مسرحمشاركات شبابية

سارة عمرو: ما العمل لو غرق المجتمع بالتفاهات؟!

(في غياب الأديب الكبير عم إبراهيم)

سارة عمرو

تتداخل المعرفة بالتطور في شكل جدلي منذ قديم الأزل، والمعرفة هنا تشمل جميع حوائط الثقافة، والعلم بشتى أنواعه…يصعب تذكرها كلما طغت الحداثة على المجتمعات، لكن تظل مُتمسكة من قبل المُهتمين بعدم ضياعها….قد يصنفهم المجتمع كقلة في العصر الحديث، بل وقد يُهمشهم أيضاً، ليواكب بنفسه التيار مع الجموع فارغي  العقل تماماً، وخالين من المنطقية…يصعب وقتها تصديق العاقل، ويسهل تمجيد المجنون…فإذا كان العاقل يلوح بالكتاب، ويحاور بالثقافة، ويستنبط بالمنطق…فلو حمارو قد ضرب بعرض الحائط الثقافة، ليُسقطها كثوب بالٍ في عقول الناس….لم يكن لو حمارو البداية، بل كانت مبادئهم التي تقف على الهواء مُشتتة وزائلة غير مُستقرة، هي من سبقت تمهيداً لنتيجة أفعالهم…فما العمل لو غرق المجتمع بأسره في التفاهات، التي يخلقها الناس منهم وإليهم، بسبب قلة الوعي بأهمية ما يملكون من ثقافة وعلم؟

أبدع فريق دراما للمتخصصين في عرض الأديب الكبير عم إبراهيم…إخراج محمد عصام، وتأليف محمد عادل…الذي عُرض لأول مرة على مسرح كلية البنات في ثامن أيام رمضان الجاري.

في الحقيقة كان العرض يسير على منحنى جيد نوعاً ما،  باستثناء بعض الثغرات، التي كان لي تعقيب عليها، وسأتناولها في السطور القادمة…لكن قبل ذلك أرغب في الإشادة بالفكرة، التي تناولها العرض وهي بذرة جيدة، لتُزرع في المتلقي، فتلفت انتباهه لما هو واقع حوله…فالمسرحية تدور حول الأديب الكبير عم إبراهيم، الذي لا يأتي، وهو ما يُذكرني بمسرحية (في انتظار جودو)…حيث ينتظران جودو الذي لا يأتي أبداً، وفي ذلك إشارة لفكرة نابعة من الذات الإنسانية، حول فكرة الناس في ظل الحداثة، التي تُحيطهم، والتطورات التي يغرقون فيها منتظرين الأدب والثقافة، التي من المُفترض لهما أن ينتشلوهم من عصر الجهل الرمزي ذاك.

تبدأ المسرحية بظهور شخصية بائع الورق، الذي يجمع الورق المُستعمل، ويبيعه بالكيلو، وهو يُعد بمثابة تمهيد لأحداث المسرحية، التي تعبر عن عدم اكتراث هؤلاء الناس للأدب والثقافة، حيث نرى الناس ينتظرون وصول الأديب عم إبراهيم معبرين عن سعادتهم بقدومه، من خلال استعراض في البداية، وكأنه المخلص بالنسبة لهم خصوصاً وأن العرض في بدايته، يعرض تداعيات لسلطة المدينة، وغضب الناس العارم، باحثين عن حلول لمشاكلهم ومعاناتهم مع مسؤولي المدينة، الذين لا يعلمون الحل من الأساس، فينتظر الجميع عم إبراهيم ….فيظهر حمار بدلاً عنه في الساحة، فيتخذه الناس بديلاً للمخلص الأساسي، الذي كانوا ينتظرونه …فأصبح الخلاص الذي ينتظرونه نابعاً من حمار عوضاً عن أديب مثقف!

تدور الأحداث، وتتصاعد بتمجيد الناس للحمار، وكأنه شيء مُقدس بالنسبة لهم، هذا لأنه في نظرهم يمثل لكل منهم شيئاً ما، وهو إسقاط على فكرة خطوط الحياة العابرة، التي ينخرط بها الناس، وهي ما تشكل مشاعرهم، وردود أفعالهم…. فمثلاً عند العمدة يُمثل الحمار السُلطة والنفوذ…وعند المدرس ـ الذي كان يريد استكمال زيجته من ابنة العمدة، الذي رفضه من أجل إعطائها للحمار عوضاً عن المدرس ـ يمثل ضياع الحب والأمل…وعند المُنتجة هو يمثل المال والماديات، وعند الإعلامية هو يمثل النجومية والشهرة…وعند الممثل هو يمثل الفرصة…الخ

في الحقيقة لم يمانع الناس من التنازل عن مبادئهم في مقابل الحصول على ما يظنون أن الحمار سيقدمه لهم…متناسين بأنه مجرد حمار…فبخلاف الشخصيات، ومبادئهم إلا أن أبرز من جسد تلك المبادئ، هو شلبي الذي قام بدوره (أحمد محمد قديح) وهو ممثل يبحث عن فرصة للتمثيل حقيقية، وبعيدة عن التهميش، أو الأدوار الثانوية…فمن أجل ذلك قد قبل بدور حصان سعدة بن السواعد، الذي يقوم بدوره الحمار!…أي أنه قد قبل ليس فقط أن يُجسد دور حصان، بل يجسد دور حصان لحمار، وهو الإنسان!…مشهد يسلط الضوء على واقع مرير نعيشه طوال الوقت في ظل وعي الناس، الذي تحدد بسبب التطورات، التي أصبحت تُذهب عقولهم بانبهارهم بصرياً مُتلاهين عن الثقافة والوعي الصحيح…فالفكرة تُجسد القلائل، الذين يدافعون ويحاربون، ليرفعوا الثقافة في وجه التفاهة، التي أصبحت مسيطرة،  والغريب أن تلك التفاهة تصدرت المشهد العام في الواقع، وهي نابعة في الأصل من الناس عن اقتناع…فالناس هم من صنعوا من مجرد حمار نجماً كبيراً، وهو ما يجعلنا نفكر بشكل جدي حول أمور كثيرة، تحدث في واقعنا غير منطقية، لكنها تتصدر المشهد، لأن الناس تريد ذلك…وهذا يُحيلنا لمأمون الذي يجسد شخصيته (محمد ناصر) وهو مدير أعمال الحمار والذي بالمناسبة لم يرتدِ قناع الحمار طوال المسرحية، برغم ارتداء الجميع….يجعلنا ندرك ذلك أن من صنع نجومية هذا الحمار هو إنسان…والإنسان يدير أعماله، بل ويساعد في انتشار صيته برغم ذلك لم يرتدِ القناع، والمفترض له أن يكون مقتنعاً بمن يُساند، لكن هذا يجعلنا نسلط الضوء على فكرة مهمة جداً، وهي المعرفة و النُكران…فمأمون بتصرفاته تلك يدرك تماماً أنه مجرد حمار…لكنه يستغل الموقف لصالحه، ويصبح الحمار في يده مُجرد دمية، وكأنه هو من يحرك الناس جميعاً لا الحمار، لكنه في قرارة نفسه يتفق على أهمية الحمار الوهمية، وهو في النهاية إنسان، نستنتج من ذلك أن الإنسان يدرك تماماً ما يفعله ويدرك أيضاً ما يمجده، وما الذي يشهره، و يجعل منه ذا سعر برغم وضاعة وتفاهة ما يرفع من شأنه، لكنه يستمر في ذلك طالماً هناك مصالح يستفيد منها، لاغيًا تماماً ما تُعرف بالثقافة والأدب في قرارك نفسه، وهو ليس تقصيراً من الإنسان بقدر ما هو خلل في وعيه.

من الأشياء التي يُشهد لها في هذا العمل، هو إتقان معظم الممثلين لأدوارهم، فكان اختيار معظمهم  للأدوار جسدياً وأدائياً في محله…وكان الأداء معبراً عن صفات الشخصية سيكولوجياً أيضاً…ومن أكثر الممثلين إتقاناً لأدوارهم زُهرة، والتي لعبت دورها (رضوى شريف) والمدرس الذي لعب دوره (إڤرايم كامل) والعمدة الذي جَسَّدَهُ (عمر طارق) …والمنادي الذي لعب دوره (أحمد العمري)، كما أن فكرة جعل فتاة تجسد شخصية المنتج ــ والتي لعبت دورها (جنة أسامة) ــ كانت لفتة مميزة في نظري، لأن تلك المهنة متعارف عليها أن من يؤديها في الغالب رجال، ودور المُنتجة هنا أعطى مساحة للعنصر النسائي للظهور بقوة أولاً، ولأنه قد جذب انتباه المشاهدين ثانياً.

كان لِلِاستعراضات نصيب من الِاستحواذ على انتباه الجمهور، والتي صممها (أحمد عادل) فكان أول استعراض في بداية المسرحية، يؤديه الناس جميعاً احتفالاً بالأديب الكبير عم إبراهيم، من عارضوا الحمار في الأحداث، ومن أيدوه، وتلك إشارة على اقتناعهم من البداية بعنصر الأدب والثقافة، ثم انحرف سيرهم فيما بعد…وكان أول استعراض يؤدى بملابس أنيقة ومهندمة، وكان بلحن كلاسيكي على عكس الِاستعراض الآخر، بعدما اقتنع الناس بالحمار كنجم، وكشيء مهم في حياتهم، كان الِاستعراض الثاني عبارة عن أغنية تنتمي لنوع الراب، وهو ما يُشير للموسيقى الرائدة في هذا العصر، والتي قد أصبحت مسيطرة نوعاً ما على جميع الأصعدة، بغض النظر عن الرأي العام حولها، إلا أن تلك الموسيقى ــ والتي نفذها (إسلام علي) ــ متناغمة مع الكلمات والأداء، وكانت مُعبرة عن حالة الناس بعد قدوم الحمار، من خلال ملابسهم، التي أصبحت رثة ومهملة، ووجوههم، التي بدلوها برأس الحمار، فهي تعبر عن التيار الرائج، الذي يسير خلفه الناس، فيصبح موضة لسنوات…ضاربين بهذا مثالاً للواقع الحالي.

القضية التي تناقشها المسرحية مهمة جداً، لكن التنفيذ كان به خلل نوعاً ما في بعض المَشاهد والأفكار البصرية…فمثلاً الديكور الذي صممه (محمود صلاح) ونفذته (بسنت محمود) كانت رمزيته معبرة عن الفوضى والعشوائية، التي اجتاحت المسرحية…فالديكور مكون من مجموعة من العيدان الخشبية، متداخلة في بعضها البعض بشكل عشوائي، والأرض لم تكن بمستوى واحد مسطح، بل كانت بمستويات عدة عالية ومنخفضة غير مستوية، تعبيراً عن عدم استقامة تلك البيئة، التي تدور فيها أحداث المسرحية…وقد أعطى الديكور رمزية لحظيرة الماشية وبيئة الحمار، التي تملؤها الفوضى والهرجلة، وهو ما نبع من تصرفات أهالي المدينة في المسرحية، فقد نجح الديكور في تطبيع المعنى مع الممثلين لعرض الواقع…ولكن كان الديكور مُزدحماً جداً على عدد الممثلين، فكان يُعيق حركتهم في بعض المشاهد،  وأحياناً أُخرى يؤدي لِاصطدامهم به.

كانت الأقنعة مصنوعة بشكل مبتكر، والتي صممتها (رنا شامل) ولكن لم يكن الممثلون بحاجه لِارتداء قناع الحمار، لتأكيد فكرة أنهم أصبحوا مثله، بل كانت تصرفاتهم وحدها تكفي، ليُدرك الجمهور ذلك من بداية المسرحية، فعندما ظهر الحمار كان عنصراً بارزاً، لكن بارتداء الناس الذي يدعمونه قناعاً، غطت على بروز الحمار الأساسي، وجعلته متساوياً معهم بشكل بصري…وارتداؤهم للأقنعة أضاع من رمزية العرض كثيراً، وجعله مباشراً جداً للجمهور، مما يتعارض مع متعة القضية التي يناقشها، فهي قضية من المفترض لها لنجد حلاً، أن نفكر، ونحاول فهمها دون تلميحات صريحة.

كانت المسرحية تحمل العديد من المشاهد الزائدة، فهناك مشهد للفتيات فقط، تتجهز فيه زهرة (هدير عبد السلام)  ابنة العمدة للزواج من الحمار…كان المشهد بمثابة حشو للعرض، فلم يكن له داعٍ…وكان هناك استطالة في بعض المونولوجات…كما أن الكوميديا، التي اعتمد عليها العرض، كان ممكن أن تكون كوميديا مواقف، لا جمل و ردود، فتلك الجمل جعلت الكوميديا في العرض فجة بشكل كبير، وكان من الممكن للعرض أن يسير برتم كوميديا المواقف، كما حدث في خاتمة العرض، فظهر في النهاية الرجل الذي يجمع الورق ــ والذي لعب دوره (فادي رأفت)  ــ لبيعه، وفجر مفاجأة  في النهاية، عن أن هذا الحمار الذي دخل المدينة، لا يَمُتُّ للأديب عم إبراهيم بِصِلَة، وإنما هو حماره، الذي يبحث عنه، ورمى ببعض الجمل التي كانت معبرة جداً كـ “محدش شاف حمار بيقرأ؟…الخ) وكان بالنسبة لي ذلك النوع من الكوميديا، أفضل بكثير من النوع الآخر، المعتمد على تقنيات الردود السريعة التقليدية والمعتادة.

والإضاءة التي كانت من تصميم (باسل ممدوح)…تنوعت في الألوان ما بين الأحمر، الذي يعبر عن الدمار الفكري هنا، والأزرق الذي عبر في لحظة ما، عن برودة وسكينة سلبية ممزوجة ببعض الأمل في مشهد الفنان…وغيرها من الألوان، لكن تعقيبي على الإضاءة أنها لم تكن موفقة في بعض المشاهد، ولم تُعطِ مدلولها الرمزي بشكل واضح للجمهور، بل شعرت في بعض المشاهد أن الإضاءة لا معنى لها، وكأنها موضوعة في غير محلها…كما أنها لم تكن مواكبة لحركة الممثلين بشكل سليم، فأحياناً تسبق البؤرةُ الضوئيةُ الممثلَ، وأحياناً يسبقها هو…كما أن الكشافات الخلفية، التي تُضاء فجأة، لم تكن في الصميم، لأنها بدلاً من إنارة الممثلين، كانت تُضئ الخشبة بأكملها، فيخرج المُشاهد من حالة التلقي، التي يعززها المشهد له من البداية…كل ذلك أبرز غياب المعنى لمعظم المَشاهد.

أما بالنسبة للملابس التي كانت من تصميم (هناء أحمد النجدي) فقد جَسَّدَتْ بعض الدلالات، كارتداء المدرس للون الأبيض…وهو إشارة للتعبير عن مدى وضوحه وتمسكه بمبادئه، في ظل هذا الانفلات القائم، أما بالنسبة للون الرمادي، الذي اكتسح معظم الملابس، خاصة المؤيدين للحمار، يُعبر عن تقلبهم، فهم كانوا في البداية مؤيدين للثقافة والأدب، من خلال تمجيدهم للأديب عم إبراهيم، وعند ظهور الحمار، أخذوا يمجدون فيه متناسيين الثقافة والأدب والمنطق في أفعالهم، وهذا دلالة على عدم تمسكهم بمبادئهم.

ـــــــــــــــــــــــــ

★ كاتبــة ــ مصــر

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى