقد كان الحل دائماً، هو مسرح الدمى العرائس، على مرّ أزمات المسرح العالمية، كتابة، ولغة بصرية، والشكل، والوظيفة، وتطوير الفنون الأدائية، بل حتى على مستوى التعبيرات السياسية والِاقتصادية والِاجتماعية، كانت الدمى حاضرة بقوة في الوعي المجتمعي لكل الشعوب والأمم”[16].

لقد تمكّن منير العرقي بهذا الاختيار ، وضمن مسارات هذا المختبر، من الاشتغال على ثنائية (الممثل/المحرك- الشخصية /العروسة) حيث دفع بممثليه، لخوض غمار هذه التجربة الفريدة، التي أفضت إلى تعامل خاص بين الممثل والعروسة.

فالممثل في عرض “مايراوش” يعايش العروسة، ويسألها ويقترب منها، ويبتعد عنها في آن واحد، إنه في جدل وصراع معها، من أجل الوصول بها إلى أرقى لحظات المتعة، تلك المتعة التي تستدعي الوعي الضروري، لتوظيف إمكانياتها.

لقد كان عرض “مايراوش” أرضية مثلى لهذا الصراع الخصب، والتوتر الخلاق بين الممثل والعروسة، أفضى إلى عزف سمفونية رهيبة، انطلقت من الكلمة، مروراً بالحركة،  وصولاً إلى الصورة.

الخاتمة:

لقد حاولنا من خلال هذه القراءة لمسرحية “ما يراوش” لمنير العرقي، تتبع مواطن القلق بما هو أرضية للخلق والإنشاء، وبما هو مساءلة للآليات والتقنيات، وبما هو جدل وحوار للكائن والممكن، وذلك من خلال التوقف عند مسار التشكل، وقيام هذه التجربة على مختبر يبحث عن تطوير لكيفية تحريك العروسة، وتثوير للعلاقات الممكنة بين الممثل والعروسة، مروراً بما يحمل العنوان من بث الحيرة ومداعبة الفضول، وحاولنا التوقف عند مدارات الحكاية، وسؤال الانتظار، وما يترتّب عنه من تداعيات وبوح للشخصيات، وتتبعنا هذا التدافع القائم بين الواقعي والرمزي، في نسج خطوط العرض الكبرى، وإبراز مرجعياتها الفكرية والجمالية.

ولقد تمكّن المخرج “منير العرقي” من فتح أفق آخر لفن العرائس، بمعالجته لنص “العميان” لميترلنك، من خلال تشكيل عرض تميز بجدية الطرح، وبتجريبية جد ممتعة في علاقة الممثل والعروسة.

لقد كان عرض “مايراوش” لمنير العرقي، أرضية للسؤال والتساؤل، وتمكن من خلق مدارات البحث والقراءة، ولتجلي مكامن المتعة واللذة، في المتن الدرامي، وفي المدى الفرجوي.

المصادر  والمراجع

  • المصادر

عرض مسرحية “ما يراوش” بتاريخ 10 أبريل 2023 بمدينة الثقافة تونس

  • المراجع
  • المعاجم باللسان العربي

حنان قصاب وماريا إلياس- المعجم المسرحي ناشرون لبنان

  • الكتب باللسان العربي

منصور نعمان: تعددية نصوص العرض المسرحي إصدارات دائرة الثقافة حكومة الشارقة 2017

كريم رشيد : جماليات المكان في العرض المسرحي المعاصر من المكان الخرافي ما قبل الفلسفة إلى العصر الحديث ــ مجلة دين الثقافة أكتوبر 2015

نهاد صليحة: المدارس المسرحية الهيئة المصرية العامة للكتاب 1994-

محمد بوعجينة- حفريات في الأدب والأساطير سلسلة مقام مقال دار المعرفة النشر- الطبعة الأولى 2006

حاتم التليلي المحمودي: المسرح والفضاء العمومي قول الممكن نقدياً ــ  شامة للنشر الطبعة الأولى 2022-

عبد الحليم المسعودي جنون أو شعرية خطاب احتجاجي عاشق، من تقديم كتاب جنون لجليلة بكار دار الجنوب تونس 2001

جاك دريدا، الكتابة والِاختلاف مسرح القسوة وحدود التمثيل

ترجمة كاظم جهاد- المعرفة الفلسفية دار  تويفال للنشر

عبد المجيد شاكير: عناصر التركيب الجمالي العرض المسرحي- الهيئة العربية للمسرح الثقافة  المسرحية 2- الشارقة 2013

كتاب جماعي وثائق الملتقي العربي لفنون العرائس وخيال الظل 2 الدورة الثانية 2014 تونس

  • المجلات

درمش باسمة: مجلة علامات- النص وقضاياه- المجلد 16- الجزء 61 النادي الأدبي الثقافي بجدة مايو 2007

  • الرسائل العلمية

نزار السعيدي في “العرائسي والعروسة” من التجسيد إلى التجريد

رسالة مقدمة لنيل شهادة الماجستير في العلوم الثقافية ـ إشراف الدكتور محمد المديوني 2009

مؤسسة المركز الوطني لفن العرائس تونس

إدارة : منية عبيد المسعدي

تقدم مسرحية

ما يراوش

Blackout

نص ودراماتورجيا وإخراج:  محمد منير العرقي

عن العميان لموريس ماترلينك

تمثيل وتحريك العرائس :

هيثم وناسي

فاطمة الزهراء المرواني

أسامة الماكني

هناء الوسلاتي

أسامة الحنايني

إيهاب بن رمضان

ضياء المنصوري

أميمة المجادي

محمد الطاهر العابد

عبد السلام الجمل

مساعد مخرج وتوضيب عام : صبري عبد اللاوي

سينوغرافيا: حسان السلامي

موسيقى : أسامة المهيدي

كوريغرافيا : حافظ زليط

الإشراف على ورشة صنع العرائس : الأسعد المحواشي

تصميم العرائس و الملابس : عبد السلام الجمل

صنع وتنفيذ العرائس والملابس والإكسسوار:عبد السلام الجمل بمساعدة أميرة اللواتي

نحت : ياسين بشر

صنع الديكور والمتممات الركحية : ورشة المركز الوطني لفن للعرائس

تقني إضاءة: معز العبيدي

تقني صوت: أمين الشورابي

توضيب لوجستي وشراءات : حسنة المرساوي

توثيق سمعي بصري : خالد الشيخ

تصميم المعلقة : ياسمين عبد السلام

  • الإحالات

[1]  باسمة درمس: مجلة علامات- النص وقضاياه- المجلد 16- الجزء 61 النادي الأدبي الثقافي بجدة مايو 2007 صـ 42

[2]  نفس المرجع صـ 58

[3]  منصور نعمان: تعددية نصوص العرض المسرحي، إصدارات دائرة الثقافة، حكومة الشارقة، 2017، صـ 6

[4] كريم رشيد : جماليات المكان في العرض المسرحي المعاصر من المكان الخرافي ما قبل الفلسفة إلى العصر الحديث ـ مجلة دبي الثقافية أكتوبر 2015 صــ 142

[5]  حنان قصاب- ماري إلياس، المعجم المسرحي، ناشرون  لبنان صــ 463

[6] كريم رشيد : جماليات المكان في العرض المسرحي المعاصر من المكان الخرافي ما قبل الفلسفة إلى العصر الحديث ـ مجلة دبي الثقافية أكتوبر 2015 صـ 155

[7]  نهاد صليحة: المدارس المسرحية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994- صـ 27

[8]  نهاد صليحة مرجع مذكور سابقاً صـ 29

[9]  محمد بوعجينة- حفريات في الأدب والأساطير سلسلة مقام مقال دار المعرفة النشر- الطبعة الأولى 2006 صـ 47

[10]  شاهد أوردة جاك دريدا: الكتابة والإختلاف مسرح القسوة وحدود التمثيل

ترجمة كاظم جهاد- المعرفة الفلسفية دار  تويفال للنشر صـ 100-101

[11] عبد المجيد شاكير: عناصر التركيب الجمالي للعرض المسرحي- الهيئة العربية للمسرح، الثقافة  المسرحية 2- الشارقة 2013 صــ 64

[12]  حاتم التليلي المحمودي: المسرح والفضاء العمومي قول الممكن نقدياً ـ شامة للنشر الطبعة الأولى 2022- صـ 102

[13]  عبد الحليم المسعودي جنون أو شعرية خطاب احتجاجي عاشق من تقديم كتاب جنون لجليلة بكار ـ دار الجنوب تونس 2001 صـ 11

[14]  Mereuze Didier, Philippe Gentry, le théâtre de la ville, saison 91-92 p 4

هذا الشاهد أورده نزار السعيدي في “العرائسي والعروسة” من التجسيد إلى التجريد

رسالة مقدمة لنيل شهادة الماجستير في العلوم الثقافية ـ إشراف الدكتور محمد المديوني 2009 صـ 78-79

[15]  محمد سراج: مسرح الدمى والعرائس ورهان التنمية الثقافية في الوطن العربي. وثائق الملتقى العربي لفنون العرائس وخيال الظل 2 الدورة الثانية 2014 تونس صـ 20

[16]  نفس المرجع صـ 20-21

_______________

★ مخرج مسرحي __ تونس

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى